القارئ السيئ: حين تُصبح الفوضى مشروعًا للتأويل

ليست القراءة حدثًا محايدًا، ولا عملية تقنية تقاس بمدى الاقتراب من «المعنى الصحيح»، بل فعلٌ تأويليّ مركّب، يضطرب بالذات مثلما يتقاطع مع النص. في كتابه «في مديح القارئ السيئ»، لا يكتفي ماكسيم ديكو بنقض صورة القارئ المهمل أو اللامبالي؛ بل يزعزع المبدأ المؤسس لما يسمى «القراءة الجيدة». ويطرح سؤالًا مقلقًا: هل تخضع القراءة لمعيار موحّد أصلًا؟ أم أن كل قراءة، مهما انحرفت، تكشف عن شكلٍ ما من المعرفة؟
بأسلوب لا يخلو من التهكّم، يفتّش ديكو في الهامش، حيث القارئ المنعزل، المهووس، العاطفي، المتمرّد، ذاك الذي لا ينصت لما يتوقّعه النص، بل يفرض عليه منطقه الشخصي، أو كما يقول: «القارئ السيئ هو القارئ الذي لا يتبع، سواء في فكره أو انفعالاته وعواطفه، نفس المنطق الداخلي الحميم للنص».
هنا لا تعود القراءة فعل فهم، بل فعل خيانةٍ خلّاقة، قد يكون أصدَق من الطاعة، وأكثر خصوبة من التلقّي المنضبط. ولعل السؤال الذي يطرحه ديكو –ضمنًا– أعمق مما يبدو: هل نحن بحاجة إلى معيار للقراءة؟ أم إلى فسحة للفوضى التي لا تجيد سوى أن تكشف، حين تعجز الدقة عن التفسير؟
حين ينكسر النظام بين القارئ والنص
يحفر ديكو في الذاكرة الثقافية التي شيطنت القارئ السيّئ منذ القرن السابع عشر، بوصفه خطرًا أخلاقيًا واجتماعيًا: القارئ المنعزل، المتماهي، المتورط؛ ذاك الذي تحوّل إلى مريض أو هالك لأنه انغمس في النص أكثر مما ينبغي. بيد أن ديكو لا يقدّم مجرد سرد تاريخي، بل يفتن القارئ بأسئلته المربكة: «ما الذي يحدث في العلاقة القائمة بينك وبين العمل حين يتعطل النظام، وحين لا يستجيب القطب الأكثر تطلبًا (أنت) لمتطلبات واحتياجات القطب الأكثر ثباتًا (النص)؟».
بهذا الطرح، يوسّع ديكو مفهوم القراءة السيئة ليشمل كل قارئ لا يذعن «لما يتكهن به النص»، بل يبقي على انفلاته الذاتي، سواء عن جهل أو عن شغف. وهنا تستعاد نبوءة بروست القديمة: «كل قارئ هو، حين يقرأ، قارئ نفسه»؛ حيث تتحول القراءة إلى مرآة داخلية، لا إلى محاكاة مخلصة. ويعلّق ديكو على ذلك قائلًا: «ما عاد الأمر متعلقًا بمحاكاة النص وتقليده، وإنما صار منصرفًا إلى إسقاط أفكارنا عليه، هذا إن لم نقل إلى تشويه معالمه».
إعلان
في هذا السياق، يصبح القارئ السيئ ليس معيقًا للفهم؛ بل ضيفًا غير مرغوب فيه على مائدة المعنى. «كثيرًا ما يؤخذ القارئ السيئ على أنه الشخص الذي لا يقرأ كما نقرأ نحن (معشر القرّاء العاديين)»؛ ولكنه في واقع الأمر يمارس شكلًا من التأويل الإبداعي: هو قارئ لا يقرأ النص فقط، بل يعيد تركيبه من جديد.
