الضرورة العلية: عند الحكماء المسلمين وديفيد هيوم
أ. الضرورة العلية عند هيوم:
يؤمن هيوم -دون ملابسات- بمبدأ العلية، لكن يؤكد أن هذا المبدأ لا يقبل الاستدلال ولا البرهنة عليه. وبالتالي، فهو يرى أن الإيمان به إيمان طبيعي؛ فإنكار هيوم العلاقة الضرورية بين العلة والمعلول يتحدد بما يلي:
1. مقام علم المعرفة؛ بمعنى أنه ينكر قدرة العقل أو التجربة على فهم علاقة ضرورية بين الحرارة وتمدد الفلزات، على سبيل المثال.
2. إنكاره إنكار للضرورة المنطقية (والتي سيكون الرد عليه بخصوصها في الأسطر القادمة، وبيان الاختلاف في المصطلح بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية)، وليس للضرورة الأنطولوجية.
3. متى ما افترضنا في خصوص ظاهرتين مترابطتين أو متعاقبتين، أننا على علم بعلاقة علَية بينهما -فضلًا عن علمنا بتعاقبهما- فإن هيوم سيعُدّ العلاقة بينهما ضرورية، لأنه يعتقد باستحالة الصدفة.
فهيوم يقول: إن ما يمكن إدراكه من العلية والمعلولية، بواسطة الإحساس والتجارب؛ لا يتجاوز ثلاثة أشياء: أحدها الاتصال، والآخر التعاقب الزماني، والثالث الارتباط الدائم بين العلة والمعلول.
ويواصل حديثه قائلًا: ولكننا لا نستطيع، من خلال هذه الأشياء الثلاثة، أن ننتزع الوجوب والضرورة المنطقية. إذن، كيف تدًعون أنه كلما كانت العلًة فلابد أن يكون المعلول -أيضًا- بالضرورة؟ وكذا العكس؟ فمن أين جئتم بهذه الضرورة المنطقية؟
ومن تلك الأشياء الثلاثة يستنتج هذا الواقع التجريبي، وهو الاتصال الدائم فحسب دون الضرورة المنطقية.
ولو سلمنا بدعوى هيوم هذه، فإنه يتعذر علينا الانتقال من الممكنات إلى واجب الوجود (من المعلول إلى العلة) عن طريق الضرورة، ويتعذر علينا -أيضًا- الانتقال من واجب الوجود إلى الممكنات عن طريق الضرورة المنطقية، فينهار البرهان اللِّمي والبرهان الإنّي، لأن هيوم ينكر أساس نظام العلية والمعلولية؛ بمعنى أنه يقول بأن العلية والمعلولية لا تدل -بأي نحو من الأنحاء- على الضرورة المنطقية، ومن ناحية التجربة تدل -فقط- على نسبة مئوية في الاحتمال التجريبي مما يستخدم دائمًا في الأساليب العلمية، فالعلوم الطبيعية تتعامل بالاحتمال ولا تعتمد على اليقين والضرورة المنطقية.
وفي الأدلة المنطقية لا يُعتمد على النسبة المئوية، وإنما تُقام على أساس الضرورة. والتناسب بين العلة والمعلول -من وجهة نظر هيوم- يتمتع بنسبة مئوية فحسب. غاية الأمر أنها نسبة عالية يمكن الاعتماد عليها، وحتى لو كانت النسبة مائةً بالمائة فإنها لا تستلزم الضرورة المنطقية.
ب. العلية عند ابن سينا والحكماء المسلمين:
أولًا: كلام ابن سينا في العلية
يقول ابن سينا ما قاله هيوم في الضرورة العلية بين الأشياء بصورة أخرى؛ في “الإشارات والتنبيهات” فصل في أن الأجسام لا علية فيها ولا معلولية؛ غاية الأمر أنهم يقولون: هذا بسبب آخر. فدليل ابن سينا على هذا الموضوع هو قوله: لو كانت العلية في الأجسام فإنه لا معنى -حينئذٍ- للوضع والمحاذاة فيها. فالجسم إذا أردنا أن يكون له تأثير في جسم آخر، فلا بد أن يكون له وضع وموازاة ومحاذاة معه. إذن، في تأثيرات الأجسام: يُشترط لون من الوضع والمحاذاة بشكل ضروري، بينما في العلية والمعلولية الحقيقية لا وجود أصلًا للوضع والمحاذاة. فقبل التأثير والعلية الحقيقية لا يوجد شيئان حتى يكون أحدهما مؤثرًا والآخر متأثرًا، بينما في الأجسام لابد من وجود شيئين قبل التأثير حتى يكون بينهما تأثير وتأثر، ويكون هذا التأثير والتأثر نتيجة التقارن والتغاير والارتباط والتعاقب الزماني. في العلية والمعلولية الحقيقية (وهى إفاضة الوجود) لا وجود للتأثير والتأثر المقولي، وإنما هو بمعنى الإيجاد والإبداع والإفاضة. فالعلة تنقل المعلول من كَتم العدم إلى ساحة الوجود. هذا هو معنى العلية والمعلولية الحقيقية.
