العلم والدِّين والعلم المزيَّف

قدَّم العلم الحديث نموذجًا معياريًّا للمعرفة، وهو ما استلهمته العديد من المحاولات الفلسفية التي سعت إلى تجاوز الفلسفة باتجاه العلم. لا تقتصر الأسباب الكامنة خلف نجاح العلم في تحوله إلى نموذج معياري للمعرفة على نجاحه باكتشاف قوانين الطبيعة واستخدامها في خلق عالمنا التقني المعاصر؛ بل تتعدَّاها إلى طبيعته المعيارية نفسها والمستندة إلى الموضوعية والتجرُّد في سبيل الوصول إلى الحقيقة من خلال أساليب بحث دقيقة وتجريبية. لهذا أصبح العلم يمثل أرضية انطلاق مشتركة لما يمكن أن ندعوه البحث عن المعرفة والحقيقة.
لا يعني هذا أن كل معرفة يتوجب عليها أن تكون معرفة علمية، حتى تستحق اسمها أو الاهتمام بها؛ بل ما نعنيه أن العلم بوصفه نموذج معياري هو الشكل المثالي للجميع في سعيهم للحقيقة والمعرفة، وبرغم تباين اعتقاداتهم وأديانهم وأصولهم وفلسفاتهم. العلم هو الساحة المشتركة التي يمكن لنا الالتقاء عليها والحصن الأخير للدفاع عن الموضوعية والعقلانية.

لكن ما الذي نعنيه بالعلم، وتحديدًا العلم الحديث؟ ما الذي يميزه وكيف يمكن لنا أن نفرق بينه وبين أنماط التفسير الأخرى؟ ما الذي يميز التفسيرات التي تدَّعي العلمية ولكنها في الوقت نفسه ليست علمية، بل مزيفة؟ من المفيد العودة إلى بعض النقاشات التي دارت حول تأريخ نشأة العلم الحديث. فالسجال حول النشأة والبداية يستبطن نقاشًا آخرًا يدور حول معنى وماهية العلم الحديث، فالاختلاف حول ما هو العلم الحديث يؤدي إلى اختلافٍ حول تأريخه، وهذا التباين التاريخي يتيح لنا وبشكل أعمق فهم ظاهرة العلم الحديث نفسها.

طبيعة العلم

يتم التأريخ لنشأة العلم الحديث مع القرنين السادس عشر والسابع عشر،حيث حصلت خلال هذه الفترة تحولات مركزية، سواء في النظريات التي تفسر الظواهر الطبيعية أو في المنهجيات والطرائق المعتمدة في دراسة الطبيعة.

في عمله الممتاز فجر العلم الحديث[1]، يقدم (بوبي هف) أطروحة تُبكر من أصول العلم الحديث مستكشفًا إياها في القرنين الثاني عشر والثالث عشر مع الثورة القانونية ونشأة الجامعات الغربية المختصة أولًا في دراسة القانون، الذي كان -بحسب هف- النموذج الأساسي للعلم الحديث. تتمحور الفكرة المركزية لـ(هف) حول ما يمكن اعتباره الخصائص الأساسية للعلم، خليقة العلم، التي هي مجموعة مركزية من الاعتقادات والالتزامات التي لا يمكن للعلم أن ينشأ بدونها، ويجب على جماعة العلماء أن يتحلوا بها، وبدونها لا يمكن لهم أن يكونوا علماء.

أولها الاعتقاد بأن العالم منظم وخاضع لقوانين شاملة وكونية تحكمه، وأن الإنسان يمكن له -بعقله- أن يدرك هذه القوانين ويكتشفها (قدمت معايير روبرت ميرتون أهم هذه الصياغات لخليقة العلم وسنتحدث عنها لاحقًا). سعى (هاف) لاستكشاف أصول هذا الاعتقاد في الثورة القانونية التي عرفها الغرب في تلك المرحلة وما ارتبط بها من نشأة الكليات الحقوقية والممارسات والتقاليد التي نظمت ممارسة هذه الكليات. فالثورة القانونية ارتبطت بتقليد لاهوتي ميتافيزيقي ينص على أن الله وضع قانون أساسي في العالم، القانون الأخلاقي، وهو موجود بشكلٍ مستقل عن الدين والوحي، اللذان يعبران عن هذا القانون. فالقانون الأخلاقي العام يتلمسه أي شخص، بمعزلٍ عن خلفيته الدينية، من خلال الضمير الذي هو بمثابة مقياس عام يمكن لكلِّ إنسان بواسطته إدراك القانون الأخلاقي العام.

إعلان

شكلت فكرة القانون الأخلاقي العام والمترافقة مع فكرة الضمير، الذي هو أداة عمومية لإدراك القانون، الخميرة الأساسية للعلم للحديث. حيث يقوم العلم على تصور مشابه، فالعالم محكوم بقوانين يمكن للإنسان اكتشافها باستخدام عقله؛ الذي هو بمثابة الضمير. كذلك فإن البحث بغاية معرفة هذه القوانين يشترط قدرًا من الحرية، تمامًا مثلما أن إدراك القانون الأخلاقي الطبيعي وطاعته تحتاج إلى حفظ حرية الضمير وتعزيزها، وهو الأمر الذي قامت به الجامعات، فقدمت خلال هذه العهود المبكرة محاولة أولى لتعزيز هذه الحرية. فالحرية الأكاديمية لا تخضع في سعيها إلى البحث عن الحقيقة لأي سلطة خارجية، سواء أكانت سلطة الدولة أو الدين أو التقاليد.

