“الفيلسوف المصري إبيور صاحب النزعة العدمية وثاني فيلسوف في التاريخ
“إلى من أتحدث اليوم؟ الأخوة الأشرار، يخدع بعضهم بعضًا. إلى من أتحدث اليوم؟ قلوب جشعة، وكل امرىء يغتال متاع جاره. إلى من أتحدث اليوم؟ لقد اختفى الرجل الشريف من الظهور، بينما يعيش الباقي المتعجرف فائزًا مظفرًا. إلى من أتحدث اليوم؟ في الوقت الذي يجب فيه أن يثير سلوك المرء سخطًا نراه يبعث السرور أيضًا، وفي الوقت الذي يستحق السارق والظالم والمستبد الجلد بالسوط نراه يكافأ بالثروة والشهرة.” -إبيور
هذا قول فيلسوف العدمية الأول في التاريخ “إبيور” وهو ثاني فيلسوف مصري بعد بتاح حتب، رغم أنهُ لم يتحدث حول أنّه فيلسوف أو حكيم في برديته المعروفة باسم “حوار بين إبيور ورب الجميع” إلا أنه كان يعبر عن سخطه واستيائه تجاه أحوال الدولة وتدهور الحضارة، فوصف معاناة مصر القديمة والفوضى والمجاعات التي حلّت بها في عصر الملك بيبي الثاني في أجواء أول ثورة شعبية في تاريخ العالم، ونتج عنها عدم استقرار الحكم لينتهي الأمر إلى استقلال المقاطعات، وإشعال فتيل الحروب الأهلية والثورات الاجتماعية المتعاقبة.
لكن من الطبيعي أن يظهر في وسط أحداث الفوضى والانهيار فيلسوف متشائم، مثلما ظهر شوبنهاور في عصر نابليون وكامو وسارتر في الحرب العالمية الثانية، والفرق الأكبر هو أن إبيور كان أمامه أول ثورة في التاريخ، فهو لا يستطيع توقع نتائجها بالاحتكام إلى ثورة أخرى، ولا يعرف الطريقة الأفضل لتحقيق الأمن، ولا يملك أي تخيل لمستقبل الدولة، فمن الطبيعي أن يشعر بالغرابة في تلك الأجواء.
انتشرت الفوضى ١٥٠ عامًا واختفى الأمن والأمان، وكان الشر يدق كل الأبواب بسبب ثورة الفقراء على الأغنياء وسخطهم عليهم، فدمروا كل توابيت ومباني الأغنياء، وتقهقرت أوضاع البلاد وأصبح الفقير غنيًّا والغني فقيرًا.
⁃ هكذا تكلم إبيور :-
وقف إبيور يخطب ببلاغة أمام الملك بيبي الثاني عن سوء حال البلاد وانحطاط حال العباد. فكان فيلسوفًا لا يخشى أحدًا ظالمًا كان أو هلجامة، ويقول للملك :- “إن ما تشهده البلاد كان من بعض نتائج الاضطراب الذي زرعته يداك وسط السجن والجلبة، ولذا ترى الناس اليوم يلجأون للعنف بعضهم ضد البعض الآخر”.
إنه فيلسوف نحتاجه في كل زمانه، لشدة اهتمامه بحال عصره وحبه للفداء والشجاعة، وختم قوله قائلًا : “لقد كذبوا عليك، فالبلاد تشتعل كالقش والناس على شفا الهلاك، وهذه كلها سنوات حرب أهلية، فالرجل أصبح يقتل ولو على سطح المنزل. ليتك تذوق بعض هذا البؤس بنفسك وعندئذٍ يمكنك أن تقول”.
⁃ النزعة العدمية عند إبيور :-
“من الأفضل أن تنتهي حياة البشر، فلا حمل ولا ولادة إذا لم يقدر للأرض أن تتوقف عن جلبتها.”
لقد عم الحزن البلاد من أقصاها إلى أقصاها، والناس يستغيثون ولا معين، لقد هانت الحياة على الناس، يقول الكبير : “ياليتني مت قبل هذا”، ويقول الصغير: “يا ليت أمي لم تلدني”، في هذا النص تظهر عدمية إبيور، فهو ذكر أمورًا تدل على انعدام الإحساس بالمعنى وقيمة الوجود.”
إنه رجل من طبقة أرستقراطية ومن الواضح أنه كان يعمل في الخزانة أو مكان خاص بالدولة ولكن هذا لا يهم لكثرة الاختلافات فيه بين الباحثين ولأن المصدر هو البردية التي لم يُذكر فيها سوى خطابه عن أحوال البلاد.