عن القراء الذين يبتكرون طرق الهروب
يرى ديكو أن القارئ السيئ ليس كسولًا بالضرورة، بل «فاعلٌ يتخذ من التلقي ساحة للعب، وللمناورة، وللاستيلاء». بل إنه يذهب إلى وصف القراءة السيئة بأنها «قراءة تبتدع ألف طريقة وطريقة، فهي تعمل وتناور وتستولي وتسلب وتنهب وترخي العنان لنفسها». إنّها، بعبارة أخرى، تمرّد مقنّع على أعراف الفهم، وأحيانًا: تفخيخ لسلطة النص.
في الفصل الثالث، يقدم ديكو تصنيفًا ثلاثيًا لأنماط القارئ السيئ: القارئ الفتيشي، الذي يقدس عبارة واحدة يعلّق عليها كامل وجدانه. والقارئ الكاره، الذي يقرأ بنية التهكم أو الازدراء. والقارئ المرآة، الذي يطلب من النص أن يعكس ذاته لا أن يواجهها. هؤلاء ليسوا قرّاء مشوّهين، بل شركاء — وإن كانوا عصيّين — في تشكيل «النص الشبح»؛ أي ذلك النص الذي يولَد من التفاعل الفوضوي، أو العاطفي، بين القارئ والنص.
لكن هذه اليوتوبيا القرائية لا تخفي ارتباكها: هل كل قارئ سيئ هو بالضرورة محرّك للمعنى؟ ألا يمكن أن تكون القراءة الفوضوية أحيانًا شكلًا من التعمية، والانفعال المفرغ من أي طاقة تأويلية؟ وهل النزعة الفردانية في التلقّي – حين تنفلت من أي ضابط معرفي، تهدّد النص بفقدان معناه بدلًا من تحريره؟ أليس بعض القرّاء السيئين، كما يقرّ ديكو، يقرأون لا كما يخطئ النص، بل كما يخطئون فيه؟ إذ «يبوّئون ذاتيتهم موقعًا مهيمنًا»، فتغدو القراءة سيرة ذاتية لا لقاءً، وهوسًا لا اكتشافًا.
حين يوقعك النص في كمائنه
يذهب ديكو أبعد من مساءلة القارئ، ليشير إلى مسؤولية النص نفسه عن فوضى التلقي. فبعض الأعمال، برأيه، «تطوّر آليةً تحولك إلى قارئ سيئ»، خصوصًا تلك «الروايات البوليسية والقصص المضللة التي تسقطك في شراكها». النص، في هذه الحالة، لا يريد قارئًا يقظًا يحلّ شفرته، بل مندهشًا، مأخوذًا، متورّطًا. «القارئ الجيد، ذلك الذي يفطن إلى ما حاكه له الكتاب من مكائد وكمائن، شيرلوك هولمز النصوص، غير مرحّب به».
وهذا التفكيك الذكي لفكرة «القراءة النموذجية» يفتح بابًا على ما يسميه ديكو بـ«القراءة الباثولوجية»، حين «يطارد القارئ أطلال ماضيه بإعادة قراءة النصوص وتمزيق أوصالها». إنه قارئ في حالة وجدانية مفرطة، يقرأ لا ليعرف، بل ليسترجع – لا النص، بل طفولة القراءة.
هل توجد قراءة صحيحة؟
في الفصل الرابع، يوجّه ديكو ضربة أخرى إلى بديهيات التأويل حين يسأل: «ماذا لو لم يكن دون كيخوته مخطئًا؟». ماذا لو كانت القراءة التخييلية، الغارقة في التماهي، ليست خللًا بل تمظهرًا للحب أو تمثيلًا لفعل الخلق؟ في هذا المنظور، لا تكون القراءة الصحيحة ضرورة معرفية، بل مجازًا سلطويًا.
«القراءة السيئة التي لا تسلم جبينها لما استقر عليه من الأعراف والتقاليد، هي كل شيء عدا أن تكون قراءة سلبية؛ إنها قراءة تبتدع ألف طريقة وطريقة، فهي تعمل وتناور وتستولي وتسلب وتنهب وترخي العنان لنفسها». وبهذا المعنى، فإن القارئ السيئ يُعيد تعريف السلطة داخل النص: لا كامتثال لبنيته، بل كقدرة على إنتاج فائض دلالي غير متوقّع.