في مقابل هذا، قدم (أندرو كوننيغهام) و(بيري وليامز)[2] طرحًا مغايرًا يؤخر نشأة العلم الحديث إلى القرن التاسع عشر، انطلاقًا من فكرة مغايرة تميز بين العلم الحديث[3] وفلسفة الطبيعة باعتباره رؤية مغايرة للعالم حملها رجال مثل نيوتن وغاليليو وغيرهم. تستند فلسفة الطبيعة، وهو وصف مجال عمل هؤلاء الرجال، إلى أساس ميتافيزيقي مغاير للعلم الطبيعي الحديث، حيث يُنظر إلى الطبيعة بوصفها خليقة الله. فالهدف الخاص بالبحث في قوانين الطبيعية هو التعرف على الله كصانع للكون وعلى أهدافه. بالنسبة لهم لم يكن هناك فصل بين هذين الجانبين العلمي والميتافيزيقي في عملهم، كما يفعل العلماء اليوم؛ بل ظهرا بوصفهما جزء من نظام واحد. لهذا لا تقتصر براهينهم على الرياضيات والتجربة، بل تدخل فيها اعتقادات دينية وتصورات ميتافيزيقية. بالطبع تاريخ العلم الشائع يهمل البعد الميتافيزيقي والتصورات والمحاججات اللاهوتية التي تحفل بها أعمالهم باعتبارها أمورًا لا تتعلق بالجانب العلمي. بالمقابل، ينطلق العلم الحديث من تصور علماني وطبيعاني للطبيعة، فيبحث في قوانينها وظواهرها بشكلٍ موضوعي ودون افتراضات ميتافيزيقية تُعتبر اليوم غير علمية. فالعلم الحديث وفلسفة الطبيعة يقدمان رؤيتين مختلفين جذريًّا للعالم بحكم أساساتهما الفلسفية المتباينة. الانتقال من بين فلسفة الطبيعة إلى العلم حصل في القرن التاسع عشر، مع صعود البرجوازية ونزع السحر عن العالم وعلمنة النظرة للعالم.

لا يهمنا هنا الانتصار لإحدى الفكرتين على الأخرى، لكن الإشارة إلى أن التباين في تأريخ نشأة العلم يتعلق باختلاف حول ما هو مركزي في ماهية العلم الحديث. يسعفنا هذا الخلاف ببعض الخصائص الأساسية لما يمكن لنا أن نسميه علم، من ناحية هناك بديهيات ميتافيزيقية لا يمكن لنا أن نتخيل العلم بدونها مثل التي قدمها (هف). وجود قوانين تحكم العالم وتنظمه وأن الإنسان قادر باستخدام عقله على معرفة هذه القوانين واكتشافها بواسطة الملاحظة والتجربة والرياضيات (المنهج العلمي). وهناك أيضًا خاصية ابستمولوجية تحكم هذا البحث والتفسير الذي نسميه في النهاية علمًا وهو أنه تفسير طبيعاني، حيث يتم تفسير أي ظاهرة طبيعية عبر تقديم علل وأسباب طبيعية لهذه الظاهرة، وليس من خلال الإحالة إلى قوى من خارج الطبيعة أو سحرية أو باعتبارها تجليًا وكشفًا لحقائق متجاوزة وهو ما شدد عليه (كوننيغهام ووليامز).

قدم عالم الاجتماع (روبرت ميرتون) في ورقة شهيرة[4] مجموعة من المعايير التي تحدد العلم.

  • شيوع المعرفة العلمية (communism): ويقصد بها أن تكون المعرفة العلمية مفتوحة للجميع وليست حكرًا لجماعة أو مؤسسة.
  • الكونية (universalism): فالعلم ليس مقيد بعقيدة أو مذهب أو جماعة، فالعلم ليس سياقي. العلم هو نفسه سواء مارسه مسيحي أو مسلم أو هندوسي، أوروبي أو صيني أو إفريقي. الكونية ضمانة للموضوعية، حيث لا يكون العلم متعلق بآراء ومعتقدات بعض ممارسيه.
  • عدم الاهتمام (disinterestedness): يجب أن يكون هدف العلماء هو العلم في ذاته، وليس الانطلاق من اهتمامات خاصة تملي عليهم الانحياز لآراء ونظريات معينة دون غيرها.
  • الشك المنظم (organized skepticism): يجب على العالم أن يُخضع النظريات والفرضيات إلى الشك والمراجعة والنقد في مواجهة التجارب والمعارف الجديدة.

تحظى معايير (ميرتون) بقبول واسع بين العلماء باعتبارها المعايير التي يجب أن تحكم الممارسة العلمية. بالطبع، تتراوح المعايير بين كونها معايير أخلاقية تحكم الممارسة وهدفها (مثل عدم الاهتمام وشيوع المعرفة) أو معايير معرفية (مثل الكونية والشك المنظم).