حبذ إبيور الموت في سبيل أنه يرى أن الشعب في خطر، ويجب معاقبة الشرير من كل المحيطون به، ففضل الانتحار والموت عن العيش وسط الأشرار. فالعدمية عنده تقتصر على الفوضى التي تؤدي إلى غياب المعنى في الوجود بما فيها من تفكك اجتماعي، وانهيار سياسي، وغياب القوانين الاجتماعية والمعايير والأخلاق، وعدم اهتمام الحاكم بمشاكل شعبه، وشك العامة في الخير والشر والإله.
⁃ إبيور والرب:-
“لا سلطان لمن في السماء على الأرض، والأرض لمن يحرثها، حتى لقد اضطر رجال الدين وما تبقى من الأغنياء من الهجرة خارج البلاد.
كل سنة تكون أكثر همًا من السابقة لها، والأرض تصبح بورًا ويفسد الناس وتنتهك حرمات الآلهة”.
هذا النص يوضح مدى اقتناع إبيور بأن وجود الإله أو عدمه لا معنى له، بعد انتشار الفرضي وعدم سخطه وإيقافه لهذا الظلم، وهذا يؤكد أنه لا أدري فهو ينتظر قرار من الإله ليؤكد إيمانه ورغم ذلك لم يأتِ هذا الغضب الإلهي وعمت الفوضى، وتم التمرد على الدين والرب والحاكم والتقاليد.
فمن الواضح أنه لا يقدس الحاكم ولا يعتبره ظل الإله على الأرض؛ لأنه عنف واتهمه بأن تجاهله للشعب هو سبب الخراب. وإن إيمانه النسبي بالإله الواحد يعتمد على نتائج هذا الإيمان في الواقع، لأنه مدرك أنّ الإيمان ركن أساسي لاكتمال النظام الاجتماعي والأخلاقي السائد في زمنه بجانب القانون والتربية والضمير والواجب، وينتظر من الإله رد فعل لما يحدث في الأرض، وبغير ذلك لا يعتبر إبيور الإله موجود أو هناك قيمة لوجوده من عدمه.
ولكن تمسكه بوجود إله يظهر في هذا النص وهو الأهم والذي يوضح تصوره للإله: “ينزل هذا الرائد بردًا على لهيب الظلم، فإذا تاهت الناس وامتلأت قلوبهم بالخوف فإنه يقضي الفترة تلو الفترة يجمع شملهم ويلم شتاتهم، ويضرب الأشرار بالآفات ثم يخلص الأخيار، وإذا كنتم تسألون أين هو اليوم؟ هل صادفه السبات؟ لا، اطمئنوا، فعندما يحين الوقت فمن المؤكد أنه سوف يستيقظ”.
⁃ النهاية:-
في مصر القديمة كان هناك الكثير من الفلاسفة والحكماء الذين توصلوا بالتفكير النظري والتدبر في أحوال بلادهم إلى العديد من المذاهب الفلسفية والأفكار والمبادئ والقيم، فأغلب الأفكار الفلسفية كانت موجودة في الأصل عند الحضارات الشرقية، ولكن لم يتم بلورتها بالشكل الذي بدأ في اليونان، فلم تنسب إلى أصحابها، ورغم أن الشرق قامت به أهم وأكثر الحضارات إنتاجًا للأديان والفكر الفلسفي وهي الأساس الذي قامت عليه كل الأفكار والمذاهب، إلا أنها لا تأخذ تلك القيمة بجانب الحضارة اليونانية والحديثة في أوروبا.
وتعمد فلاسفة اليونان عدم ذكرهم، لأنهم تعلموا منهم الفلسفة مع احتلال الأسكندر لمصر واستغلوا عدم فهم المصريين بالمذاهب وتنظيمهم لها؛ لأنها كانت مجرد فكر وليست علم ولم تكن مهنة أو لقب، ولقد صنع المصريون أول حضارة في التاريخ وأول فكر وأخلاق وتفسيرات للإنسان والكون.
فكان إبيور مثالًا لنشأة الفكر العدمي، ومثالًا للفسلفة الاجتماعية أيضًا وصاحب نظرة صائبة للمستقبل بعد أول ثورة شعبية في تاريخ العالم.
⁃ المصادر :- ١- الأدب المصري القديم- سليم حسن ٢- مفهوم الشر في مصر القديمة - علي عبدالحليم علي ٣- أندريه ايمارد وجانين اوبوايه - تاريخ حضارات العالم ٤- مقال زاهي حواس في المصري اليوم بعنوان "من إبيور إلى هيكل" ٥- هنري توماس - عظماء الفلاسفة في الشرق والغرب