الفلسفة والسينما: أية علاقة ممكنة؟
كثيرا ما أجدني وأنا بصدد مشاهدة أحد الأعمال السينمائية والخوض في أحد تجاربها، أقوم بإسقاطات فلسفية على هذه الأعمال أو بالأحرى أقوم بمقارنات وتقابلات بين كل من الفلسفة والسينما.
وسيكون هذا المقال محاولة للقيام بهذه التقابلات وإبراز مكامن العلاقة وكذلك نقاط الالتقاء والتشابه بينهما. لكن الخوض في موضوع وسؤال العلاقة أو العلاقات الممكنة بين السينما والفلسفة سيكون ضربا من التخبط ما لم نقف ولو قليلا وقفة مفهومية لتقديم تعريف لهذين المفهومين، وذلك قبل الشروع في تناول العلاقة بينهما.
بين مفهوم الفلسفة ومفهوم السينما:
ستكون هذه الوقفة مسألة أساسية وضرورية ترسم لنا خارطة الطريق للخوض في هذا الموضوع، رغم أن إقامة تحديدات مفهومية لن تكون أبدا بالأمر الهين، حيث إن الوقوف عند تعريف مفاهيمي واحد جامع وشامل للفلسفة مثلا، يكاد يكون أمرا مستحيلا نظرا لتعدد التحديدات والتعريفات بتعدد الأنساق والرؤى والتوجهات الفلسفية، إلى حد يمكن فيه القول أن تعريفات الفلسفة متعددة بتعدد الفلاسفة، فكل فيلسوف يقيم للفلسفة مفهومه الخاص النابع من منظوره لها ونسق تفكيره، إلى حد يكون فيه سؤال “ما الفلسفة؟” إشكالا وموضوعا فلسفيا بذاته.
ومن هنا ونظرا لهذا التعدد المفهومي فمن الضروري تحديد تعريف للفلسفة يتماشى وطبيعة الموضوع، ولن يسعفنا في هذا الصدد سوى التعريف الذي قدمه الفيلسوف الفرنسي “جيل دولوز”، حيث عرف الفلسفة كونها “فنا لنحت وإبداع المفاهيم” والغاية هنا من استحضار “جيل دولوز” هي أن تعريفه هذا يتماشى ومنحى الموضوع المراد مناقشته في هذا المقال، وكذا نظرا لعلاقته الوطيدة مع السينما واهتمامه الكبير بها.
إذا كانت الفلسفة “فن لإبداع وإنتاج المفاهيم” كما عرفها “جيل دولوز”، فإن السينما ستكون حتما فنا لإنتاج الصور، فالسينما نوع من أنواع الفنون وتعرف كذلك بالفن السابع، وهي فن “التصوير المتحرك”، وهذا التصوير يتجسد في أعمال وأفلام سينمائية يشاهدها الجمهور على شاشات كبرى في دور السينما، أو على الشاشات الصغيرة كالتلفاز والحواسيب في سياقنا الحالي الذي أصبحت فيه دور السينما شيئا ثانويا بالنسبة للناس، وقد ظهرت السينما بعد سلسلة من الاختراعات والصناعات التقنية لتصبح بعد ذلك “الصناعة السينمائية” مجالا مستقلا بذاته.
تضعنا هذه الإطلالة المفاهيمية البسيطة أمام ثنائية مفاهيمية متمثلة في “المفهوم” و”الصورة”، وأمام تقابل بين الفلسفة التي تظهر وتكشف عن نفسها عن طريق المفهوم، والسينما التي تعبر عن أفكارها وقضاياها باستعمال الصورة، وهذا التقابل بين هذه الثنائية هو ما سنحاول تناوله في هذا المقال، والكشف عن نقط الالتقاء بينها وإبراز العلاقة أو العلاقات الممكنة بين كل من الفلسفة والسينما.
