لماذا خرج اليسار من ثورات الربيع العربي أكثر ضعفًا؟
إن اعتقال “لويزة حنون” زعيمة حزب العمال الجزائري الذي يتبنّى الأفكار اليسارية التروتيسكية، بجانب رموز النظام الحاكم السابق في الجزائر بتهم التآمر ضد سلطة الدولة والمساس بسلطة الجيش، كان يمكن أن يمر باعتبار أن فساد الأحزاب في فترات ما قبل الثورات هو شائع وجائز في غالبية الأحزاب خصوصًا إذا كانت متماهية مع الأنظمة التي ثار عليها الشعب، لكن أن يكون هذا الحزب يساريًا ويحمل تاريخًا نضاليًا طويلًا وممتدًا وعلى رأسه شخصية نضالية بحجم “لويزة حنون”، فهنا يجب أن نقف ونقول ماذا حدث؟
وفي السودان ومع بدايات الحراك الشعبي ضد نظام البشير منذ نهاية العام الماضي وحتى سقوطه بدا أن صعودًا للتيار اليساري والشيوعي قد أصبح لافتًا للمتابعين، وأصبحت شعارات اليسار جاذبةً للشارع وللشباب، لكن مع توالي الحوادث بعد عزل البشير فقد أصبح التراجع السمة الأساسية لصالح قوى غير محددة الملامح والاتجاهات الأيديولجية كقوى “التغيير” التي ينضوي تحت لوائها أطياف متعددة، ومع ضغط واضح من شارع الإسلام السياسي الذي وصف الثورة كمحاولة شيوعية لخطف السودان الإسلامي ويبدو أن هناك في دائرة الحكم من يساعد في هذا الاتجاه. وخفت صوت اليـسار السوداني. لماذا؟
وفي عودة للوراء قليلًا ومع بدايات الربيع العربي في تونس ومصر كان اليسار وشعاراته هي المحرك الأول لحركة الشارع، وهو ما جعل اليسار يشعر وكأنه يحرك الأحداث والقادر على إعادة ترتيب الأوضاع في مرحلة ما بعد الثورة، وقد كان هذا وهم كبير يضاف إلى أوهام اليسار الكثيرة، فلم تكد تمر الشهور حتى وجد اليسار أنه ليس الحاكم أو الفاعل الرئيسي في الأحداث وأن هناك من يستغل شعاراته لتمرير أجندة معينة لم يكن من بينها وجود اليسار كفاعل أساسي في ترتيبات مرحلة ما بعد الثورة؛ ولهذا نجد أن اليسار المصري اختفى سريعًا من المشهد كتنظيم موحد وظهرت فعاليات محدودة له، ولكنه في النهاية اختصر في شخوص معينة عبرت عن نفسها بقدر ما عبرت عن تيار اليسار بعامه، وحدث مثل ذلك في تونس بل تطور الأمر إلى قتل القيادي اليساري الكبير “شكري بلعيد” ليعلن أن تراجع اليسار في كلا الدولتين لصالح تحالف اليمين والسلطة حتى إشعار آخر.
ما الذي حدث لليسار العربي؟ ولماذا هذا الانكفاء الذي يقوّض حيوية اليسار ؟
لا يمكن فهم ما حدث لليسار العربي إلا إذا توقفنا عند مراحل تطور اليسار خلال الفترة الممتدة منذ فترة التحرر الوطني في خمسينيات القرن العشرين وحتى الآن، وسنأخذ اليسار المصري كمثال للتدليل على ما حدث لذلك التطور. فهناك خمس مراحل أساسية شكلت النهاية المأساوية التي يعيشها اليسار الآن.
المرحلة الأولى:
وهي المرحلة التي تعتبر المرحلة الذهبية لليسار المصري، وهي التي كانت قبل التحرر الوطني حيث وجد اليسار من المساحة الحركية والانتشار داخل المجتمع ما جعله يعتقد بإمكانية تغيير الأوضاع الملكية الإقطاعية، ولكنه فوجئ بهجوم مضاد من القصر الملكي وتيار الإسلام السياسي الوليد المتعاون معه جعله يفقد مساحات لكنه لم يفقد توازنه، حتى قامت حركة يوليو 1923 والتي كان اليسار ببعض الضباط المنتمين له حاضرًا فيها ولكن على المستوى الأيديولوجي لم يكن له اليد العليا.