ففي مجال علاقة الله بالعالم نبحث عن مثل هذه العلية والمعلولية، وليس عن تلك التأثيرات والتأثرات الواقعة في عالم الأجسام، والقائمة على الوضع والمحاذاة والتقابل بين الأشياء. فنحن نقول: “كان الله ولم يكن معه شيء”. فغير الله لا يوجد شيء، بمعنى أنه -في مرتبته الوجودية- لم يوجد ولن يوجد أي شيء من الأشياء؛ لا أن الله والعالم كانا في السابق، ثم أثر الله في العالم. إن هذا اللون من التأثير والعلية هو مورد تصديقنا في مجال الطبيعة فقط، لكن هذا خارج عن نطاق بحثنا في العلية والمعلولية. ففي مجال العلة والمعلول الذي نبحث عنه يكون المعلول ظهورًا للعلة وتجليًا لوجودها، بحيث يصبح تخيل انفصالهما أمرًا مستحيلًا.
قد تَبيّن تعريف العلية والمعلولية من وجهة نظر الفلاسفة المسلمين، وقمنا بالمقارنة بين قول هيوم وقول ابن سينا، ونصل هنا إلى إثبات هذا الموضوع.
فكيف أثبت الفلاسفة المسلمون أن عالم الوجود معلول إبداعي من تجليات الله؟ وكيف يمكننا القول بمثل هذه العلية بين وجود الله -سبحانه- ووجود العالم؟ وكيث نثبت أن العالم معلول للحق -تعالى-، وبهذا اللون من الإفاضة، لا بالصورة التي يقولها هيوم.
العلية الإبداعية أو قاعدة الصدور:
نحن ندعي أن العلية -بمعنى الإفاضة والإبداع- يمكن إثباتها عن طريق هذه القاعدة: ”الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد” فحسب. ومن الأفضل أن نفهم قاعدة الواحد من لسان كاتبها، وعندئذٍ نفسرها ونشرحها. فقاعدة الواحد نفسها تعلمنا العلية بهذه الصورة: أن العلة الواحدة البسيطة من كل جهة، ليس فيها أي لون من ألوان الكثرة الجنسية أو النوعية أو المفهومية أو الفصلية أو الوجودية أو أي كثرة أخرى، فهي توجِد شيئًا واحدًا فحسب. إن العلة الواحدة البسيطة لا توجد إلا معلولًا واحدًا وفعلًا واحدًا، ولا يمكن أن يصدر فعلان -بأي نحو من أنحاء الكثرة- من الواحد الحقيقي. وأصل هذه القاعدة كان مشهورًا بين فلاسفة القرون الوسطى بأنها مأخوذة من ابن سينا، كما أشار توما الأكويني في بعض كتاباته، وهو ينسبها إلى ابن سينا ويهاجمها بشدة. وقاعدة الصدور لابن سينا هذه يسميها فلاسفة القرون الوسطى: Emanation، بمعنى الشيء المنبثق من مبدأ.
وبناءً على هذا، لا مجال هنا للعلية الطبيعية، لأنها تأثير تدريجي. وأي واحد من المعايير والاعتبارات التي استخدمها هيوم في العلاقة بين العلة والمعلول لا يجري في هذه القاعدة. فبين الصادر والمصدر لا يوجد تعاقب زماني أصلًا. ولا وجود -أيضًا- للاتصال الزماني والمكاني، لأن الاتصال يتم بين شيئين، وليس في الإفاضة شيئان وإنما أحدهما مظهر للآخر، وظهور الشيء ليس غير ذلك الشيء. فأية واحدة من علاقات العلية والمعلولية لهيوم لا تجري في هذه القاعدة، فـ الـ Emanation يعني الظهور؛ ولهذا، يذكر ابن سينا هذه القاعدة في الإشارات تحت عنوان “تنبيه”، بينما هو يطلق على جميع الفصول المهمة للإشارات اسم ”إشارة”، ويسمي كل واحد من الأبواب بـ ”النمط”، ويعني به درسًا واحدًا من البحث وتداول الرأي.