أية علاقة بين المواضيع الفلسفية والمواضيع السينمائية
يمكن الحديث عن العلاقة بين السينما والفلسفة في أولى مستوياتها وتمظهراتها من خلال “الموضوع”، أو الموضوعات المشتركة بينهما، وهنا سوف يكون الحديث عن الإشكالات الفلسفية باعتبارها موضوعات للأعمال السينمائية. فالسينما تقوم بتصريف المواضيع التي اشتغلت عليها الفلسفة، وتعبر عنها عن طريق الصورة والمشاهد المرئية بواسطة أحداث وشخوص وحوارات؛ إنها تعبر عن التأملات الفلسفية وعن المكتوب والمفكر فيه داخل الفلسفة عن طريق المرئي والمُشَاهَد، فهي في الكثير من الأحيان ترجمة فنية لما يفكر فيه ويكتبه الفيلسوف في الكتب والمقالات، عن طريق المشهد والصورة، فكما تتناول قضايا ومواضيع اجتماعية، سياسية، اقتصادية وفنية.. إلخ، فإنها تتناول قضايا ومواضيع فلسفية كذلك، سواء بدمجها داخل هذه المواضيع السالفة الذكر أو بتناولها بشكل محض وخاص، وكثيرا ما يلتقي المُشاهِد أثناء مشاهدته للأعمال السينمائية بالعديد من القضايا والأفكار والإشكالات الفلسفية منضوية داخل هذه الأعمال، إما بشكل مباشر ومقصود أو بشكل غير مباشر يستنتجه ويأوله المشاهد، وسواء بشكل أساسي أو بشكل عرضي.
إن الفلسفة لا تنفك تحضر وتجد طرقا للتعبير عن نفسها داخل الأدب والفن وبواسطة السينما، إلى حد يمكن فيه القول أن كل ممارسة فنية هي بذاتها ممارسة فلسفية وفعل تفلسف، فهي تطرح الأسئلة وتنحت المفاهيم وتحاول الإجابة عن إشكالات العالم والوجود والإنسان؛ إنها تحاول جاهدة فهم العالم. أما الفن فسيكون في هذا السياق وسيلة للتعبير عن هذا الفهم ووسيلة تساعد الفلسفة على إثارة النقاش، الذي غالبا ما تثيره الأعمال والإبداعات الفنية الكبرى، وهو ما يعبر عنه الفيلسوف الألماني شوبنهاور في كتابه “العالم كإرادة وتمثل”، متحدثا عن الشعر بقوله:
“عندما يتحف الشاعر خيالا فإن غايته هي كشف الأفكار؛ أي أنه يريد عن طريق الأمثلة إيضاح ما هي الحياة وما هو العالم” (1)
ومن هنا فالفن بدوره يسعى جاهدا لفهم ماهية الوجود وكذا فهم الذات الإنسانية، ولو بوسائل مختلفة عن تلك التي تستعملها الفلسفة، حيث يوظف “الصور” في سبيل تحقيق هذه الغاية الفهمية للوجود، سواء كانت صورا شعرية كتلك التي توظف في القصائد الشعرية أو مرئية كما الحال بالنسبة للسينما والفنون البصرية.
وإذا كانت الفلسفة تقوم بوظيفتها الفهمية هذه عن طريق الأسئلة، وبالدرجة الأولى باعتماد المفاهيم، فإن السينما توظف الصور. وهنا يحضرني فيلم “Words and pictures” (2013) الذي يثير ويناقش موضوع جدلية الكلمة والصورة، أيهما أبلغ وأقدر تعبيرا عن أفكار الإنسان ومشاعره وتأملاته ومكنوناته الداخلية، لتأتي خلاصة الفيلم في النهاية إلى فكرة ضرورة الاتحاد والاندماج؛ اندماج الكلمة والصورة للتعبير عن أفكار الإنسان.
