السُلطة وانعدام الحساسية (مترجم)
بقلم: خوسه أنتونيو مارينا
وفقاً للورد أكتون: “السُلطة مفسَدة، والسلطة المطلقة مفسَدة مطلقة”. قال ذلك مشيراً إلى السلطة البابوية، لكننا نطبق مقولته على جميع السلطات، السياسية منها بوجه خاص. كيف تشتغل تلك العملية المُفْسِدَة؟ لعل صاحب السُلطة كان فاسداً قبل وصوله إليها. يمكن لهذا أن يحدث مع المهووسين بها؛ لكن هناك سبب آخر محتمل: السُلطة توسعية وليس لديها أنظمة للكبح، وتحتاج للحد منها من خارجها. يثير اهتمامي تفسير آخر: تؤكد أبحاث عديدة أن الصعود في المكانة يُحْدِثُ تغيرات هرمونية (R.Sapolsky)، وأن السلطة تقلل من التعاطف (P.Piff)، والكرم (S.Côté)، والاهتمام بعواطف الآخرين (S.Obhi)، وتجعل استجابة الدماغ أقل إزاء ألم الآخرين (K.Muscatell)، بعبارة واحدة: تُفْقِدُ الحساسية. لست أتهم أصحاب السلطة، فتلك كانت ردات فعل آلية للدماغ ناجمة عن عدم المساواة والبعد، والمهم هو أن يعرفوها ويسيطروا عليها. وإذا لم يفعلوا، سيظهر ترمب Trump.
تُحْدِثُ السُلطة افتتاناً ورعباً، تجذب وتنبذ. ويشجعني على معالجة الموضوع العرضُ المتجاوز للحد الذي جعله ترمب من نفسه. لقد كتب اللورد أكتون Acton عبارة تتكرر، وإن على نحو غير صحيح. ففي رسالة إلى الأسقف Mandell Creighton، مؤلف الكتاب الضخم عن تاريخ البابوية، اتهمه بعدم الحكم بالقسوة الكافية على سلوك أي منهم: “لا يمكنني أن أقبل عقيدتك بأننا لا يجب أن نحكم على البابا أو الملك كبقية البشر مفترضين افتراضاً إيجابياً بأنهم لم يفعلوا شيئاً سيئاً. فإذا كان ثمة من افتراض فهو ضد أصحاب السُلطة، ويزداد بقدر ما تزداد السلطة. إن المسؤولية التاريخية ينبغي أن تكتمل بالبحث عن المسؤولية القانونية. كل سلطة مفسدة والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة. والرجال العظماء يكادون أن يكونوا دائماً من الرجال السيئين”. لقد بالغ اللورد أكتون، من غير شك، لكن من الصحيح أنه كثيراً ما يُعْتَقَدُ بسهولة كبيرة أن الرجال العظماء تحكمهم أخلاقية خاصة، تلك التي أشار إليها ميكافيللي على نحو صارخ. كما أن خوسيه أورتيغا اي غاسيت نفسه، المفتتن بالسلطة أيضاً، يقر بتلك المخاطر المتعلقة بالاستثناء في كتابه ميرابو Mirabeau أو السياسي.
تتكرر عبارة أكتون، لكن لا يُشَار إلى الكيفية التي تُفْسِدُ بها السُلطة. إن لظاهرة السلطة مرحلتين: الوصول إليها وممارستها. ومن مرصدنا الخارجي تُرَى الصراعات الملتوية والدموية، في كثير من الأحيان، على السلطة. لم يعرف الأباطرة الرومان، على سبيل المثال، كيف تُحَلُّ المشكلة، ويبين ذلك واقعة أن أربعة وثلاثين، من بين تسعة وأربعين حكموا قبل انقسام الامبراطورية، ماتوا مقتولين. إن إحدى مزايا الديمقراطية هي السماح بالوصول إلى السلطة بطرائق أقل دموية، لكن في تلك المرحلة ليست السلطة بل الرغبة فيها هي ما يُفْسِد. بيد أن الأكثر إثارة للاهتمام هو ما يحدث عند الوصول إليها، فالسلطة يمكنها أن تُفْسِد لأنها تنزع إلى التوسع بطبيعتها. ويصف برتراند دي جوفينل Bertrand de Jouvenal في كتابه الرائع عن الموضوع هذه الدينامية.
