العلم والسياسة: هل يمتزجان؟ (مترجم)
ما هي العلاقة المثالية بين الساسة والعلماء؟ هاكم الحكاية الخيالية: ينتج العلماء معرفةً عن العالم قابلة للتعميم ويستخدم الساسة تلك المعلومات بكفاءة في اتخاذ قرارات معظِّمة للرفاه بالنيابة عن مجتمع سياسي. في الواقع، تؤكد مقالة نُشِرت حديثًا في مجلة Foreign Affairs، واصفةً الدور الذي يقوم به مجتمع الاستخبارات، على “حقيقة أساسية”: يتخذ قادة الحكومات قرارات أفضل عندما يكون لديهم معلومات أفضل. يبدو العلماء والساسة حلفاء طبيعيين. إذًا، لماذا هم ليسوا كذلك؟
أولًا: أود الاعتراف بما ينبغي أن يكون واضحًا. ليس العلماء مُتَجَاهَلِين في الواقع؛ فكثيرًا ما يسعى صانعو السياسة بنشاط وراء الدليل العلمي ويستخدمونه استخدامًا جيدًا. لكن العلماء يخطئون أيضًا في بعض الأحيان، تمامًا مثل أي شخص آخر.
بكلمات أخرى، إن هذا التفسير لعدم امتزاج العلم والسياسة لا يُقصَد به الحط من قدر الساسة تلقائيًا أكثر مما يُقصَد به الإعلاء من شأن العلماء عن عمى.
نحن حيوانات سياسية وعندما نحتاج إلى صنع قرار بالنيابة عن جماعاتنا، فإن طريقة سعينا وراء المعلومات ومعالجتها والتصرف بناءً عليها هي أي شيء إلا أن تكون عقلانية هادئة. ثمة ثلاث ديناميكيات على الأقل تعقِّد علاقةً مثاليةً بين الساسة والعلماء.
أولًا: إن التحيزات النفسية psychological biases تتحدى المعالجة الدقيقة للمعلومات.
ثانيًا: إن المصالح السياسية تجبر النخب على إهمال الأدلة غير المواتية أو تسييسها.
ثالثًا: هناك نزعة عند البشر لرفض الحجج القائمة على الدليل لصالح الضرورات الأخلاقية، ما يعني أن صنع القرار السياسي هو في بعض الأحيان مسألة إيمان أكثر منه أمرًا متعلقًا بالـحقائق.
الأخطاء والمصالح
اكتشف علماء النفس الاجتماعي والمعرفي أن البشر (ومن ثم الساسة) عُرضة لمجموعة من التحيزات التي تهيئنا لارتكاب الأخطاء في الحكم والتقدير والتي يمكن أن يكون لها آثار ضارة على صنع القرار والسياسة. على سبيل المثال، نحن نعلم أن الأفراد -سواء في الأحوال العامة أو في ظل ظروف محددة- معرضون للثقة المفرطة المتفائلة (الإفراط الزائف في تقدير المرء لاحتمالات نجاحه)، وتحيز التوكيد (إهمال المعلومات غير المتسقة مع اعتقادات المرء)، والجهد العام لتقليص اللايقين والتنافر المعرفي في بيئة المرء. كل هذه التحيزات تصيب الساسة وتقوّض جمع الأدلة وتقييمها عقلانيًا.
إضافةً إلى هذه التحيزات، لا يستمع صناع السياسة في بعض الأحيان إلى الدليل، ببساطة لأن لهم مصلحة في عدم الاستماع إليه -وليس بسبب العلم الضعيف أو الدعوة العلمية غير الفعالة. هذا واضح ليس فقط من ناحية علاقات السياسي مع العلماء، ولكن أيضًا، وعلى نحو غير مفاجىء، في علاقات السياسي مع مجتمع الاستخبارات.
على سبيل المثال، يحدد جوشوا روفنرJoshua Rovner، في تحليله لإخفاقات الاستخبارات، ثلاث طرائق يمكن أن تتدهور فيهن العلاقات بين مجتمع السياسة ومجتمع الاستخبارات.
أولًا: قد يهمل صناع السياسة ببساطةٍ الاستخبارات ويضعون ثقتهم في حدسهم أو غريزتهم. وهذا في غالب الأحيان، ولكن ليس دائمًا، نتيجة لعمل التحيزات المذكورة سابقًا (تحيز التوكيد مثلًا).