الإنسان وفي الكثير من الأحيان يعاني من أزمة في التعبير عن نفسه كذات إنسانية تتماهى وتنسجم فيها أبعاد عدة، فهو كائن عاقل وراغب، وذو بعد اجتماعي وروحي ووجداني..وهذه التشكيلة من الأبعاد المتعددة هي ما يحول دون قدرة اللغة المفهومية والمنطقية على التعبير عن أفكاره ومشاعره، إما لقصور اللغة أو لتعقيد التجربة المعاشة؛ الشيء الذي يعبر عنه المتصوفة بشكل واضح وصريح بقولهم «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»، حيث أن عمق وتعقد التجارب الروحية والفكرية للإنسان يحول دون قدرة اللغة على التعبير بشكل كامل وملائم، مما يستدعي بالضرورة اللجوء للرموز والبلاغات وكذا الصور بمختلف أنواعها، وهنا تلتقي كل من اللغة والمفهوم والصورة، وتنسجمان لتحقيق غاية واحدة: فهم الإنسان والتعبير عنه بشكل ملائم.
كيف تفكر كل من الفلسفة والسينما في إشكاليات العالم والوجود؟
كما تلتقي الفلسفة بالسينما في فعل التأمل والتفكير في العالم، وفي الإنسان وماهيته وطبيعة وجوده، وعلاقته مع ذاته ومع الطبيعة، ومع الآخر وكذا مع مجتمعه، فهي تدفع بالإنسان لممارسة التفكير، وهو الشيء الذي يجعلها منسجمة مع الفلسفة من حيث هذه الغاية، فالسينما حالها حال الفلسفة تقوم بطرح السؤال وإثارة النقاش من خلال مجموعة من المواضيع، إذ أن العديد من الأفلام السينمائية ما أن تنتهي حتى يبدأ المشاهد بطرح الأسئلة وفتح النقاش إما بشكل فردي بين المشاهد وذاته أو بشكل جماعي بين الأصدقاء و المهتمين بالمجال الفكري والفني وبالحقل السينمائي.
إن فعل التساؤل هذا وهذه الإثارة للنقاش الذي تقوم به وتشعل فتيله عن طريق السينما، يعد بحق من أهم مبادئ التفكير الفلسفي، حيث يمكن أن تكون السينما وسيلة بيداغوجية لتدريس الفلسفة خاصة للأطفال في المدارس، وكذلك الحال بخصوص الطلبة بالجامعات؛ لأنها تتيح إمكانية التفكير وتشعل شرارة التفكير الفلسفي ومرتكزات فعل التفلسف، وهو ما قد يحين إمكانية التساؤل وفتح الباب للخوض في النقاشات والأفكار الفلسفية وسبر أغوار التفكير الفلسفي الحر والنقدي.
وإذا كانت الفلسفة لا تنفك تحضر وتكشف عن نفسها في العديد من المجالات سواء الفكرية والعلمية والفنية، فكيف لا تحضر في السينما وهي الأكثر توقا واستعداد لتبني الاشكالات الفلسفية؟ وقد برهنت السينما على أنها قادرة على ترجمة الأفكار والقضايا الفلسفية ومنحها روحا جديدة، فأسطورة الكهف الأفلاطونية مثلا وسؤال ماهية الحقيقة عند أفلاطون قد تم تناوله بشكل متميز وفي قالب فني سينمائي جيد من خلال الفيلم الأمريكي الشهير “The Matrix” (1999)، الذي يمكن للمشاهد أن يجد في طياته العديد من الأفكار والقضايا التي تناولتها الفلسفة منذ اللحظة اليونانية، فهو يفتح لنا الباب على مصراعيه للنقاش وطرح السؤال، حيث يدفعنا للتساؤل حول حقيقة وجودنا الواقعي وحول معنى الحقيقة نفسها، وما الذي يفصل بينها وبين الكذب والوهم؟ وهل يمكن تكوين معرفة حقيقة وكاملة حول العالم وكل معطيات الوجود؟ وكيف يمكن الحكم على الأشياء والموجودات والمعطيات الواقعية على أنها حقيقة أو أنها مجرد سراب ووهم، وعلى أي أساس يمكن لنا تكوين هذا الحكم؟ وكذا حول مدى حقيقة أفكارنا ومعارفنا ومشاعرنا وكل الأحكام التي قمنا بتكوينها حول نفسنا ووجودنا وحول العالم والآخر، أمام إشكالية محدودية عقلنا وحواسنا!.