متحدثاً عن السياسي، يكتب دي جوفينل “إن الإنسان، مفتوناً بنفسه ومولوداً من أجل الفعل، يقدِّر نفسه ويمجدها بتوسعة شخصيته الخاصة، وبإثراء ملكاته. ومن يقود مجموعة بشرية أخرى مهما كانت يشعر بتعاظم نفسه على نحو يكاد يكون جسمانياً، ونادراً ما نرى فيه ذلك الحذر والجشع مما يميز الأنانية عادةً. إن له رذائله وفضائله “الأميرية“. الشيء نفسه كان ليكتبه خوسه أورتيغا اي غاسيت.
يقتنع القائد السياسي بسهولة بأن الشيء الوحيد الذي يريده هو خدمة المجتمع، وينسى أن دافعه الحقيقي هو الاستمتاع بالفعل وبالتوسع. وأنا لا شك عندي بأن نابوليون كان صادقاً عندما قال لكولينكور Caulaincourt: “الناس واهمون: أنا لستُ طموحاً. إنني آسف لرزايا الشعب، وأريد أن يكون الجميع سعداء، وسيكون الفرنسيون كذلك إذا ما عشتُ عشر سنين”. ما يوجد عند السياسي الحقيقي ليس أنانية وإنما هي لذة الفعل. وإنني لأعتقد بأن كينيدي كان صادقاً وبعيد النظر عندما قال: “أقدم نفسي مرشحاً للرئاسة، لأنه هناك حيث يوجد الفعل”. أما من يريد السلطة من أجل الثراء فلا يدخل في فئة السياسي، إنه يبقى في الفئة الخاصة بالوغد الذي يستغل موقعه. لا يريد السياسي أن تتحسن أحوال المحكومين، إنه يريد أن يكون هو من يحسِّنُها، ولذلك هي أنانية خارج المركز. يقولون إن كولبرت -Colbert- الوزير القوي في عهد لويس الرابع عشر، كان يبدأ نهاره فاركاً يديه بحماس لأنه من طاولة مكتبه كان يحرك فرنسا بأكملها. “اجعله يحدث Make it happen”، هذا هو الشعار. أن تجعل الأشياء تحدث، هو الشغف بالفعل. وعندما كان محتجزاً في جزيرة إلبا، الدولة الصغيرة الزائفة، انطلق نابليون لتنظيمها بالعنفوان نفسه كما لو أن الأمر يتعلق بامبراطورية.
لكن ليس هذا الجانب هو ما يثير اهتمامي اليوم أيضاً، وإنما هو ذلك الذي تؤكده أبحاث عديدة: السلطة تعيق التعاطف، والعطف، والكرم، وتُحْدِثُ تغيرات في جهاز الغدد الصماء وفي الدماغ. سوف أقوم بمراجعة بيبلوغرافية لإظهار تعدد الأبحاث، بدون إعطاء المرجع الخاص بكل واحد من هذه الأعمال للاختصار. وسأضيف أن انعدام الحساسية عند صاحب السلطة قد يكون متعلقاً بشغفه بالفعل. في الثامن والعشرين من تموز/يوليو 1914، عشية الحرب، كتب ونستون تشرشل إلى زوجته: “كل شيء يتجه نحو الكارثة والانهيار. أشعر بأنني مهتم، وجاهز للعمل، وسعيد. أليس رهيباً أن أكون على هذا النحو؟ إنني أتضرَّع إلى الله أن يفغر لي هذه الرعونة الهائلة. لكنني سأفعل كل ما هو ممكن من أجل السلام، ولن يدفعني أي شيء لارتكاب خطأ توجيه الضربة”.