وكل الأمور التي تحتاج إلى تذكير فحسب، ولا تحتاج إلى استدلال، كالأوليات وما يشبهها في المنطق، والمسائل العامة في الفلسفة (كالقضايا التي تكفي التصورات الثلاثة فيها للإذعان بنسبتها، فيكفي التنبية والتذكير بهذه التصورات، أو يحصل التصديق بها بمجرد التذكير ببعض المقدمات)؛ فإنه قد أدرجها تحت عنوان “تنبيه”.
فيقول -مثلًا-: إن هذه القضية :”كل ممكن فهو محتاج إلى المؤثر”هى من الأوليات، بمعنى أنه إذا فهمنا معنى الإمكان ومعنى الاحتياج إلى المؤثر فإن ذلك كافِ للإذعان بأن ”كل ممكن فهو محتاج إلى مؤثر”، ولا نحتاج -بعدئذٍ- إلى الإثبات والاستدلال. فتصور الموضوع والمحمول في القضية، وتصور النسبة والعلاقة بينهما، كافٍ للإذعان بالنسبة، ولا حاجة إلى الاستدلال خارج هذه التصورات؛ وتسمى هذه بالأوليات.
وقد يرفض شخص هذه القضية، ولكننا -إذا تعمقنا في قوله- نجد أن منشأ رفضه لها هو أنه لم تكتمل لديه التصورات الثلاثة، أي لم يفهم معنى الإمكان أو معنى المؤثر أو معنى الاحتياج إلى المؤثر. فكثير من الناس -ومنهم الماديون- لا يعترفون بأن الممكن محتاج إلى المؤثر، وما ذكرناه هو منشأ هذا الطراز من التفكير، وإلا -إذا اكتملت التصورات الثلاثة- فإن الإذعان بالنسبة ضروري ولا يقبل الانفكاك عن تلك التصورات.
ويقول المحقق الطوسي في شرح هذا الموضوع: إن الذين يُشْكِلون على قاعدة الواحد لم تكتمل تصوراتهم الثلاثة حول هذه القاعدة. ولما كان ابن سينا يعد قاعدة الواحد من جملة الأوليات فهو لهذا يذكرها تحت عنوان ”تنبيه”، ويقول: لابد أن نبين المقصود من الواحد، ما هو؟ وما هو معنى الصدور؟ وما هو المقصود من هذا الواحد الذي يصدر من ذلك المصدر؟ فإذا تم تصور أطراف القضية بشكل اوضح. فإن ذلك كاف للإذعان بالنسبة، ولهذا اكتفى الشيخ بعنوان”تنبيه”، ولم يعقد لهذا الموضوع فصلًا مستقلًا في الإشارات تحت عنوان ”إشارة”. إذن، يتعين علينا أن نشرح هذه التصورات الثلاثة لهذه القاعدة؛ فإذا بينا ما هو معنى الواحد، وما هو معنى الصدور، فإننا سوف نضطر -بحكم العقل وضرورة المنطق- للاعتراف بصحة قاعدة الإفاضة أو الصدور وكونها من الضروريات الأولية. وفي القواعد الفلسفية لا يُفرض موضوع شخصي، وإنما موضوعها -دائمًا- كلًي، فحتى إذا كان البحث عن واجد الوجود، فإنه مفهوم كلًي؛ غاية الأمر أنه منحصر في فرد واحد، والبحث عن الجزئيات ليس من شأن الفلسفة إطلاقًا.