ومن هنا يفتح لنا فيلم ماتريكس الباب أمام الشك المنهجي لدى الفيلسوف الفرنسي “ريني ديكارت”؛ الذي يشك ويطرح السؤال للوقوف على حقيقة العالم ومعطياته وحقيقة وجودنا فيه، باعتماد منهج علمي وفلسفي صارم. كما يناقش ويتناول فيلم ماتريكس أحد الإشكالات الكلاسيكية في تاريخ الفلسفة وهي مسألة “الجبر والاختيار”، هل الإنسان مخير أم مسير؟ وهل له الحرية في اختيار أفعاله ونمط حياته أم هي مفروضة عليه بشكل قبلي ومسبق؟ الشيء الذي يطرح السؤال الأكبر ما دور الإنسان في حياته نفسها؟
كل هذه الإشكالات التي يثيرها هذا العمل المتميز والتي يمكن للمشاهد أن يكتشفها حتى بدون أن يكون مهتما أو أن تكون لديه أية خلفية فلسفية، هي التي تجعل من هذا الفيلم عملا سينمائيا فلسفيا بامتياز.
وفي معرض الحديث عن أسطورة الكهف الأفلاطونية، سوف نذهب إلى الحديث عن علاقة أخرى مختلفة تماما عن ما تم التطرق إليه من قبل؛ علاقة سوف تكون أقرب للتعارض، فعلى ضوء أسطورة الكهف يمكن النظر إلى الأعمال السينمائية على أنها ضرب من الصور الزائفة والوهمية، وعلى النقيض مما سبق الحديث عنه سيتم اعتبار السينما فنا للوهم والكذب وتزييف الواقع وبالتالي ستكون الفلسفة هنا معارضة للسينما وستقيم نقدا لها من خلال نقدها للصور، التي تحول دون معرفة الواقع والوقوف على حقيقته وماهيته، وفي هذا السياق يقول آلان باديو أن“النقد الفلسفي للسينما ظهر قرونا قبل وجود السينما” (2)، فإذا كانت السينما ضربا من الوهم والزيف والخداع، فستكون الفلسفة إذن سبيلا وإمكانية للخروج من كهفها، والهرب من ديكتاتورية الصور حسب تعبير” آلان باديو”، الذي يقيم تشابها بين السينما والصور وبين الكهف الأفلاطوني، ولكنه لا يتبنى هذا الطرح القائل بتعارض السينما مع الفلسفة، فالقول بهذا الطرح نابع من نظرة تقزيمية واختزالية للسينما في كونها مجرد خيالات، فالسينما لا يمكن اختزالها في مجرد الخيال أو الواقع، بل هي تجانس بين هذين البعدين، إنها أحيانا تفتح لنا الباب أمام الخيال والصور الخيالية كأننا أمام تجربة من الأحلام، لكنها في المقابل وفي الكثير من الأحيان تبرز الواقع أمامنا واضحا بقسوته وشراسته سوداويتين، فهي تحمل في طياتها الواقع والخيال المادي والمجرد؛ إنه الاختلاف الذي يطبع السينما ويمنحها جمالياتها، خصوصيتها وقوتها، فالحديث عن السينما هو بالضرورة حديث عن التعدد؛ تعدد الروئ ووجهات النظر، وبالتالي تعدد الأنساق السينمائية، فكما لايمكن الحديث عن فلسفة واحدة بل عن فلسفات متعددة، ومدارس فلسفية متباينة ومختلفة (الوجودية، البرغماتية، البنيوية، التجريبية.. الخ) سواء من حيث الموضوع، التوجه، المنهج، وكذا النظرة للواقع والعالم. فالأمر نفسه بالنسبة للسينما، حيث لا يمكن الحديث أبدا عن سينما واحدة، بل عن سينمات، ومدارس سينمائية متعددة ومختلفة، من حيث المواضيع والرؤى الفكرية والفنية وكذا مجموعة من الاختلافات التقنية التي تختلف وتتنوع حسب زاوية رؤية كل مخرج، ويمكن أن نذكر هنا بعض الأمثلة لهذه المدارس والتوجهات السينمائية كالواقعية الجديدة (neorealism) والتعبيرية الألمانية (German Expressionism).
