الفن وحروبه.. متى نستعيد نفرتيتي المسروقة؟
عندما ندافع عن تاريخنا وحضارتنا بسلاح الفن
عندما تمكن هتلر من احتلال عدد من الدول الأوروبية خلال الحرب العالمية الثانية، جنّد قوات خاصة للاستيلاء على مجموعات هائلة من الأعمال الفنية التاريخية، سواءً من التحف النادرة أو من لوحات كبار الرسامين من كل العصور والمدارس الفنية أو من تماثيل أقامها كبار النحاتين عبر القرون الماضية. وتم الاستيلاء عليها من كل المتاحف الأوروبية وعلى رأسها متاحف فرنسا، وكذلك من داخل الكنائس والبيوت الخاصة.
وقامت قوات هتلر الخاصة بتحميلها ونقلها إلى ألمانيا، بدعوى وضعها مستقبلًا في متحف يقام خصيصًا لها. ولكن في الواقع، وبعد انتهاء الحرب بهزيمة هتلر وقواته النازية، تم اكتشاف معظم المسروقات وقد دُفِنت في قاع بعض المناجم على عمق مئات الأمتار تحت الأرض حتى لا يجدها أحد، فتزول مع الوقت من الذاكرة، ولا يبقى على قيد الحياة غير أعمال “ألمانيا العظمى” والجنس الآري، فتظل الثقافة النازية هي الغالبة في أوروبا لقرون قادمة.
إنّ الاستيلاء على الأعمال الفنية مثل الاستيلاء على روح الشعوب وثقافتهم وهويتهم. فتلك الفنون تعبّر عن البلاد والأوطان وحياة أفرادها اليومية؛ هي ذاكرة الأمم بكل ما تحمل من معانٍ وأبعاد. ويذكرنا هذا التوجه النازي بموقف المتأسلمين ودواعشهم في محاولاتهم نسف الآثار وحرق الكتب وتحريم الرسم والنحت والموسيقى وكلّ الفنون، في محاولة غبية لمحو الهوية وفرض هويتهم (إن كان لهم هوية).
لقد حارب الأوروبيون لاستعادة ما سُرِق منهم من ألمانيا، ولم يهدأ لهم بال قبل استعادة المسروقات الفنية فاستعادوا ثقافتهم وفنهم وهويتهم. وماذا نحن فاعلون في مصر؟! أنترك تراثنا وآثارنا عرضة للنهب والسرقة والحرق، وفي أقل تقدير عرضة للإهمال؟! حتى بدأت هويتنا في الاختفاء خلف ضباب هوية مستوردة من الصحراء، إلى جانب قشور هوية أخرى مستوردة من وراء البحار. ومع هذا الخلاء الثقافي، أطلقنا العنان للسفه الإعلامي والجهل التعليمي والتخلف الفكري، غير مدركين أن بقاء الأمة في الحفاظ على ذاكرتها، بإظهار أعمال كتّابها وفنانيها، والاستناد إلى العمق التاريخي لترسيخ أقدام الوطن. فهل يكون الوطن آيلًا إلى الزوال؟ أم ننتفض مدافعين عنه في حرب نخوضها من أجل العلم والثقافة، سلاحنا فيها فنّنا وتراثنا؟
نعلم أن معظم المصريين غير مهتمين بمعرفة تفاصيل تاريخ قدماء المصريين، بل يكاد اهتمامهم ينعدم بالآثار الفرعونية التي تجعل من القطر المصري أعظم متحف حضارى مفتوح في العالم. وفيما عدا الفئات المثقفة، لا تمثل تلك الآثار في نظر العامة إلا مصدرًا لجذب السياحة، حتى رأينا من يهربها ويتاجر بقطعها ورأينا من يهملها ويعاملها كمهملات، بما يدل على غياب الوعي بامتلاكنا لأقيم وأغنى تراث حضاري على مستوى العالم.