وفي قاعدة الواحد: لا يفرضون منذ البدء أن الواحد هو الله، ولكن الشروط التي تُذكر للواحد لا تشمل غير الله ولا تنطبق على سواه، ولكن موضوع القاعدة مباشرةً ليس هو وجود الله. فكل واحد إذا كان واحدًا حقيقيًّا، وليس واحدًا نوعيًّا، ولا واحدًا جنسيًّا، ولا واحدًا عرضيًّا، وإنما هو واحد ليس فيه كثرة مقدارية ولا كثرة ماهوية، كما يقول كثير من المتفلسفين المحدثين، من أن الجسم لما كان مركبًا من ذرات فلا معنى لكونه مركبًا من مادة وصورة، واعتبروا المادة والصورة لونًا من الخيال، أو تصوروهما لونًا من الكثرة المقدارية؛ بينما العناصر تشكل كثرة مقدارية للجسم، والتركيب من مادة وصورة ليس تركيبا مقداريًّا؛ فالماء -مثلًا- مركب من هيدروجين وأكسجين، فهذه كثرة مقدارية للماء، ونفس الهيدروجين والأكسجين قد يكونان مركبين من ذرات؛ ولما كنا لا نقول بالجزء الذي لا يتجزأ، فتلك الذرات -أيضًا- مكونة من اجزاء أخرى، وحتى على القول بالجزء الذي لا يتجزأ -إذا وصلنا إلى ذلك الجزء- فإنه مركب -أيضًا- من مادة وصورة؛ فهذه الهيولي والصورة ليس لها كثرة مقدارية وإنما هى كثرة ماهوية، فالذرة -وإن لم تتجزأ- فهى مكونة -من وجهة النظر الفلسفية- من هيولي وصورة، سواء أكانت قابلة للتجزئة الخارجية أم لا، فلا علاقة للكثرة المقدارية بالكثرة الماهوية.
وكذا تركيب الممكن من وجود وماهية، فإنه من هذا القبيل، فالوجود والماهية ليسا كثرة مقدارية وعددية؛ ”كل ممكن فهو زوج تركيبي من ماهية ووجود”، وهذا -أيضًا- لا علاقة له بالمادة والصورة التي هى كثرة ماهوية خارجية، ولا علاقة له بالكثرة المقدارية. والحاصل أنه لا توجد في هذا الواحد -الذي هو موضوع قاعدة الواحد- أي لون من ألوان الكثرة، فهو واحد صرف بسيط ليس فيه أي كثرة، حتى كثرة الماهية والوجود، لأنه في مورد الحق -تعالى- لا تحقق لماهية ووجود: “الحق ماهيته إنيته”. إذن، مقصودنا هو الواحد المطلق، فمثل هذا الواحد لا يصدر منه إلا شيء واحد. إذن، من لوازم هذه القاعدة الفهم الدقيق لمعنى الوحدة، وإذا لم يُفهم معناها الصحيح، فإنه يؤدي إلى إيراد كثير من الإشكالات على القاعدة. وبفهم معنى الوحدة تزول هذه الإشكالات بنفسها؛ والآن نصل إلى المعنى التصديقي للقاعدة:
إثبات قاعدة الواحد من لسان ابن سينا:
لقد استخدم ابن سينا -منذ ألف عام- المنطق الرمزي في إثبات هذه القاعدة قائلًا: لو فرضنا شيئًا ليس فيه أي لون من ألوان الكثرة، ثم نسمي الصادر الأول منه ”أ” فهو معلوله الأول، والمعلول الثاني هو ”ب”.
وهذا اللون من الاستدلال يشبه استدلال المنطق الرمزي حيث تستخدم الحروف بدل الألفاظ.
لو كان هناك شيء واحد قد صدر منه معلولان -ولابد من الالتفات إلى أن هذين المعلولين ليسا متتاليين، وإنما هما يصدران من العلة في عرض بعضهما- فنحن نسأل ضمائركم اليقظة: هذا الواحد، المصدر، الذي صدر منه “أ”، هل يكون صدور”أ” من هذا المصدر هو عين صدور”ب” منه أم لا؟
إن قلنا إنها نفس تلك الجهة، وإن هذا الصدور هو عين ذلك الصدور، فحينئذ لا تكون “أ” مختلفةً عن ”ب”، فمن مصدر واحد قد صدر شيء واحد ومن جهة واحدة وهو “أ”. فـ ”أ” و”ب” ليسا معلولين وليس بينهما أي تغاير، فلو كان “ب” صادرًا من مصدر وهو عين صدور ”أ” (عينية شخصية)، فإن ”ب” ستصبح عين “أ” لأن جهة الصدور واحدة بعينها، والزمان ليس مطروحًا في هذا المجال. وحتى إذا فرضنا فرض المستحيل فدخل الزمان هنا فإن الزمان واحد أيضًا، فإذا كان هذان شيئًا واحدًا من جميع الجهات، فلا ضرورة -حينئذ- بل وحتى لا إمكان لصيرورة أحدهما “أ” والآخر”ب”، لانه لا تغاير بينهما أصلًا. بينما فرضنا -منذ البدء- أنهما اثنان، فهذا خُلف للفرض وغير صادق قطعًا؛ ففرضنا منذ البدء أن هناك معلولين هما ”أ” و”ب”، ولكننا انتهينا بالتالي إلى هذه النتيجة وهى أن ”أ” عين ”ب” و”ب” عين ”أ”.