إن إضافة معايير (ميرتون) إلى السمتين اللتين تم تقديمهما خلال النقاش السابق تعطينا فكرة عما هو العلم وما يميزه بوصفه نمط تفسير عن غيره من أنماط التفسير الأخرى.

لكن علينا أيضًا أن نميّز بين العلم والعلم المزيف. فالأخير يقدم نفسه بوصفه علمًا، ويطالب بحق الاعتراف به بصفته هذه. هنا قد لا تسعفنا تمامًا المعايير التي أوردناها أعلاه، وإن كان من المشكوك به حقًا أن تنجح العلوم المزيفة في الالتزام بهذه المعايير.

يعتبر معيار التكذيب لكارل بوبر[5] المعيار الأساسي لرفض العلوم المزيفة. الفكرة الأساسية هي أن ما يميز النظرية العلمية هو إمكانية تفنيدها تجريبيًّا، بينما لا تقدم العلوم المزيفة مثل هذه الإمكانية. سابقًا، كان من الشائع اعتماد مبدأ التأكيد/الإثبات في التعامل مع النظريات العلمية، فتُعتبر النظرية صحيحة إن نجحت في اجتياز الاختبار التجريبي. غير أن مبدأ الإثبات واجه تحديًّا من قِبل تاريخ العلوم، الذي يخبرنا أن العديد من النظريات التي اُعتقد بصحتها استنادًا إلى المعطيات التجريبية أو الملاحظة، ثبت خطأها لاحقاً في مواجهة معطيات جديدة ولاحقة. فالفلك البطليمي كان ولزمنٍ طويل كافٍ تجريبيًّا، فكان البحارة قادرين على الإبحار اعتمادًا عليه؛ لكن لاحقًا ومع تطور المراقبات الفلكية وتراكمها ظهرت التعارضات بين هذه المراقبات والفلك البطليمي، الأمر الذي استدعى البحث عن محاولات ونظريات مختلفة أكثر تلاؤمًا مع المعطيات المتراكمة. كذلك أشار (بوبر) في نقده لمبدأ الإثبات، أنه يمكن دومًا إثبات أية نظرية عبر انتقاء التجارب (يمكن لنا دومًا أن نجد ما يثبت صحة تصوراتنا) أو عبر تضييق مجال التفسير الخاص بهذه النظرية، بحيث تنطبق على عددٍ محدودٍ من الظواهر القابلة للتقليص دومًا للحفاظ على النظرية صحيحة. مبدأ الإثبات مبدأ محافظ، يتفادى تحدي النظرية ويسعى إلى الحفاظ عليها، وهذا ممكن دومًا من خلال العديد من الاسترتيجيات، بما يعرقل توسع البحث العلمي والسعي إلى اختبار نظريات جديدة واستكشاف ظواهر جديدة.

قد يعجبك أيضًا

استعاض (بوبر) عن معيار التأكيد بمعيار التكذيب. حيث تواجه النظرية بشكلٍ مستمر بالمعطيات التجريبية، وما دامت النظرية ناجحة، فإننا نقبل بها، حتى ظهور معطيات تجريبية جديدة قادرة على تفنيدها. يرتبط ظهور هذه المعطيات بالتقدم العلمي والدور الذي تلعبه النظرية نفسها بفضل ما تقدمه لنا من إمكانيات واقتراحات جديدة للبحث. وفي حال نجاح المعطيات التجريبية في تفنيد نظرية ما، يتوجب استبدالها بنظريةٍ أخرى أكثر نجاعة وقدرة على تفسير المعطيات التجريبية. قد تكون النظرية الجديدة مغايرة تمامًا لتلك القديمة (كوبرنيكوس عوضًا عن بطليموس) أو قد تكون أكثر اتساعًا بحيث تشمل النظرية السابقة بوصفها حالة خاصة منها (كما فعل ماكسويل بجمعه الحقلين المغناطيسي والكهربائي في نظرية موحدة).

ما يجعل من نظرية ما علمية، قبل أن تكون صحيحة أو خاطئة، هو إمكانية تفنيدها تجريبيًّا وإثبات خطئها بفضل وجود مجموعة من التوقعات التي تقترحها النظرية، بما يسمح باختبارها تجريبيًّا. بالمقابل تتفادى العلوم المزيفة الاختبار التجريبي من خلال التلاعب المستمر بالفرضيات والمفاهيم التي تستخدمها، أو إلغاء هذه الإمكانية أساسًا بواسطة مفاهيم لا يمكن اختبارها لأنها لا تحيل إلى أيِّ محتوى تجريبي محدد. لنأخذ مثلًا العلاج بالسحر والطاقة، فهذا العلم المزيف لا يمكن اختباره، فمن جهة يستخدم مفاهيم لا يمكن تحديدها تجريبيًّا أو رياضيًّا مثل الأرواح والطاقة الكونية والجن. من جهة ثانية يتفادى اعتماد النجاح والفشل في العلاج بوصفه قياس تجريبي عبر التلاعب المستمر بربط الشفاء وعدمه بالمقولات التي تعتمدها النظرية. فإن نجح فهذا دليل على صحة ادعاءاته، وإن فشل فهذا ليس دليلًا على خطأه، بل بسبب ضعف الطاقة الروحية أو أن الروح المسؤولة عن العلاج لم تكن راضية أو أن لها غاية لا نفهمها نحن البشر وهلم. بالتالي حتى ما يمكن اختباره تجريبيًّا، عدد حالات الشفاء وعدمها، لا تعود تمثل اختبار تجريبي لمثل هذه النظريات التي لا يمكن تكذيبها.