وقد رأينا أن إحدى القضايا المطروحة على الرأي العام، هي قضية استعادة تمثال نفرتيتي من ألمانيا ليكون بموقعه داخل المتحف الكبير الذي سيفتتح قريبًا، تمثل فرصة عظيمة لاسترجاع الوعي بأهمية التراث الحضاري القديم. ليس لما يمثله التمثال فقط، إنما لتعبئة الرأي العام خلف تلك القضية إلى أن نفوز بما سلب منا.
فمن غير المعقول أن نتخذ موقفًا سلبيًا لأن ألمانيا أقدر منا على صيانة وتأمين هذا الأثر التاريخي، فحق أبنائنا وأحفادنا نيل ما أخذ من أجدادنا عنوةً وغصبًا. وبالطبع سيضطرنا ذلك لإعادة تأهيل القائمين على متاحفنا وآثارنا، حتى يكون التمثال في موقع أفضل مما هو فيه بالخارج.
ومن غير المعقول كذلك أن نترك يد العابثين منطلقةً في تشويه التماثيل والآثار بلا رقيب فني أو أمني، بدلًا من العمل على تثقيف مسؤولي الآثار من أجل أن يرتقي الفن والذوق العام في بلادنا، ويزيد انتماء أبنائنا لوطنهم وتراثهم ليكونوا فخورين به.
لقد قام بعض المثقفين بتبني حملة لإعادة تمثال نفرتيتي إلى مصر لتكون بجوار أسرتها بالمتحف المصري الكبير المزمع افتتاحه. ونؤيد تمامًا هذه الحملة.
يهمنا إضافة بعض المعلومات عن الملكة نفرتيتي:
• تعتبر نفرتيتي أعظم وأشهر ملكة في تاريخ البشرية، تلك الملكة المصرية التي شاركت زوجها أخناتون في نشر أول ديانة توحيدية في العالم. كما أن بعض المؤرخين يفترضون أنها قد تكون أم للملك الشاب توت عنخ آمون.
• يعتبر تمثال نفرتيتي عملًا فنيًّا رائع الدقة والجمال، محتفظًا بألوانه الأصلية، حتى صار هذا التمثال معيارًا دوليًا للقيم الجمالية للمرأة.
• لم تحصل ألمانيا على تمثال نفرتيتي كهدية من مصر، بل أخذه مكتشف منها دون إذن عام 1913. وظل التمثال مختفيًا عشر سنوات حتى ظهر في معرض بألمانيا عام 1923.
• طالبت مصر باستعادة التمثال بدءًا من سنة 1924، واستمرت في تلك المطالبة مرات ومرات آخرها في يناير سنة 2011، ولكن ألمانيا لم تقبل إعادته، بل اعتبرته رمزًا لها في طوابع البريد وفي الحملات الإنتخابية وخلافه.
• يزور متحف برلين سنويًا مليون زائر لرؤية تمثال نفرتيتي. وهذا الرقم يضاهي زيارة لوحة الموناليزا بمتحف اللوفر بفرنسا. وقطعًا مصر أحق بهؤلاء الزوار.
• لمن سيقول أن ألمانيا قادرة أكثر منا على إظهار قيمة التمثال، أقول قد يكون ذلك صحيحًا في الماضي، لكن مع عودة الوعي التراثي ومع افتتاح المتحف الكبير بإمكانياته، نقول كفانا من عقدة الخواجة، فهذا حق للأجيال القادمة يجب ألا نفرط فيه. وإلا فلماذا لا نهدي آثار توت عنخ آمون لأي دولة أوروبية تكون أقدر منا في الحفاظ عليه؟!
نرجو ونتمنى مشاركة الجميع في دعم حملة المطالبة بإعادة تمثال جميلة الجميلات إلى موطنها، حتى تكون كعودة الوعي بهويتنا الحضارية والثقافية.
- يمكنك دعم الحملة من خلال التسجيل من هنا