مضى زمن ونحن نعرف، فقد قال لنا روبرت سابولسكي Robert Sapolsky إن التغير في المكانة، أو السلطة، يُحْدِثُ تغيرات هرمونية، وخاصة في استقلاب الكورتيزول.
أما أبحاث راسل فيرنالد Russell Fernald فيبدو أنها تشير إلى بُنَىً في منطقة تحت المهاد hypothalamus لها حجم أكبر في الحيوانات المسيطرة، لكن -وهذا هو الأمر المفاجىء حقاً- إذا تغير وضع حيوان ما، فإن أعصاب منطقة تحت المهاد عنده تشهد تحولاً مدهشاً.
أصبح عالم الأعصاب يان روبرتسون Ian Robertson مشهوراً بكتابه The Winner Effect، عن التغيرات العصبية التي يحدثها النجاح والسلطة. وقد تكرر إلى درجة الغثيان أن السلطة مُنَشِّط للشهوة الجنسية، لكن الأبحاث الحالية تراها مخدراً للحساسية الاجتماعية. هكذا يصفها روتجر بريغمان Rutger Bregman، من جامعة أمستردام.
يشير آدم غالينسكي Adam Galinsky، (من جامعة كولومبيا- الولايات المتحدة) إلى أن الأشخاص ذوي السلطة يُظْهِرون قدرة أقل على فهم وجهات نظر الآخرين.
يخلص داتشر كلتنر Dacher Keltner، استناداً إلى تجارب متقنة، إلى أن من يملك السلطة يعاني قصوراً في التعاطف، وفي مهارات قراءة المشاعر، وفي التكيف مع الناس. كل ذلك يمكن التحقق منه بواسطة الدراسات العصبية، كتلك التي قام بها Shkhvinder Obhi، و Jennifer Stellar. ويؤكد Gerben Van Kleef و Michel Handgraaf، من جامعة أمستردام، أن السلطة تقلل الكرم والعطف.
ركَّز كل من Hogeveen، و Inzlicht، وObhi على الطريقة التي تُعالَجُ بها المعلومات. فالذين يشغلون مواقع سلطوية يركزون على الأهداف ويعالجون كمية أقل من المعلومات بشأن مصالح الأشخاص الذين لا سلطة لديهم. واكتشف Paul Pitt تأثيرات مشابهة في السلطة الاقتصادية، التي تقلل من الاهتمام بالآخرين.
ووجدت Kelly Muscatelli أن دماغ الأشخاص الأثرياء كان ينشط بشكل أقل عند تأمل صور أطفال مصابين بالسرطان.
ثمة حقيقة لا تتناسب مع هذا النموذج. إن الزعماء يعلمون كيفية إدارة عواطف تابعيهم، وهذا ما درسه Goleman في كتابه Primal Leadership. قد نواجه في تلك الحالة “تعاطفاً نفعياً”، يركز على طريقة التلاعب بالعواطف أكثر مما يركز على الاهتمام بعواطف الغرباء بحد ذاتها. ومن المرجح أن لا يكون التعاطف هو الذي يقل بشكل أكبر، وإنما العطف.
يهمني أن أوضح أن ذلك لا يعني أن أصحاب السُلطة محكوم عليهم بأن يكونوا أشخاصاً سيئين؛ فالتغيرات التي ذكرتُها ليست طوعية، إنها آليات غير واعية. اهتمت الدراسات حول “اللاوعي المعرفي” (ليس له علاقة بالتحليل النفسي)، أي حول تلك العمليات الذهنية التي يقوم بها دماغنا بدون أن نكون واعين بها، اهتمت بالسلطة أيضاً؛ فالشخص الذي يمارسها بكثرة لا يكون مدركاً للكيفية التي تغير بها السلطة عواطفه، وتفكيره، وسلوكه. إن لائحة الأبحاث واسعة وتتضمن: Galinski, Gruenfeld, Magee, Chen, Lee Chai، وعلى نحو خاص John Bargh، وهو أحد الرواد في الدراسات الجديدة المتعلقة باللاوعي؛ كل هؤلاء قاموا بدراسة هذا الموضوع.