بالتأكيد إن اعتماد معيار التكذيب ليس بمثل هذه السهولة والوضوح. فعندما تواجه نظرية تحظى بقبول تحديًا تجريبيًّا، فإن العلماء لن يُقدموا مباشرة على رفضها. على الأغلب سيحاولون تعديل بعض الفرضيات المساعدة (Ad-hoc Hypothesis)، أو تأجيل البت بالمسألة باعتبارها لغزًا ينتظر الحل من داخل إطار النظرية نفسها، قبل أن يبدأوا بإعادة النظر الكلية في النظرية ورفضها. فمثلًا النموذج القياسي، وبرغم فضله في تحقيق العديد من الاكتشافات التجريبية وآخرها بوزون هيغز، فإنه لا يجيب على عدد من الأسئلة الهامة مثل طبيعة المادة المظلمة والطاقة المظلمة وعدم التناسق بين المادة والمادة المضادة، وهذه كلها معطيات تجريبية مضادة تؤخذ للآن بوصفها ألغاز تنتظر الحل. غير أن النظرية تصبح في محل شك يوجب البحث عن نظرية أفضل، عندما تصبح في مواجهة مستمرة مع المعطيات التجريبية بما يستدعي التلاعب بالفرضيات المساعدة بشكلٍ مستمر لضمان التوافق. إن ممارسة المعيار ليس قطعية وحادة كالسيف، لكنه يقدم ميزان يمكن الاستعانة به لاستكشاف الفرق بين العلم والعلم المزيف.

العلوم المزيفة في السياق العربي

ربما يستهلم المرء آراء (بول فايرآبند) ودعوته إلى أناركية منهجية، أي شي يمكن (Anything goes)، فيرفض بالتالي التمييز بين العلم والعلم المزيف. يبدأ (فايرآبند) من الحرية، فالحرية يجب أن تكون متاحة لجميع المحاولات والتصورات لتواجه بعضها البعض. الجانب الإيجابي لهذا التصور هو الرغبة في تحرير العلم من تحديدات ابستمولوجية مسبقة تصبح بمثابة دوغما تقييده. في البلاد التي يحظى فيها العلم برسوخ مؤسساتي في الجامعات ومراكز للبحث العلمي، فمثل هذه الأناركية المنهجية تسمح بمساءلة مستمرة للنظريات وتمكن من الانفتاح على خيارات بديلة دون خطر إقصائها وقمعها. وهذا ما تضمنه حرية البحث العلمي، وهنا نعود إلى عمل (هف) الذي اهتم بنشأة هذه الحرية وصيانتها داخل الجامعات. غير أن السياق العربي مختلف تمامًا، فبالإضافة إلى واقع التخلف العربي وسيطرة الخرافة، تنتهك الحريات الخاصة بالبحث بشكلٍ كامل سواء من طرف الأنظمة السياسية أو قمع اجتماعي تتولاه المؤسسات الدينية بشكل كبير (قضية نصر حامد أبو زيد على سبيل المثال). وما يزيد من وطأة هذا الحال غياب أي بعد مؤسسي للعلم في الجامعات ومراكز البحث العلمي، حيث نرى العلم المزيف في معاقل البحث العلمي، فتقيم كلية الصيدلة في إحدى أعرق الجامعات العربية ندوة عن الطب النبوي أو يتم تقديم رسالة دكتوراة في الفيزياء للبرهنة على أن الشمس تدور حول الأرض. بغياب الحرية وضعف المؤسسات العلمية وسيطرة الخرافة، تصبح دعاوى العلوم المزيفة المتدثرة بعباءة الدين خطرًا حقيقيًا.

هناك ممارستان تحظيان بحضور واحتفاء كبيرين في السياق العربي وتنتميان إلى العلوم المزيفة؛ الإعجاز العلمي والتصميم الذكي.

  • يسعى الاعجاز العلمي إلى برهنة إعجاز القرآن الكريم بادعاء أسبقيته في كشف الحقائق العلمية التي يستخرجها من آياته مقارنة بالنظريات العلمية المعاصرة. الرد البسيط والمباشر والواضح على الإعجاز هو، إن كانت كل هذه النظريات موجودة سلفًا في القرآن، فلماذا لم تقدموها مسبقًا!

ينطلق دعاة الإعجاز من فكرة مختلة حول العلم نفسه، وهو الاعتقاد بوجود نظريات مطلقة الصحة، يمكن تمييزها عن سواها والتي لا تعدو عن أن تكون فرضيات. وهذا تمييز يجد أساسه في تفسير الآيات أكثر من واقع النظريات نفسها. فالنظريات التي تتفق مع ما تورده الآيات تصبح بالضرورة مطلقة الصحة، فيما النظريات التي لا تتفق مع الآيات تكون مجرد فرضيات أو خاطئة، حتى لو كانت الأدلة التجريبية عليها أكثر من تلك التي تدعم النظريات “الصحيحة”. لا يوجد نظريات مطلقة الصحة، كل النظريات يمكن تعديلها وتغييرها على ضوء المعطيات التجريبية الجديدة.