وأما إذا اردنا أن نغير جهة الصدور، بنحو من الأنحاء، فقلنا “أ” قد صدر من جهة، و”ب” قد صدر من جهة أخرى؛ بمعنى أنه قد صدر معلولان من شيء واحد، لكن من جهات مختلفة، كما أنني أنا قائم وأتكلم، فهذان فعلان صدرا من فاعل واحد، إلا أنه من جهتين فالجواب واضح؛ لأن ذاتي فيها كثرات عديدة ومنها هذه الكثرة، فجهة قيامي غير جهة كلامي، وجهة قدرتي على الوقوف غير جهة قدرتي على الحديث، فمبدأ الصدور يصبح شيئين وليس شيئًا واحدًا، بينما قد فرضنا -منذ البدء- أن مبدأ الصدور وجود واحد بسيط مطلق خالٍ من أي لون من ألوان الكثرة. فإن قلنا بتعدد الجهات أصبح المبدأ كثيرًا، فيخرج عن موضوع القاعدة الذي هو الواحد. وبهذا يتضح لنا أن مثل هذا الواحد لا يمكن أن يصدر عنه إلا الواحد؛ غاية الأمر أنه لابد أن نفكر في هذا الواحد الصادر: ما هو؟
إن ذلك المعلول الأول الصادر هو كل شيء، وهو الذي يسميه العرفاء “الفيض المنبسط”، بمعنى أنه فيض منبسط على جميع الأشياء، أو فيض مقدس، أو -كما يسميه الحكماء- “العقل الأول”. فإذا صدر المعلول الأول حينئذ تتحقق الكثرة، وتتوالى الكثرات، وكلها كثرات الماهيات تظهر من هذه الحدود المتعينات للوجود الواحد، وهى ليست مجعولة بالذات. إذن، قاعدة الواحد تصبح ضرورية الثبوت بالالتفات إلى أطراف القاعدة وحكم القاعدة وصدقها، ولا تحتاج إلى دليل خارج قواها، فهى، إذن، من الضروريات الأولية.
وإثبات الصدور يوفر لنا لونًا آخر من العلية والمعلولية، لا يشبه من قريب أو بعيد تلك العلية والمعلولية التي أنكرها هيوم.
ومن هذه العلية والمعلولية -بمعنى الصدور- تُستخرج الضرورة المنطقية بين المعلول والعلة.
ولما كان العالم ظهورًا لوجود الله، فهو يوصلنا إلى وجود المبدأ بالضرورة المنطقية، وكما قالوا في المنطق الرياضي: إذا أثبتنا وجود العالم، فإن هذا العالم يقودنا إلى وجود المبدأ بالضرورة المنطقية، ولكنه بقاعدة الصدور وليس بقاعدة العلية في الأجسام.
ثانيًا: العلية عند الحكماء المسلمين:
وتعني أنه متى توفرت العلة التامة لشيء، فسيكون ذلك الشيء موجودًا بالضرورة؛ وطالما بقيت العلة التامة لشيء ما معدومةً، فسيبقى ذلك الشئ معدومًا بالضرورة.
وعليه، فكل شيء ممكن موجود في الخارج هو ضروري الوجود، وضرورة وجود ذلك الشيء هي ضرورة بالغير؛ بمعنى أنه يمكن التوصل من الوجود الخارجي لأي شئ إلى أن العلة التامة لتحققه موجودة، وإلا لم يكن المعلول المنظور ليتحقق.
في إثبات العلامة الطبطبائي العلية والمعلولية، وأنهما في الوجود:
قد تقدم أن الماهية -في ذاتها- ممكنة، تستوي نسبتها إلى الوجود والعدم، وأنها -في رجحان أحد الجانبين- بحاجة إلى غيرها، وأن القول بحاجتها في رجحان عدمها إلى غيرها نوع من التجاوز، وإنما الحاجة في الوجود، لأن وجودها متوقف على غيرها.