المرحلة الثانية:
وتلك المرحلة مثلت الجانب الأعظم تأثيرًا في اليسار المصري، حيث دخل اليسار في صدام مبكر مع السلطة الجديدة ممثلًا في ضباطه في حركة يوليو 1952 -خالد محيي الدين مثالًا- والتنظيمات اليسارية وامتداداتها على الأرض، حيث تصادمت الرؤى والأفكار الأممية لليسار مع الأفكار القومية للنظام الجديد والتي كان يراها أفكارًا يمينية لا تحقق أهداف الشعوب؛ وهو ما عجّل بسقوطه بين براثن تحالف السلطة مع الإسلام السياسي وزجّ به إلى غياهب السجون، ذلك التحالف الذي سرعان ما انفكّ عُراه ولحق الإسلام السياسي باليسار في غياهب السجون أيضًا. وقد عبر الرئيس “عبد الناصر” عن تلك المرحلة بقوله: “إن الشيوعيين عندهم أفكارًا جيدة لكني اختلف معهم في أمرين، الأول: موقفهم من الدين، والثاني: الأممية التي تتجاوز الوطنية”.
ولكن حدث تطور لافت داخل السجون؛ حيث حدثت نقاشات بين التنظيمات اليسارية بجميع أطيافها فيما يمكن أن نطلق عليها “المراجعات الفكرية ” والتي كانت من نتائجها أن انضمت تنظيمات يسارية وشخصيات لها صقلها في اليسار إلى التنظيم السياسي لنظام يوليو 52 “الاتحاد الاشتراكي”، وهو ما مكنهم من تولّي وزارات داخل النظام الناصري. وكانت حجتهم أمام من رفض من اليسار الانضمام إليهم أن نظام الرئيس “عبد الناصر” حقق جزءًا كبيرًا مما كنا نحلم به وأننا بانضمامنا إليه نستطيع تغيير نظامه من الداخل لصالحنا، وكان هذا أكبر انشقاق وأكبر وهم في تاريخ اليسار المصري سيظل يعاني منه حتى النهاية.
المرحلة الثالثة:
وهي التي بدأت مع تولي الرئيس “السادات” الحكم والذي دشّن لمرحلة جديدة في التعامل مع اليسار الذي ظن واهمًا أنه قادر على ترويض الرئيس الجديد بعد رحيل “عبد الناصر” القوي الذي استطاع لجمه بالتعاون مع الإسلام السياسي في البدايات، وكانت حجة اليسار في ذلك أنه بعد أن فرغت الساحة من تيار الإسلام السياسي القابع في السجون منذ عهد عبد الناصر، فقد أصبح قوة كبيرة تحرك الشارع والطلبة والعمال وقد كانت مظاهراتهم قبل حرب أكتوبر 73 اختبارًا صعبًا لرئيس لا يجد غير فصيل سياسي واحد قادر وفاعل ولا يقف إلى جانبه، مع انتصار أكتوبر 73 تغيرت الأوضاع وأصبح السادات قويًا يمتلك شرعية جديدة ولكن ينقصه فصيل سياسي يسيطر به على الشارع ويحجم تنامي اليسار والقوميين.
فكان أن أعاد إنتاج حالة الإسلام السياسي الذي أطلق سراحه من السجون بل وشارك في صنع فصائل جديدة، وما هي إلا سنوات معدودة حتى بدأ انحسار اليسار تحت وطأة تحالف السلطة وتيار الإسلام السياسي، وكان من نتيجة ذلك انقسام آخر لليسار لا يقل خطورة عمّا حدث أيام “عبد الناصر”، فقد ظهر فصيل يساري يقول بمبدأ توفيقي جديد يجمع ما بين الأفكار اليسارية والأفكار الدينية فيما عُرف بـ”اليسارية المؤمنة”.
لم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل إن كثيرًا من شباب اليسار انضموا إلى تيار الإسلام السياسي الأكثر راديكالية مثل: عاصم عبد الماجد، وعصام دربالة -اللذين ينحدران من أصول يسارية واللذين انضما إلى الجماعة الإسلامية- وكتبا فيما بعد بحثًا بعنوان “القول القاطع فيما امتنع عن الشرائع”، والذي دشّنا فيه ما عرف بسياسة “كنس السلم” من أعلى والتي أدت إلى العنف ضد الدولة. وعلى الرغم من تحول اليسار بجميع أطيافه إلى حزب سياسي “التجمع الوحدوي” إلى أنه قد فقد كثيرًا من الدماء والحيوية جعلته مع نهاية عصر السادات منهكًا لدرجة كبيرة.
