العِلمانوفوبيا العربية والحكم الإسلامي المُسيطر
العِلمانية وأسباب رفضها في الأوساط العربية
في البداية، العلمانية هي اتجاه أيديولوجيّ يشير إلى فصل الدين عن الدولة بشكل أساسي، وإبعاد سلطة رجال الدين عن الحكم السياسي ليكون هذا المصطلح مقابلًا لمصطلح الثيوقراطية تِبعًا لذلك.
وكالكثير من المصطلحات الأيديولوجية التي يُساء فهمها في المجتمعات العربية، تم تداول مصطلح العلمانية بطريقة غير صحيحة بالنسبة إلى ما يشير إليه في الحقيقة، وكان هذا التداول المسيء يخدم فئة رجال الدين بشكلٍ خاص.
لكن سوء الفهم هذا امتد ليشمل نظرة اجتماعية عربية شاملة عن العلمانية لتصبح النظرة شبه ثابتة تقريبًا على امتداد سنواتٍ عديدة من ربط العلمانية بالإلحاد وإنكار واحتقار الأديان وهذا عكس ما تُشير إليه في الحقيقة.
فهذا التصوّر الجماعي للعلمانية على أنّها الوحش الذي أطلقه الغرب على المجتمعات العربية يزيد من الإصرار على حصر نجاح الدولة بتطبيق النظام الإسلامي مع أن الدول الإسلامية أثبتت فشل هذا النظام سياسيًا، بالإضافة إلى غضِّ النظر عن نجاح الدول العلمانية اقتصاديًا واجتماعيًا.
مِن أين بدأت هذه النظرة؟
هنالك العديد من الأسباب التي أدت إلى سوء الفهم للنظام الأيديولوجي الخاص بالعلمانية بشكل أساسي، سأذكر بعضًا منها:
1- اعتبار فصل الدين عن الدولة والحكم السياسي احتقار للأديان وإلحاد بشكل عام:
على العكس من ذلك فإن العلمانية بفصلها للدين عن الحكم السياسي، أشارت إلى حرية ممارسة كل فرد للدين الذي يدين به بدون فرض دين واحد على كافة الأفراد بشكل سياسي، بل تركت لكل فرد حريته لإقامة شعائر دينه الخاص، فللبوذيِّين نفس ما للمسلمين وللمسيحيين في الدولة العلمانية من حق لممارسة شعائرهم بكل سلام. فبعض الدول الإسلامية على سبيل المثال تمنع الطعام والشراب بشوارعها في أيام الصيام، وهذا بالتأكيد ما لا يَحدُث في الدول العلمانية.
إن ارتباط الدين بالنظام السياسي يؤدي إلى تضييق الحريات بذريعة التعاليم الإسلامية كما يَحدث في إيران والسعودية من تحديد وفرض إجباري ظالم لملابس المرأة الموحدة بالزي الديني مما يثير الظلم لبقية الأقليّات من الأديان الأخرى غير المجبرة على ممارسة دين غيرها بسبب قانون وُجد بدستور الدولة ويتبع لذاك الدين.
2- اعتبار العلمانية مؤامرة غربـيّة على الحكم السياسي للدول العربية:
من الطبيعي إذا كان الحكم السياسي للدول العربية ذا صبغة دينيّة، أن تشار أصابع الاتهام على الدول الغربية العلمانية، لكن من المهم أخد النظام العلماني بأيديولوجيته الإجتماعية السياسية العامة وليس بالدول التي تطبقه بصورة شخصية، فهنالك العديد من الدول العربية التي بدأت بتطبيق العلمانية وأثبتت نجاحها وتقدمها على الصعيد الاجتماعي مثل تونس .
3- الاعتقاد أن فصل الدين عن المناهج التعليمية يؤدي إلى ضعف في التربية الدينية:
وعلى العكس من ذلك أيضًا، فإنّ وُجود المنهج التعليمي الدينيّ وطريقة تدريسه المرتبطة بالتلقين والحفظ وتحصيل العلامات هو ما يؤدي إلى ضعف التربية الدينية، باعتبار الدين تخصص منهجي علمي يُدرِّس ما يتنافى مع الضرورة العلمية للطلّاب في استخدام الشكّ للوصول للحقائق الواقعية وعدم الاعتماد على الإيمان اليقيني الثابت والمتوارث في معظم الأوقات. وترديد وحفظ المواد دون مناقشتها أو نقدها، بالإضافة لمناقضة الدين مع العلم في كثير من المواضع التي تجعل فصل الدين عن الوجود العلمي والمنهجي هو الأرجح.
4- الجزم بأن الدين كافي لينظم حياة بأكملها:
إن الدين عبارة عن جزئية من منظومة المعتقدات الاجتماعية وبالتالي يعتبر من الثقافة المعنوية الخاصة بمجتمع أو بفئة من الأشخاص، فإن الرؤية الضيقة السائدة والتي تفيد بجعل الدين يحكم الحياة بكافة جزئياتها هو من الأمر الخاطئ والذي يكون في غير مصلحة الدين نفسه لأنه يعرضه للتسييس والتغيير تِبعًا للأهواء والمصالح.
فإن الوطن العربي في وضعه الحالي المتأزم هو في أمس الحاجة لنظام عام وشامل يركز على الانتماء الإنساني الخالص بعيدًا عن أي انتماءات فردية، والذي يساهم في إرساء أسس العدالة والمواطنة لجميع الأفراد بمختلف دياناتهم وانتماءاتهم دون أي احتكار سياسي أو ديني لفئة على الأخرى.
ما الذي تتضمنه العلمانية لتكون هي الحل في ظل الوقت الحالي؟
إن الحفاظ على الدين وجوهره الروحاني يقتضي إبعاده عن أهواء السياسيين لعدم جعله عرضة للتحريف والتغيير، فإبقائه للممارسة الفرديّة وعدم تعميمه كنظام قانوني على كافة القطاعات في المجتمع يُحافظ على وجوده وبقائه، عكس ما يعتقده الأغلب بأنه مؤامرة غربية تقتضي بالقضاء على الديانة الإسلامية، وهذا هو جوهر العلمانية بشكل أساسي.
فعلينا التمييز بين الدول الملحدة والدول العلمانية، فالدول العلمانية هي التي تتبع النظام الأيديولوجي الذي أشرنا له سابقًا، أما الدول الملحدة فهي التي تميل لإلغاء أبسط الملامح الدينية لكافة الأديان، فقد تتدخل في ممارسة الفرد لأحد نشاطاته الدينية والتي تتضمن إظهارًا لممارسة هذه الشعائر في الشوارع أو الأماكن العامة لمخالفة ذلك مع سياساتها الدستورية، ولكن مع قلة وجود الدول التي تتسم بهذا النظام الإلحادي المُسيَّس، إلا أنه لا يختلف عن صبغ وفرض الدين الواحد على أفراد الدولة، فهنا يَكمُن دور العلمانية في جمع الأفراد على هدف إنساني واحد باختلاف أديانهم وممارستهم لها.