لنفترض أنه تمت قراءة بعض الآيات على ضوء نظرية ن1 وتم تقديمها كدليلٍ على الإعجاز، ثم تبين -على ضوء معطيات تجريبية لاحقة- أن ن1 خاطئة. ما الذي سنقوله بصدد الآيات السابقة؟ إما أن هذه الآيات خاطئة وبالتالي فإن القرآن خاطئ، وهذا تمامًا ما سيتفاداه جماعة الإعجاز. أو الإدعاء أن الخطأ ليس في الآيات، بل في تأويلها، بل وسيتم إعادة تأويلها على ضوء النظرية التالية ن2، وربما لاكتشاف إعجازها مرة أخرى. بمعنى آخر، لا يمكن تكذيب القرآن الكريم وآياته، فهي صحيحة بشكلٍ مطلق كونها من عند الله. ويبقى لدينا التأويل، وهو ممارسة بلاغية تسعى فقط للربط بين عبارتين معطاتين بشكلٍ مسبق. وعليه، لا يقدم دعاة الإعجاز معطيات تجريبية للاختبار، بل يقومون بربط شيئين نعرفهما سلفًا عبر ألعاب لغوية، بحيث يكون هذا الربط مضمون النتيجة دومًا دون إمكانية تخطئته ودون تقديم إضافة لما نعرفه.

المشكلة لا تتعلق بالقرآن الكريم، وهو ليس كتاب علم مثل كل الكتب الدينية التي لا تسعى لتقديم حقائق علمية، بل لتقديم حقائق من نوعٍ آخر، وهو ما سنتحدث عنه لاحقًا. لكن الإعجاز العلمي للقرآن، بالمقابل، شكل من الإدعاءات العلمية المزيفة التي لا يمكن تكذيبها وتخطئتها. ينطلق الإعجاز العلمي من مقدمة يعتقد بصحتها بشكلٍ مطلق وهي القرآن، وهذا في ذاته اعتقاد إيماني وليس علمي. ثم يقوم بقراءة القرآن المطلق والثابت على ضوء المتغير والمتحول وهو النظريات العلمية. وهو ما يمكن القيام به، من جهة، عبر تقديم تصور غير علمي عن العلم عبر تثبيت النظريات العلمية المناسبة (أو بعضها) باعتبارها صحيحة بشكلٍ مطلق، وقمع غير المناسبة مهما كانت قوة الأدلة عليها. ومن جهة أخرى، التلاعب المستمر بتفسير الآيات في حال تغير النظريات العلمية لصيانة المقدمة التي ينطلق منها، صحة القرآن المطلقة. وبهذا تكون الآيات دومًا معجزة بالإحالة إلى أية مجموعة من النظريات، حتى لو كانت هذه النظريات تنقض بعضها البعض.

  • التصميم الذكي: يدعي جماعة التصميم الذكي أنهم يقدمون بديلًا علميًّا لنظرية التطور، بل يتم قمعه عبر السيطرة والهيمنة التي يمارسها التطوريون على الجامعات والمراكز العلمية، حيث يقومون بترويج رسالتهم الإلحادية. من الطريف لدى متابعة أي حجاج “خلقي” ضد نظرية التطور هو الحضور الهائل للأيديولوجيا في النقاش الذي يخوضونه، حيث يستدعون الأخلاق والقيم والميتافيزيقيا وهلم جرا، أي كل ما يفترض أن يكون خارج العلم.

الفكرة الأساسية لدعاة التصميم الذكي هي أن الكون وكل ما فيه، وأولها الكائنات الحية، يمثل مستوى من التعقيد الذي لا يمكن تفسيره إلا عبر “صانع ذكي” لهذا الكون. وهذه هي الفرضية الوحيدة الممكنة لتفسير الكون وما فيه، دون بقية الفرضيات التي لا تستدعي مثل هذا المصمم وخاصة التطور.

للبرهان على هذا، يقدم دعاة التصميم الذكي مجموعة من المفاهيم، تعقيد غير قابل للارجاع وهو تعقيد لا يمكن رده إلى ما هو أقل منه (Irreducible complexity) أو تعقيد هادف (Specified complexity) لتأدية مهمة محددة. أشكال منتظمة من التعقيد التي تشبه الانتظام الذي نبحث عنه عندما ننظر إلى السماء للبحث عن إشارات تعود إلى حضارات ذكية قد تكون موجودة. فالهدف ليس رصد أي نوع من الاشارات، بل إشارات منتظمة لا نعثر عليها بشكلٍ طبيعي، إشارات تحمل رسالة.