ثانيًا: وعلى نحو غير حدسي، قد يكون صناع القرار في بعض الأحيان مراعين بشكل زائد عن الحد للاستخبارات، الأمر الذي قد يفضي إلى قرارات سيئة عندما يكون الدليل نفسه خاطئًا.
ثالثًا: عندما يلتزم صناع السياسة بمواقف سياسية متطرفة، يمكن أن يلجؤوا إلى التلاعب بالاستخبارات نفسها لكي يفوا بوعودهم ويُرضوا ناخبين رئيسيين. وهذا -كما يجادل روفنر- مسؤول جزئيًا على الأقل عن تسييس الاستخبارات الأمريكية في الفترة التي سبقت الحرب مع العراق عام 2003.
الإيمان قبل الحقائق
عامل ثالث يقوض علاقةً متناغمةً بين العلم والسياسة هو أن المصلحة السياسية غالبًا ما يتم تشكلها من زاوية القيم، وليس الحقائق. على سبيل المثال، يجادل جينجيز واتران Ginges and Atran بأن دعم الناس للقرارات السياسية –كالقرار المتعلق بالذهاب إلى الحرب- هو نتيجة للتفكير الأخلاقي، بمعنى أننا “نتبع منطقًا متقيدًا بالقواعد الخاصة بالملاءمة الأخلاقية“، بصرف النظر عن الفوائد المادية لهذه السياسة. هذا يعني أن السياسة Policy غالبًا ما تكون مسترشدة إلى درجة كبيرة بالقيم الأخلاقية بدلًا من الدليل العلمي المتمثل بالسبب-النتيجة. عندما تهدد السياسة القيم، سوف يحتاج العلماء لفعل ما هو أكثر من الانضمام إلى شبكات الدعوة والدفاع والقيام “بعلم أفضل”.
بدلًا من ذلك، سوف يحتاجون إلى تغيير القلوب واستهداف القيم –وهي مهمة لم يُعَدُّوا لها إعدادًا جيدًا. هل هبط الأمريكيون بالإنسان على القمر لأن مهندسي الفضاء تمكنوا أخيرًا من بواطن وظواهر الدعوة السياسية؟ من غير المحتمل. البرنامج الفضائي كان أداة للنزاعات الأيديولوجية السائدة في ذلك الوقت. القيم هي التي دفعت العلم وليس العكس.
الدروس المستفادة؟
إذا كان العلماء يرغبون بأن يكون صوتهم مسموعًا وبأن يكون لهم تأثيرهم، فإن على الدعوة العلمية أن تحسب حسابًا أكبر للطرائق التي يعمل بها التحيز والمصلحة في المجتمعات السياسية. إن للنُخب مصالحها الخاصة ولذلك ينبغي ألا يتم تصورها “أُذُنًا” تتنافس عليها ائتلافات الدعوة. الدرس الأخير هو أن القيم تفوق الحقائق أهمية. ثمة سبب لتكون القاعدة الذهبية** أبقى ذكرًا من نظرية فيثاغورس. نحن نوع (species) اجتماعي يفضِّل طرح المشكلة السياسية من الناحية الأخلاقية بدلًا من السببية.
هل يعني هذا أنه قد حُكِم علينا بعالم من الساسة الذين يتبعون حدسهم والذين يتجاهلون بانتظام علماء بائسين ومهجورين؟ ذلك على الأرجح غير صحيح بشأن المستقبل كما هو بالنسبة إلى الماضي. بدلًا عن ذلك، إن ديناميكيات الخطأ والمصالح والقيم هي ميول نحسن صنعًا بعدم تجاهلها. على العلماء بالفعل أن يجدوا طرقًا ليكونوا دعاةً أفضل عندما تلزمهم عواطفهم وقيمهم نحو تلك الغاية. يُظهِر التاريخ أنه عندما يمزج العلماء الدليل العلمي بالقوة الأخلاقية، فلا بد أن يكون لهم أثر عظيم. والنجاح السياسي لبروتوكول مونتريال مثال واضح في هذا الصدد.
لا سبب لعدم تمكن العلماء أو عدم قيامهم بتطوير طرائق جديدة للدخول بشكل خلاق وفعال إلى ميدان السياسة. لكن العلماء سيحسنون صنعًا كذلك بالتفكير بحرص أكثر قليلًا حول ما هو بالفعل في مصلحتهم النسبية أن يقدموه، وبإعطاء وزن أكبر للتحيز النفسي والمصلحة السياسية والقيم المقدسة عند الدخول في ميدان معركة السياسة الائتلافية.
** القاعدة الذهبية هي القاعدة الأخلاقية التي تتلخص في: عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك.