المقاومة الاجتماعيّة والثقافيّة التي أفرزتها المدرسة الحديثة لدى المجتمع القرويّ المغربيّ
شكلَّت المدرسة الحديثة في العالم القرويّ مجالًا غنيًا للدراسات السوسيولوجيّة القرويّة لما عرفته هاته الاخيرة من تحولات اجتماعيّة وثقافيّة صبَّت في المجتمع البسيط القرويّ الذي يشكل نسبة كبيرة من الشريحة المغربيّة، باعتبار الإنسان القروي ذي صبغة محافظة، ومقاومته الاجتماعيّة والثقافيّة تجاه المدرسة الحديثة، ويطرح الاشكال التالي: أين تجلّت المقاومة الاجتماعيّة والثقافيّة لدى الإنسان القرويّ حين تم إدخال المدرسة الحديثة في عمق مجتمعه؟
عرف المجتمع القرويّ المغربيّ مجموعة من التحولات الاجتماعيّة التي مسّت بنياته الثقافيّة وعاداته وتقاليده التي نشأ عليها بسبب مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية التي حاولت زعزعتها وضربها عرض الحائط، ومن أهم العوامل التي ساهمت في المقاومة الاجتماعيّة والثقافيّة هو إدخال المدرسة الحديثة التي رُفِضت بسبب أنها تمس البنيّة الثقافيّة المركبة لدى الإنسان القروي، وتعارضه مع المدرسة الحديثة أفرز لنا تضارب فكريّ قيميّ اجتماعيّ ثقافيّ، بين المدرس”المعلم” و فقيه المسجد، باعتبار هذا الأخير له قدسيته داخل العالم القرويّ وأن المدرسة جاءت بقيادة الأستاذ لتحل مكان الفقيه.
ومن الجدير بالذكر أن الأستاذ الذي غالبًا ما يكون قادم من المجال الحضريّ يجد منافسة من قبيل الفقيه، وأما عدم التفاهم اللغويّ بينه وبين التلميذ فينتج عنه تنافر وتباعد بينهما، فمثلًا ينتج عن نبرة الصوت المرتفعة من القرويّ سوء تفاهم بين الطرفين، فالمدرس يعتبر نفسه مهمشًا لأنه يعيش ويعمل في ظروف جدًا صعبة، في غياب تام لوسائل العمل الكافية والكفيلة بإنجاح دوره الاجتماعيّ والتعليميّ، وإنه يشكو ضعف مستوى التمدرس والظروف القاهرة التي تحول دون ذلك، كما ينتقد المقررات والبرامج لعدم انسجامها مع المعطى الاجتماعي الثقافي لهذا الطفل المتمدرس، وهشاشة الأعداد بمراكز التكوين الذي لا يمده بالأسلحة النظريّة والمنهجيّة التي تمكن من اختراق الوسط القرويّ والانفتاح عليه وتفعيله.
وفي ظل هذا الصراع يجب أن لا ننسى دور الاستعمار الكوليانيّ الذي له أثر كبير في التمزق والنزاع الثقافيّ دى العالم القرويّ في المجتمع المغربيّ، ونجد أيضًا أن المدرسة الحديثة ساهمت بشكل كليّ أو جزئيّ في إدخال ثقافة الغرب من المسلسلات الأجنبيّة التي أثرت على الإنسان القرويّ في لغته وتعامله مع الأستاذ، وإدخالها بعض الكلمات المقتبسة من المسلسلات كنوع من سلم الرقيّ الاجتماعيّ.
ومن الملاحظ أيضًا إرسال الأسر القرويّة الذكور للمدرسة أكثر من الاناث بسبب التكاليف الماديّة أو التحفظ غير اللازم الذي يقصي الأنثى من حقها في التمدرس. وأصبح المتمدرس القرويّ ينظر إلى المدرسة على أنها مكان لضمان العمل مع “الدولة” مزيلًا الطابع الثقافي، وتصبح وضعيته أكثر تدهورًا وخيبته أكبر في تحقيق طموحاته وأحلام أسرته التي تعلق على تعلمه آمالًا كبيرة، اذ تعترض طريقه عقبات عديدة منها ما يرتبط بالظروف الماديّة، ومنها ما يرتبط بالشروط القيميّة الثقافيّة التي تجعل منه تلميذًا وعاملًا في الوقت نفسه.
ومن هنا نسجل أن التصورات التي يحتفظ بها القرويّ للمدرسة نتيجة لهذا الواقع تشوبها ظاهريًا التباسات سافرة، ففي الوقت نفسه الذي تمثل فيه هذه المؤسسة معطى إيجابي لأنّها تحمل معرفة عصريّة مفيدة للمتعلم و تؤهله لعمل أو وظيفة ما، فهي معطى كله سلبيات حينما تتوقف عن ذلك و ﻻ تعمل إﻻ على تحويله إلى فلاح قرويّ فاشل.
إن المدرسة اذًا ليست سوى ممر دنيويّ أو وسيلة للعبور إلى الوظيفة التي من شأنها تحسين الشروط الاقتصاديّة والاجتماعيّة للأسرة، لذلك فعجزها عن توفير العمل هو مؤشر خطير على أزمة التعليم وتراجع قيمتها الوظيفية. وفي هذا الاتجاه فإنّنا نفهم قوة الماضي و توجهه لدى هذا القروي الذي يستحضره باستمرار على أنّه يعكس توهج المدرسة نفسها، لذلك تتوقف ذاكرته عند محطات كثيرة، وعند كل سؤال تقفز إلى الوراء لتستحضر شهادات منه.