وبينما يرى النقد التقليدي في مثل هذا القارئ تهديدًا لفهم النص «كما يجب»، يسأل ديكو: «ما الذي يخولّك أن تصرّح أنك قرأت هذا النص جيدًا؟». هل هو التأويل الصائب؟ أم انفعالك المشحون الذي يحرّف النص ويشوّهه؟ أليست كل قراءة، مهما بلغت دقتها، معرضة للوقوع في سوء الفهم؟ وبتعبير آخر، فإن «القراءة السيئة لا يمكن اختزالها إلى مجرد قراءة أخطأت غايتها. وإنما هي قراءة تقتفي سُبلًا ملتوية، وعديمة القيمة وحقيرة الشأن، والتي غالبًا ما يستهان بقواها الخلّاقة».
القراءة كحالة وجودية
قراءتي لكتاب “في مديح القارئ السيئ” لم تكن نظرية محضة، بل تجربة وجدانية مكثفة. وجدتُ في دفاع ديكو عن القارئ المنفلت عزاءً، وفي انحيازه للانفعال نافذةً على ما يمكن أن تكونه القراءة حين تنفصل عن العقل التأويلي، وتتصل بالوجود ذاته. ولذلك، فإن مراجعتي له ليست تفنيدًا، بل امتدادًا لتأثيره. الكتب التي تحرّك فينا هذه المسافة المربكة بين الحبّ والسؤال، بين الانفعال والشك، هي – في الغالب – الكتب التي تستحق أن تقرأ، ثم تساءل.
ولكن، في المقابل، تظل الحاجة قائمة إلى ضبط السؤال: ما المكاسب التي يغنمها القارئ والنص من القراءة السيئة؟ ولماذا نقرأ بشكل سيئ في حين نعرف القراءة الجيدة؟ على من يعود ذلك بالربح؟ النص؟ أم القارئ؟ أم الأدب نفسه؟ وهل تُنتج القراءات المنفلتة فعلًا معرفة جديدة؟ أم تعيد تدوير الذات داخل نصّ لا تُصغي إليه أصلًا؟
في الختام: قارئٌ لا يقرأ كما نقرأ
لا يمنح ماكسيم ديكو صكَّ غفرانٍ عشوائيًا لكل من يسيء القراءة؛ بل يهزُّ البنية التقليدية لمفهوم «القراءة الجيدة»، ويعيد ترتيب علاقات السلطة بين النص ومتلقيه. لا يدعو إلى الفوضى بوصفها بديلًا للطريقة؛ بل بوصفها احتمالًا آخر للفهم. فبين قارئٍ يتقمّص -كـ«دون كيخوته»- شخصيات الكتب التي قرأها، وآخر يقارب النص كقاضٍ يزن الكلمة بمكيال التأويل، وثالثٍ يقطع المتن كما الحرفي الفوضوي، تتّسع المسافة لتشمل قرّاء لا يقرؤون كما نقرأ، ولا ينصتون كما ننصت. ولكنهم، رغم كل شيء، يعيدون صياغة المعنى من رماده.
فالقراءة التي نحسن بها الإصغاء لا تقل شأنًا عن القراءة التي نخطئ بها الطريق؛ إذ ليست القراءة الجيدة تلك التي تفسِّر كل شيء، بل التي تربكنا بسؤالٍ حقيقي:
هل قرأت النص حقًا؟ أم قرأت نفسك فيه؟
وهل كان ذلك انحرافًا عن المعنى؟ أم شكلًا آخر من أشكال الإخلاص له؟
المصادر: كتاب في مديح القارئ السيئ الصادر عن دار صفحة سبعة عام 2022، تأليف: مكسيم ديكو، ترجمة: جلال العاطي ربي.
إعلان