وفي خضم الحديث عن المدارس السينمائية وفي إطار تناولنا للعلاقات الممكنة بين كل من الفلسفة والسينما، فإنه من الواجب الوقوف عند ما يمكن لنا تسميته بـ“سينما فلسفية”، ومن الضروري المرور والإشارة لبعض الرواد والشخصيات الفنية المهمة التي أبدعت في هذا السياق كـ أندري تاركوفسكي (1986- 1932)، حيث ينظر العديد من منظري ونقاد السينما إلى” تاركوفسكي” بأنه واحد من أهم المخرجين السينمائيين إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق، ومن هنا فإن الوقوف ولو قليلا عند تجربة تاركوفسكي السينمائية ضروري في هذا السياق؛ كيف لا وهو الذي يعتبره جمهوره ويلقبه مهتمي وعشاق الشاشة الكبرى بـ “فيلسوف السينما”، وهذا ليس مجرد لقب بل هو راجع لكونه يمارس الفلسفة ويقوم بفعل التفلسف، في الكتب والمحاضرات داخل ردهات الجامعات، بل عن طريق السينما وبواسطة الأعمال السينمائية أيضا؛ حيث ناقش مجموعة من الإشكالات والمواضيع الفلسفية في قالب فني وسينمائي محض، وترجع هذه العلاقة بين تاركوفسكي والفلسفة إلى تأثره الشديد بالفلسفة بشكل عام وبالأعمال الفلسفية الوجودية الروسية بشكل خاص، وخاصة تأثره بالفيلسوف والمفكر الروسي“نيكولاي برادييف”، الذي أثرت العديد من أفكاره وأعماله في فكر تاركوفسكي وظهرت جليا في أعماله السينمائية.
إن سينما تاركوفسكي ليست مجرد إنتاجات وأفلام عادية بل هي تجربة غرائبية و روحانية يحلل فيها الإنسان ويُشَرِّح ويكشف أعماق الذات الإنسانية، كما أنها سينما تأملية تسافر بالإنسان في عمق ذاته وعلاقته بعالمه وموقعه فيه شخصا وذاتا إنسانية.
لا يمكن الحديث عن تاركوفسكي دون الوقوف عند تجربة سينمائية أخرى لا تقل أهمية عنه، فما إن يذكر اسم تاركوفسكي عند جمهور السينما ونقادها، حتى يتبادر للأذهان إسم المخرج السويدي الشهير “إنغمار بيرغمان” (1918-2007) الذي يمثل مرحلة النهضة السينمائية الاسكندنافية ولد بيرغمان بمحيط بروتستانتي متدين إلى حد كبير وفي جو عائلي مشحون ومنشغل بمواضيع الله والإيمان والخلاص، الشيء الذي انعكس على أفكاره وتأملاته الفنية و الفكرية وعلى أعماله السينمائية، منشغلا بهذه المواضيع ومشتغلا عليها، وواضعا إياها موضع تسائل في جل أعماله التي دائما ما تجسد الحيرة بين الشك واليقين، التساؤل حول الله والإنسان والعالم، إضافة إلى البحث الدائم عن الخلاص.