المرحلة الرابعة:
والتي شكلت صعودًا كبيرًا لظاهرة الإسلام السياسي على مستوى المنطقة العربية والعالمية والتي لعب فيها هذا التيار دورًا كبيرًا في تشكيل سياسات عبر تحالفات مع أنظمة محلية وعالمية، وتلك الفترة بدأت في نهاية عصر السادات لكن شهدت أوجها في عصر “حسني مبارك”. وهذه الفترة شهدت تراجعًا كبيرًا لليسار بعدما اعتمد نظام “مبارك” على إطلاق يد الإسلام السياسي في الشارع عبر سياسة “الحكم لنا والشارع لكم”، والتي كان من نتيجتها أن تقلصت مساحة اليسار أكثر فأكثر تاركًا الساحة أمام تحالف السلطة وتيار الإسلام السياسي وأصبح لا حول له ولا قوة.
على الرغم من ظهور أحزاب كثيرة تنضوي تحت الفكر اليساري، ولكنها جميعًا ليس لها وجود مؤثر على أرض الواقع، مما جعل معظم الأحزاب اليسارية ورموزها الحزبية تتماهى مع النظام الحاكم لعل وعسى تقاوم التراجع المخيف لشعبية اليسار في الشارع المصري. ومع نهاية عصر “مبارك” وفي أحداث المحلة الكبرى 6 إبريل 2008 والتي كانت إيذانًا بنهاية نظام مبارك ظن الجميع أنها عودة قوية لليسار ولكن للأسف كانت لا تعدو كونها تدشينًا لقوى جديدة من الشباب استطاعت بعد أقل من ثلاث سنوات أن تتطيح بمبارك ونظامه.
المرحلة الخامسة:
وهي المرحلة الحالية والتي تلت ثورات الربيع العربي حيث يعاني اليسار المصري من عوارض الانقسامات التي حدثت بعد ثورة يوليو 52 ونظام الرئيس “عبد الناصر”، والانقسامات والانشقاقات التي تمت في عهد “السادات” تحت وطأة تحالف السلطة وتيار الإسلام السياسي التي وصلت إلى الحد أن ينضم شباب اليسار إلى تيار الإسلام السياسي في ظاهرة لم يجد لها أحد تفسيرًا حتى الآن وأصبح سؤال “لماذا يتحول اليساريون إلى تيار الإسلام السياسي دون غيره من التيارات الفكرية الأخرى؟” سؤالًا بلا إجابة إلى يومنا هذا.
وكذلك فترة التماهي مع السلطة الحاكمة أيام مبارك والتي شهدت تضييقًا كبيرًا عليه من أجل البقاء على الساحة واعتبار هذا التماهي نوعًا من المقاومة ضد تيار الإسلام السياسي. كل هذا مغلف بغياب طويل لليسار عن الشارع المصري نتيجة فقر تمويله والذي حد من حركته واكتفائه بترديد وترويج شعاراته فقط والتي كانت لا تسمن ولا تغني من جوع أمام نشاط اجتماعي واسع لتيار الإسلام السياسي الذي يحمل الملايين والمليارات التي مكّنته من الاستحواذ على مساحة شاسعة من الشارع المصري؛ مكنته في النهاية من ترويج أفكاره وأيديولويجيته جعلته في صدارة المشهد بعد ثورات الربيع العربي.
بعد هذا السرد للمراحل الخمسة يطفو على السطح تساؤل “أين اليسار الآن؟”
الإجابة محزنة أن اليسار الآن يُستخدم كمبرر أيديولوجي للصراع بين السلطة الممتدة منذ حقب قديمة وتيار الإسلام السياسي الذي تجرّأ على تخطّي قواعد اللعبة المستقرة منذ سنوات طويلة، فنرى السلطة في الجزائر تقدم رئيسة حزب العمال اليساري للمحاكمة ليس كنهاية لفترة تعاون بينهما بل إرضاءً ومغازلة لتيار الإسلام السياسي الذي تريد السلطة من خلال ذلك منع الصدام معه كما في العشرية السوداء في تسعينيات القرن الماضي.
وفي السودان نرى سلطة المجلس العسكري الانتقالي تقول بأنها رفضت مقترحات قوى التغيير ويصر أن يجعل من الشريعة الإسلامية مبدأً أساسيًا للتشريع، ليس حبًا في الشريعة ولكن لمغازلة تيار الإسلام السياسي وتحجيمًا لدور اليسار وقوى التغيير الذين أطاحوا بنظام البشير.
اليسار يعاني جراحًا عميقة أقعدته على فراش الموت في فترة تاريخية مفصلية، وتحول لمجرد شخوص تظهر هنا وهناك على كامل مساحة الوطن العربي وهي رموز لا تعبر في كثير من الأحيان إلا عن نفسها، وشباب اليسار حائر لا يجد إجابات واضحة عمّا يجري أمامه من أحداث.
هل يعود اليسار إلى مكانته الطبيعية داخل منظومة الأفكار داخل المجتمع مرة أخرى؟ على المدى القريب أشك!