هذه هي النقطة المهمة. إن تعليم السياسي ينبغي أن يتضمن المعرفة بهذه الآليات غير الواعية التي تشتغل داخله، ليتمكن من السيطرة عليها. وهذا ما يشير إليه باحثون من أمثال Schmer و Mast و Jonas و Hall. فصاحب السُلطة ليس عليه بالضرورة أن ينجرف مع انعدام الحساسية هذه، على الرغم من أنها تتغذى حتماً بموقعه. و”يجب أن يكون مدركاً بأن كلاً من السلطة، والمكانة، تميل إلى أن تُبْعِد وتفصل” كما يشير إلى ذلك Nichols Stephens، من جامعة ستانفورد.
يَحدُّ عدم المساواة من العطف، كما يقول Stephan Côté من جامعة تورنتو. وإن تلك المسافة، وذلك البعد، حتى لو كانا في المكانة، هو ما يُنتج انعدام الحساسية.
لقد دُرِسَ سلوك هيئات الأركان العامة أثناء المعركة. ويقال إن إرسال أشخاص بعينهم إلى الموت أمر رهيب، وإرسال فرق كاملة هو أمر أسهل بكثير. كما ينسبون إلى ستالين -الذي لا بد أنه علم ذلك بالتجربة- قوله: “إن موت إنسان واحد مأساة؛ وموت مائة ألف مسألة إحصائية”. يتحدث اللورد ديفيد أوين، السياسي والطبيب الذي درس حكام القرن المنصرم، عن “hypris” صاحب السلطة، بوصفه سماً ناتجاً عن البيئة المحيطة. و“hypris”، في اليونان القديمة، هو جنون المتغطرس وصاحب السيادة.
يشير أوين إلى أن الزعيم السياسي لديه شعور بالقوة المطلقة، التي يعززها في العادة أولئك الذين يحيطون به. لذا، عادة ما يتعلمون قليلاً من التجربة. ووفقاً لـ هنري كيسنجر، الذي لا شك أنه فكر في الأمر بمعرفة وافية وكتبه بما يكفي من المزاج السيء، إن السياسيين، عند الوصول إلى الحكومة، يكونون غير قادرين على تعلم أي شيء يذهب عكس قناعاتهم، فـ”هذه القناعات هي الرأسمال الفكري الذي سيستهلكونه إبان ولايتهم”. (The White House Years, P.54). ذلك البعد والانغلاق هو ما قد يفسح المجال أمام ظاهرة دُرِسـتْ في كتاب أوصي به هوThe March of Folly، حيث تحلل مؤلفته، المؤرخة Barbara Tuchman، أمثلة من القرارات السياسية المتخذة بالضد من كل الأدلة، مع العلم بأنها كانت حلولاً سيئة مدفوعة بِعَتَهِ السُلطة.
إن غاية الراصد الخارجي (هذه المقالة) هي التعلم من التاريخ. نحن نحتاج إلى سياسيين جيدين، لأن مهنتهم تؤثر تأثيراً حاسماً في حيواتنا. لذا، إن هذه المقالة ليست هدّامة. و”الحرية، كما قال سبينوزا، هي الحاجة المعروفة”. وأن يكون السياسيون مدركين للآليات التلقائية غير الواعية التي يخضعون لها، هو الشرط الذي لا غنى عنه ليتحرروا منها.
لتجنب النسيان، خصص الرومان القدماء للقائد الداخل منتصراً إلى المدينة عبداً مرافقاً يعيد عليه: “لا تنس أنك فانٍ”. ولمساعدة القادة على التعرف على هذه الآليات التلقائية المدمرة وحماية أنفسهم منها أُوجِدَتْ مهنة “المدربين الشخصيين”، الذين بوسعهم المساعدة في كشف هذه الآليات غير الواعية وتعطيلها. إن الأخلاقيات السياسية تتطلب فعل ذلك.