وإذا كان تأثر تاركوفسكي بالفلسفة وجوديا، فالأمر نفسه بالنسبة لبيرغمان، الذي يظهر جليا من خلال أعماله، التي تظهر تأثره بالفلسفة الوجودية و أفكارها، والمتمثلة أساسا في الوجودية السويدية مع الفيلسوف الوجودي “كيركيغارد”. هذا التأثر سيظهر للمشاهد واضحا من خلال المواضيع التي يسلط عليها بيرغمان الضوء في كل أعماله؛ بوصفه موضوع الوجود ووجود الإنسان ومعناه وموقعه من العالم، كما يطرح بيرغمان مواضيع مركزية تعتبر عمودا فقريا وتنال حصة الأسد في معظم أعماله، كموضوع الحرب الذي يعد خلفية للعديد من هذه الأعمال، بالإضافة إلى موضوع الموت الذي يحتل موقعا مركزيا في أعماله، فهو يذهب أبعد من مجرد الاشتغال على الموت باعتباره موضوعا فنيا وسينمائيا إلى تجسيد الموت كشخصية أساسية في فيلمه الشهير “The Seventh Seal” – الختم االسابع” (1957)، الذي تظهر فيه الموت متعينة للمشاهد ومتجسدة في شخصية “ملاك الموت” الذي يتحدى البطل الفارس “أنطونيوس بلوك” في لعبة الشطرنج على حياته عند شاطئ البحر. كما يضع بيرغمان أبطاله وشخصياته دائما في وضعيات من الضعف والمرض، سواء كان جسديا أو نفسيا أو عقليا، مما يبرز محدودية الإنسان وضعفه أمام قوة الطبيعة وشراسة العالم، ويظهر موقعه الضئيل في العالم، وهذا الضعف هو الذي يدفع بهذه الشخصيات للتساؤل حول جدوى الوجود ومعنى وجودها وموقعها من العالم، وكذلك عن وسيلتها للخلاص.
وتُظهِر أعمال “بيرغمان” بفعل المواضيع المتناولة فيها وكذلك طريقة التناول وتقنيات التصوير، بالإضافة إلى الجو العام السائد فيها كثيرا من القسوة والسوداوية، لكنها تظهر كذلك الكثير من الأحاسيس والمشاعر المرهفة في جو تطبعه الرومانسية والحب المنسجم والمتماهي مع الحزن والأسى. هذا التماهي هو الذي يطبع أعمال بيرغمان، حيث يتوه فيها المشاهد بين الحلم والحقيقة، ويمتزج فيها الواقع مع اللا وقع، والوجود المادي مع المتخيل، الشيء الذي يجعله يسافر في تجربة سينمائية عميقة وغريبة. إن كل من “تاركوفسكي” و”بيرغمان” قد أثرا بفعل أعمالهم وبفعل فلسفتهم السينمائية ثأثيرا كبيرا في السينما العالمية، وفي العديد من المخرجين اللاحقين لهم؛ كونهم مدارس سينمائية كبيرة وغنية ولا يستهان بها، أما بالنسبة لأعمالهم فلا يمكن القول عنها إلا أنها تجسد للفكرة وللفكرة الفلسفية وتمظهرها عبر الصورة والمشهد السينمائي، إذ أن الفلسفة لا تنفك تحضر في إنتاجات تاركوفسكي وبيرغمان؛ سواء من حيث الأفكار والمواضيع والإشكالات المطروحة، ثم طريقة هذا التناول وكذا الأحاديث والحوارات داخل هذه الأعمال، التي تكون إما حوارات داخلية بين الشخصية وذاته، أو تلك التي تكون متبادلة بين الشخصيات، وبالإضافة للحوار فكثيرا ما يحضر عنصر الصمت كعنصر مركزي في كل أعمالهم، هذا الصمت الحاد الذي يقابل الحوار والخطاب والذي يدفع بالشخصيات وكذا بالمشاهد على حد سواء إلى التفكير والتأمل ومحاولة الفهم، فالصمت كما الكلام يجيب بدوره على العديد من التساؤلات، ويجعل الإنسان يقف في دهشة، أمام عمق وغموض التجربة، وصدمة أمام قوة الحقيقة التي لا تكون إلا حقيقة وجودية وفلسفية: حقيقة الموت، حقيقة الإنسان، وحقيقة الوجود نفسه ومعناه.