تثير فكرة التعقيد عددًا من المعضلات بإحالتها إلى عدد آخر من المقولات مثل الغاية والهدف والخطة والمعنى التي تفسر التعقيد، وهذه المقولات غير علمية وإشكالية كونها تحمل معنى يفيد القصدية، بما يجعل النتيجة مُضمنة بالمقدمة ويحصنها ضد الاختبار. لنضع التساؤل على الشكل التالي، بحيث يتضمن ما يفيد الاختبار المضاد (قابلية التكذيب)، إذا كان التعقيد الهادف (أيًّا يكن المعنى الذي ننسبه للهادف) دليل على المصمم، فعلى ماذا يدل التصميم السيء الذي لا يؤدي مهمته بشكلٍ مثالي أو الخاطئ الذي ينتهي بكارثة (لا يمكن لأي مهندس أن يصمم على هذا النحو)؟ هم لا يقولون شيئًا، يتجاهلونها تمامًا، أو يدّعون أننا لا نستطيع أن نفهم حقيقة هدف الصانع وأن عقولنا قاصرة عن إدراك أبعاد التعقيد والتصميم بما لا يسمح لنا بالحكم على هذا التعقيد. التعقيد يؤدي وظيفة وحيدة، الدلالة على وجود المصمم. وأي ظاهرة أخرى تعارض فكرة المصمم أو كماله تُطرح جانبًا. التعقيد في هذه النظرية مفهوم لا يمكن اختباره تجريبيًا، حيث تمت صياغته عمدًا بحيث لا يمكن أن تتم تخطئته، فوجوده يدل على المصمم وغيابه لا يدل على أي شيء.

هنا كطرح يشابه التصميم الذكي، من دون محتواه الديني، وهو أننا نحيا في محاكاة حاسوبية[6]. كوننا نحيا في محاكاة يفترض وجود شخص صمم المحاكاة التي نوجد فيها، لكن هذا المصمم قد يكون مجرد طالب ثانوي في حضارة متقدمة. من الدلائل المستخدمة لدعم فكرة أننا نحيا في المحاكاة -وهي نفسها تُستخدم لدى أنصار التصميم الذكي- مسألة القيم الخاصة بالثوابت الأساسية (Fine-tuned Universe) التي إن عُدلت -ولو قليلًا- لما وجد الكون أو لما نشأت الحياة على الأرض، وكذلك الطبيعة الرياضية الصارمة للقوانين الفيزيائية. التوازي بين الطرحين، التصميم الذكي وكوننا نحيا في محاكاة، مثير للاهتمام، ويظهر صعوبة قول أي شيء بصدد المصمم -في حال افتراضه- فهو قد يكون طالب ثانوي وقد يكون إله.

فكرة وجود الصانع لا تعني كمال الصانع، فمن المحتمل أنه صنع “الكون” بحسب الكون الذي يعرفه هو، تمامًا مثلما نصمم محاكيات حاسوبية للظواهر التي نعيشها ونعرفها بدورنا. إن افتراض مشابهة مصمم المحاكاة بنا (وبالتالي كونه مبرمج طبيعي) يسمح بتخيل العقبات التي يواجهها وكيف يتحايل عليها، كم يفعل المبرمجون البشر، وهو ما يسمح بدوره بتقديم بعض الاقتراحات لكيفية اختبار هذه الفرضية. وهذه المسألة -طبيعة المصمم- يتفاداها تمامًا أنصار التصميم الذكي. الاختلاف بين الطرحين ميتافيزيقي، برغم أن الفكرة الأساسية متماثلة لديهما فنحن نعيش في كون مُصمم. جماعة التصميم الذكي يعتقدون بأن المصمم هو الله والآخرون ينسبونه لحضارة أعلى. في الحالتين لسنا أمام خلاف علمي يمكن اختباره، بحكم أن الصانع مفارق لعالمنا الذي خلقه ولا يمكن الوصول إليه من خلاله.

كل هذا يتفاداه أنصار التصميم الذكي الذين يرغبون بالتدليل على اعتقاداتهم الدينية من خلال تقديم ادعاءات بلبوس العلم. يتفادون نتائج الفشل والنقص والضعف في العديد من الأنظمة ويبررون هذا بالإحالة إلى أهداف وغايات خفية للصانع، الله. لكن هذا هو بالتحديد ما ليس علميًا، فالنظريات لا تُختبر بل تُقدم بهدف دعم اعتقاداتنا، فيتم اختيار ظواهر والتغاضي عن غيرها إن لم تتناسب مع هذه المعتقدات. التصميم الذكي ليس نظرية علمية، بل محاولة لإعطاء مظهر علمي لاعتقاد ديني (ضد معيار عدم الاهتمام)، حيث يصيغ مفاهيمه بشكلٍ تتفادى معه الاختبار أو حتى الوصول بها إلى إمكانياتها المنطقية، عبر ربطها بتصورات لا يمكن للعلم أن يقول شيء بصددها مثل الغاية والخطة والهدف وجميعها مفاهيم قصدية تُنسب بدورها إلى “مصمم” لا يمكن لنا أن ندرك عمق أفعاله.

إن كنت مؤمنًا، مؤمنًا بمصمم متفوق ومفارق لا يمكن لك إدراكه وفهمه، فإنك سترى تصميمًا أينما وجهت نظرك ولا يمكن لأي شيء أن يفند اعتقادك هذا. حتى غياب التصميم أو سوءه أو فشله، ستبرره في النهاية بأنك غير قادر على فهم “غاية” و”قصد” هذا المصمم في هذه الحالة.