وهذا التوقف -لا محالة- على وجود الغير، فإن المعدوم -من حيث هو معدوم- لا شيئية له، فهذا الموجود المتوقَّف عليه في الجملة هو الذي نسميه “علة”، والماهية المتوقفة عليه في وجودها “المعلول أو معلولتها”.
ثم إن المجعول للعلة والأثر الذي تضعه في المعلول، إما أن يكون وجوده، وإما ماهيته، وإما صيرورة ماهيته موجودة؛ لكن يستحيل أن يكون المجعول هو الماهية، لَمّا تقدم أنها اعتبارية -في رأي الطبطبائي وأغلب أتباع مدرسة الحكمة المتعالية عمومًا-، والذي للمعلول من علته أمر أصيل، على أن الذي تستقر فيه حاجة الماهية المعلولة ويرتبط بالعلة، هو وجودها لا ذاتها.
ويستحيل أن يكون المجعول هو الصيرورة، لأنه لا معنى نسبيًا قائمٌ بطرفيه. ومن المحال أن يقوم أمر أصيل خارجي بطرفين اعتباريين غير أصليين، فالمجعول من المعلول والأثر الذي تفيده العلة هو وجوده، لا ماهيته ولا صيرورة ماهيته موجودة، وهو المطلوب. ويقول العلامة غلام رضا الفياضي: إن المسألة انقسمت إلى أربعة آراء:
1. ما ذهب إليه الحكماء: أن المعلول يجب بسبب علته التامة ثم يوجد.
2. ما ذهب إليه المتكلمون: أن المعلول لا يصير واجبًا بسبب وجود علته التامة، وإنما يصير وجوده أولى من عدمه من دون أن يصير واجبًا، إنما يصير أولى. والسبب في ذلك ما نسبوه إلى أقوال الحكماء بأنه ينتهي إلى الجبر، وهذا ضد الدين.
3. ما ذهب إليه المحقق الطوسي في بعض كلماته (وأيضًا السيد محمد باقر الصدر) حيث يقول: المعلول يجب بوجود علته التامة إن كان الفاعل في تلك العلة التامة فاعلًا موجبًا، إما إذا كان الفاعل فاعلًا مختارًا فلا يجب. ويقول الصدر: إذا كان الفاعل مختارًا فمتى حصلت العلة التامة، لا يجب بوجود العلة التامة وجود المعلول.
4. والرأي الرابع هو ما ذهب إليه العلامة الفياضي نفسه، حيث يقول: لا يجب بوجود العلة التامة وجود المعلول وجوبًا سابقًا على وجوده.
والآن نأتي لسؤالين بخصوص هذا الأمر:
السؤال الأول:
هل يمكن أن تكون العلة التامة لشيء موجودة من دون أن يوجد ذلك الشيء؟
الجواب: لا، لأن معنى العلة التامة للشيء أنها العلة التي تُخرج ذلك الشيء من حالة العدم؛ وإذن، فإنكار الشيء إلى جانب قبول وجود علته التامة يعني أن العلة موجودة وغير موجودة في نفس الوقت؛ أنها موجودة لأن الافتراض هو وجود العلة التامة، وغير موجودة لأن معلولها غير موجود.
السؤال الثاني:
هل الممكن يوجد بالضرورة على افتراض وجود العلة التامة؟
والجواب: نعم، لأنه -بوجود العلة- إذا لم يعد ضروريَّ الوجود فسيبقى ممكنًا، ولذلك يمكنه أن يكون موجودًا أو غير موجود، وتبقى نسبته إلى الوجود والعدم متساوية؛ وعليه، فظهور الممكن إلى الوجود بحاجة إلى وجود شيء ثالث يجعل الوجود متعينًا عليه. والآن، إذا لم يبلغ الشيء الثالث -الذي يُفترض أنه علة تامة- بذلك الممكن إلى حد الوجوب، ستبرز الحاجة إلى شيء رابع، وستستمر هذه السلسلة من دون أن يوجد الممكن المنظور؛ وعليه، فمجرد أن يكون الممكن المنظور موجودًا، فهذا دليل على أن وجود العلة التامة جعل من وجوده أمرًا ضروريًّا، لأنه لو لم يجعله ضروريًّا لما كان الموجود الممكن المنظور موجودًا إطلاقًا، وهكذا يتاح القول بأن مفهوم العلة التامة يستلزم وجود المعلول ضروريًّا، وبالتالي فقبول مبدأ العلية يستدعي معه القبول بمبدأ الضرورة العلية.