إشكالية الإبداع بين السينما والفلسفة
وإذا كانت السينما تشترك وتلتقي بالفلسفة في فعل التفكير و إبداع الأفكار كما سبق القول، فإنها حتما ستعاني من نفس الصعوبة ونفس الإشكال الذي قد تعانيه الفلسفة في العديد من الأحيان، والذي يمكن أن يصبح بدوره موضوعا للتفكير الفلسفي، ألا وهو صعوبة إبداع الأفكار والإتيان بها، حيث أن الأفكار ليست دائمة سهلة المنال، فهي لا تسبح في السماء وتنتظر من يلتقطها، بل هي فعل إبداعي يحتاج لمجهود جبار وجاد، هنا تكمن الصعوبة التي تكون وراء الأزمة التي تصيب المجالات والحقول والأدبية والفكرية والفنية في الكثير من الأحيان، والتي تتجلى وتظهر أكثر وضوحا في السينما، فغياب الإبداع وغياب الأفكار الجديدة يؤدي لا محال لأزمة الفن، وبالتالي تقهقر وركود الإنتاج الفني والإبداعي. ولكنهما مع ذلك، أي السينما والفلسفة، تحاولان وبكل قوة البحث عن بناء وإبداع أفكار جديدة، غير أن هذا الإبداع وهذا التفكير الذي تقوم به كل من الفلسفة والسينما لا يتعلق دوما بالبحث عن عن أفكار جديدة ومواضيع مستجدة، بل إنهما وفي العديد من الأحيان يقومان بالعودة لتناول الأفكار والمواضيع السابقة وإعادة البحث والنظر فيها بشكل جديد وبنظرة مستجدة، إذ إن مسألة الاستحضار تعد مسألة أساسية ومركزية في الفلسفة، وإحياء المواضيع والإشكالات السابقة والكشف عنها وإعادة تناولها والنظر فيها بشكل جديد على ضوء المستجدات الفكرية والعلمية والمجتمعية الراهنة.
وإذا كانت الفلسفة فنا لنحت وإبداع المفاهيم حسب التحديد الذي قدمه لنا دولوز، فإن هذه المفاهيم تحتاج لتجديد دائم ومستمر، إما بتغييرها وإبداع مفاهيم جديدة، أو بإعادة إحياء المفاهيم السابقة ومنحها معانٍ
ومن هنا يصبح فعل الاستحضار فعلا أساسيا في العمل الإبداعي بل ويصبح فعلا إبداعيا بذاته، وهو ما يعبر عنه الأديب المصري“توفيق الحكيم” في سياق حديثه عن الإبداع الأدبي، بقوله: “..ليس الابتكار في الأدب والفن أن تطرق موضوعا لم يسبقك إليه سابق، ولا أن تعثر على فكرة لم تخطر على بال غيرك… إنما الابتكار الأدبي والفني، هو أن تتناول الفكرة التي قد تكون مألوفة للناس، فتسكب فيها من أدبك وفنك ما يجعلها تنقلب خلقا جديدا يبهر العين ويدهش العقل… أو أن تعالج الموضوع الذي كاد يبلى بين أصابع السابقين؛ فإذا هو يضيء بين يديك، بروح من عندك” (3)، وبناء عليه فإن قيمة الفن حسب توفيق الحكيم تتجسد “ليس في الهيكل، بل في الثوب… والفن هو الثوب الجديد الذي يلبسه الفنان للهيكل القديم، إنه الكسوة المتجددة لكعبة لاتتغير..”. (4)
نفس الأمر يعبر عنه الشاعر الألماني“يوهان فولفجانج جوته” كذلك بقوله: “ليس الكتاب الكبار كتابا كبارا لأنهم أتوا بأشياء لم يؤت بها من قبل، وإنما هم كتاب كبار لأنهم أبرزوا الأشياء كما لو أنها تكتب لأول مرة”. (5)