العلم والدين، أنماط التفسير

2007 استضافت مجلة دير شبيغل الألمانية عالم أعصاب وفيلسوف قانون[7]، ودار النقاش حول الحرية والمسؤولية والعقوبة والحتمية البيولوجية. بحسب عالم الأعصاب، الذي ينطلق من العلم كقاعدة تفسيرية، فإن سلوكنا محكوم بحتمية بيولوجية تظهر خلال دراستنا للدماغ. من جانبه، قدم فيلسوف القانون اعتراضًا مهمًا على حصرية تناول سلوكنا من زاوية ما يطرحه عالم الأعصاب. فما الذي نفعله -إذا قبلنا هذا التفسير العلمي- عندها مع المسؤولية الشخصية والحرية اللتان تشكلان أساس القانون والاجتماع البشري؟ المسؤولية الشخصية والحرية ليست مقولات علمية، على العكس من العصبونات والنواقل العصبية والقواعد الكيميائية والكهربائية التي يراقبها عالم الأعصاب. هل يمكن رد الحرية والمسؤولية الشخصية إلى هذه العصبونات والنواقل؟ لكن السؤال نفسه ليس سؤالًا علميًا، بل سؤال فلسفي.

إن الحرية والمسؤولية الشخصية ليست مقولات علمية، حيث يتحدد معناها في سياق آخر وهو القانون. العلم نمط تفسير تحكمه مجموعة من القواعد التي تحدثنا عنها مسبقًا، العالم محكوم بقوانين سببية مصاغة بشكل رياضي وأي ظاهرة طبيعية يجب تفسيرها بشكل طبيعاني قابل للاختبار تجريبيًا. بالمقابل فإن القانون يقدم سياق تداولي آخر، يقوم على الحرية والمسؤولية الشخصية والنيات، والتي بدورها تختلف عن العلم الطبيعي. القواعد التي تحكم الجدال القانوني وشروط الصلاحية فيه تختلف عن تلك التي تحكم الجدال العلمي، فيكون القانون والعلم أنماط تفسير مختلفة، لا يمكن رد إحداها للأخرى وإخضاعها لها.

ما يصدق على العلاقة بين القانون والعلم، يصدق على أشياء أخرى مثل الأخلاق، وأيضًا الدين.

يدافع ستيفن جاي غولد[8] عن هذا الموقف. بحسب غولد، يسعى العلم إلى تفسير الظواهر والوقائع الطبيعية، فيما يتناول الدين نوعًا آخرًا من الظواهر، لا تقل أهمية عن تلك التي يتناولها العلم، وهي تدور حول غايات الإنسان والمعنى والقيم. بالتالي فإنهما، العلم والدين، يحيلان إلى أشكال متباينة من التفسير، بما يجعلهما متكاملين أكثر من كونهما متخاصمين. لكن العلاقة الواقعية بينهما لا تظهر بهذه السلاسة. فكل الأديان، وتحديدًا الإبراهيمية، اضطهدت العلماء ولاحقتهم وضيقت على العلم وحاربته.

لا يقتصر الدين على قضايا المعنى والغايات والقيم وحسب، وهي قضايا يمكن للفلسفة مثلًا تناولها ومنازعة الدين عليها. ما يميز الدين أنه يقدم حكاية عن البدايات وعن كيفية وصولنا إلى هنا. تتقاطع هذه الحكاية في إطارها التفسيري لحد واسع مع ما يقدمه العلم بدوره كتفسير لما نشهده ونراه، الكون والأرض والنجوم والبشر والكائنات. لا تقتصر مساحة التقاطع على التاريخ الطبيعي، بل تتناول أيضاً التاريخ البشري. فنحن نعرف -بفضل التاريخ والآثار- أن القصص الدينية وأبطالها، إبراهيم ونوح وطوفانه وموسى وخروجه من مصر وداوود وسليمان ومملكتهما، ليست سوى أساطير[9].

هذه المساحة المشتركة والمتنازعة بين الدين والعلم قد تكون مفتاحًا لحروب أو لمصالحة، وهذا يتعلق بنمط تناول العلم والدين لهذه المساحة المشتركة. فالدين قد يتناولها بوصفها مساحة للعظة والعبرة والمعنى، ولكن أيضًا بوصفها ساحة للإخبار عن وقائع حصلت، تاريخية أو طبيعية، وتفسيرها (تفسير الوقائع). بدوره، يقتصد العلم في تناوله لهذه المساحة على مهمته بوصفها تفسير قانوني وطبيعاني للظواهر، لكن يمكن أيضًا أن نجد من يسعى إلى فرض القول العلمي بوصفه القول الوحيد والممكن في هذا الشأن ولا معنى لأي تناول آخر من أية زاوية كانت، وذلك فيما يخص المعنى والقيم والغايات أيضًا.

نحن نواجه نزوعين دائمين. النزوع العلموي، الذي يهدف إلى اعتبار العلم النمط التفسيري الوحيد المقبول، وبهذا يجب رد جميع التفسيرات الأخرى إلى التفسير العلمي أو رميها إلى الخارج بوصفها بلا معنى أو مجرد جهل وشعوذة. معضلة هذا التوجه هي امتناع هذا الرد في العديد من السياقات، والتحديات التي تطرحها محاولة الرد والتي لا نملك لها حلًّا، يجعل هذا النزوع من العلم ما يشبه دينًا، عقيدة نعتقدها ونؤمن بها، ومعها نصبح عميانًا عن كل ما يقع خارج حدود العلم كنمط تفسيري حتى لو كان شديد الأهمية لنا كبشر.

بالمقابل فإن التوجه الآخر يسعى إلى رد كل تفسير إلى الدين وإخضاعه له، حيث يلجأ إلى استخدام استراتيجيتين أساسيتين. تتمثل الأولى بقمع العلم وملاحقته (ما لا عجبه منه) حين يتعارض مع اعتقاداته الدينية. الثانية، محاولة صياغة الاعتقادات الدينية بشكل علمي بتوسط العلوم المزيفة مثل الإعجاز العلمي والتصميم الذكي. وفي الحالتين لا يكون العلم وحده الخاسر بقمعه وتشويهه وتزييفه، بل أيضًا الدين الذي يوضع في مواجهة مستمرة مع العلم، بحيث يتم التخلي عنه في نهاية المواجهة بوصفه خرافة.

يعرف بولس الرسول الإيمان، باعتباره أساس الدين، بشكل جميل حين يقول في رسالته إلى العبرانيين 1:11 “وأما الإيمان فهو الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تُرى”. الدين يطلب الإيمان، الإيمان بما لا يمكن رؤيته أو تبريره. بالمقابل فإن العلم يطلب الشك الدائم والبرهان والدليل، والبرهان والدليل يعتمدان على معرفتنا التجريبية وتطورها ولا يمثلان حقائق يقينية. فضيلة الدين الإيمان، فيما فضيلة العلم الشك.

الفصل بين ميداني الدين والعلم لا يعني عدم دراسة الدين، بوصفه ظاهرة طبيعية، بشكل علمي. لنعود إلى القانون، حيث يمكن دراسته بشكل علمي (انثروبولوجي) يتناول نشأة وأصول أفكار العدل والعقاب والمسؤولية القانونية، وكيف تطورت والسياقات التي حكمت هذا التطور. لكن النقاش الانثروبولوجي حول القانون ليس مكافئًا للنقاش القانوني نفسه حول العقاب والعدل والمسؤولية القانونية. يحيل كل من النقاشين (الانثروبولوجي حول القانون والقانوني) إلى أنماط مختلفة من التعليل ويجيبان عن أسئلة متباينة. بذات الطريقة، دراسة الدين علميًا ليست هي نفسها نقاش ديني، فهي لا تجيب عن ذات الأسئلة التي يحاول الدين أن يجيب عنها.

الحاجة إلى الفصل بين الدين والعلم لا تتعلق وحسب بتعايشهما وإدراك تباينهما كأنماط تفسير مختلفة، بل تنطلق أساسًا من الحاجة إلى صيانة العلم والحفاظ عليه بوصفه النطاق المركزي والأساسي للعقلانية والموضوعية، اللتان لا تملكان أرضية صلبة لمعناهما إلا بالإحالة إلى العلم. غير أن هذا يشترط بدوره تمييز العلم كنمط تفسير عن غيره، بما يسمح من إعطاء معنى حقيقي للموضوعية والعقلانية نستخرجه من العلم بوصفه المغامرة الأمثل لهاتين الفضيلتين اللتين تميزنا كبشرٍ عن سوانا من الكائنات.

المصادر:
[1]فجر العلم الحديث: الإسلام – الصين – الغرب. توبي هف. ت: محمد غصفور. عالم المعرفة، عدد 260، 2000.
[2]Andrew Cunningham&Perry Williams. (1993). De-centring the 'big picture': The Origins of ModernScience and the modern origins of science. BJHS(26), 407-432.
[3]لم تستخدم كلمة عالم (scientist) إلا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، عندما صاغ وليم وول من جامعة كامبردج هذه الكلمة لأول مرة.
[4]Robert K. Merton, 1942. The Normative Structure of Science. In: The Sociology of Science. Theoretical and Empirical Investigations, 1973, S. 267–278.
[5]منطق الكشف العلمي. كارل بوبر. ت: ماهر عبد القادرمحمد علي. دار النهضة العربية.
[6]من أجل معلومات أكثر عن فرضية كوننا نحيا في محاكاة حاسوبية، انظر
https://www.scientificamerican.com/arabic/articles/news/are-we-living-in-a-computer-simulation/
https://www.simulation-argument.com/simulation.html
[7]دير شبيغل، عدد 31 لعام 2007. انظر هنا
[8]صخور الزمان: دور العلم والدين في اكتمال الحياة. ستيفن جاي غولد. ت: محمود خيال. المركز القومي للترجمة. 2008.
[9]The Bible Unearthed: Archaeology's New Vision of Ancient Israel and the Origin of Its Sacred Texts. Israel Finkelstein & Neil Asher Silberman. The Free Press. 2001.
تمت ترجمة الكتابإلى العربية بعنوان "التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها" من قبل سعد رستم وصدر عن دار صفحات للدراسات والنشر. المزعج في الترجمة العربية هو التدخل الدائم والمستمر للمترجم انطلاقاً مما يعتبره الحق الإسلامي في مواجهة "التحريف" اليهودي. انظر أيضاً،آرام دمشق وإسرائيل في التاريخ والتاريخ التوراتي. فراس السواح. دار علاء الدين. 1995.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: موريس عايق

تدقيق لغوي: مرح عقل

اترك تعليقا