إن مسألة الاستحضار هذه ليست مجرد إعادة تدوير للأفكار والمواضيع السابقة بل هو إعادة الكشف عنها والنظر فيها من زوايا جديدة والكشف عن جوانبها غير المكتشَفة واللا مفكر فيها حسب تعبير المفكر والفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو؛ الذي يجعل مفهوم اللا مفكر فيه مفهوما مركزيا لديه، حيث أنه يقوم بسبر أغوار الفكر الإنساني، ويبحث في المواضيع التي همشها التاريخ وعن القضايا اللا مفكر فيها أو التي تم الاشتغال عليها بشكل سطحي وعَرَضِي فقط. ومن هنا يصبح هذا الاستحضار الذي تقوم به السينما والفلسفة على حد سواء فعلا إبداعيا بذاته. فلا يمكن الحديث عن السينما بكونها فقط تبني وتدوير لما جاءت به الفلسفة من أفكار وقضايا ومواضيع، وإلا فسيكون هذا القول ظلما كبيرا في حق السينما. صحيح أن الفلسفة تقدم أفكارها وقضاياها للسينما كمواد خام للإشتغال السينمائي، لكن هذا لا ينفي أن السينما تبدع مواضيعها وقضاياها الجديدة.
خاتمة
إن الهدف من هذا المقال ليس إلصاق السينما بالفلسفة أو الفلسفة بالسينما، وربط أحدهما بالآخر أو جعل وجودهما رهين بالآخر، فلكل منهما منهجه ومفاهيمه ومجال اشتغاله، ومنطقه الخاص الذي يمنحه خصوصيته واستقلاليته وحضوره، لكن هذه الاستقلالية بين المجالات والتخصصات لا تعني أبدا القطيعة، بل هي سلسلة من العلاقات والتقاطعات، فكل تخصص سواء كان علميا أو فنيا، فكريا أو أدبيا، يجد نفسه في تقاطع مع المجالات والحقول الأخرى.
وهنا يكمن المغزى من هذا المقال كمحاولة لإبراز نقط الالتقاء والتقاطع، والوقوف عند العلاقات الممكنة بين كل من الفلسفة والسينما، لكن هذه المحاولة التحليلية لا تنفي صعوبة الوقوف عند كل الحدود والتقاطعات التي تلتقي فيها المجالات والتخصصات، خاصة إذا تعلق الأمر بمجالين مثل الفلسفة والفن وبعلاقة متشعبة ومتماهية كعلاقة الفلسفة بالسينما، فأبعاد هذه العلاقة تظل كبيرة ومتعددة، فبالرغم من كل ما سبق التطرق إليه في هذا الموضوع، فإنه لا يمكن الوقوف عند علاقة واحدة بين السينما والفلسفة، أو على حكم واحد بينهما “ترابط/تعارض”، بل هي سلسلة من التقابلات والعلاقات المتشعبة التي تلتقي تارة وتنفصل تارة أخرى، لكن هذه العلاقة تظل بارزة ولا يمكن إنكارها أو غض الطرف عنها.
كما أن هذا الموضوع وهذه العلاقة لا يمكن الإمساك بكل أطرافها في مقال واحد بل هو موضوع يستدعي سلسلة من المقالات المطولة، وليس هذا المقال سوى إشارة لهذه العلاقة ومحاولة لإثارة إنتباه القارئ إليها.
- الهوامش
- 1: Le monde comme volonté et représentation 2- Arthur Schopenhauer. P1821.
- 3 : فن الأدب، توفيق الحكيم، ص 12/13.
- 4 : المصدر نفسه.
- 5 : يوهان فولفجانج فون جوته، أفكار وتأملات: ص 63.