الحداثة السائلة: هشاشة الروابط الإنسانية والخوف من المجهول

كتب المفكر البولندي زيجمونت باومان عن الحداثة السائلة سلسلة من الكتب، بالتشخيص والتحليل في سياق تبدل القيم بين الحداثة السائلة والحداثة الصلبة، عصارة الأفكار، وتأملات بين الأمس واليوم، العصور الحديثة بوصفها نتاجًا لإنسان مشبع بالقيم العقلانية والتفكير العلمي الموضوعي، ومجمل القيم التي رسّخها الفكر العقلاني وثقافة الأنوار، وإرث النزعة الإنسانية، إنسان الحداثة الصلبة، والقيم الثابتة في مجال تدبير السياسة والمجتمع والاقتصاد، وعود الحداثة الغربية يعني إحلال العقل وتحرير الإنسان من الترهيب والتخويف، والضرب من حديد لكل من يريد العبث بحق الإنسان في الوجود، وصيانة الكرامة، تلك معالم التفكير الفلسفي في نزعته العقلانية والإنسانية، روسو وبناء المجتمع والدولة على التعاقد، والتنازل عن الحق المطلق، وبناء المجتمع على الروابط الإنسانية النبيلة، مونتيسكيو وروح القوانين، طوماس هوبس وترويض الكائن المتوحش، وإزالة الخوف المزمن، وتحليل مساوئ حالة الطبيعة بوصفها حالة الحرب الدائمة أو ما سماه حرب الكل ضد الكل، اسبينوزا ورسالة الفيلسوف في اللاهوت والسياسة لإعمال العقل.

الحداثة الصلبة التي دشنها عصر الأنوار، فكانت بدايتها في القرن السابع عشر، ارتسمت أنوارها في نزعة الإنسان للهيمنة والسيطرة على الطبيعة، منطلق الحداثة، العودة للذات والبحث عن الحقيقة، وبناء معالم التفكير الجديد بسلاح العلم والمنهج، ولم تكن السيطرة على الإنسان والطبيعة سوى لحظة فاصلة في ظهور ملاح أخرى للعصر الجديد بملاح مغايرة تعيد النظر في مركزية الإنسان، في قوة القيم الماضية، وترسم صورة لإنسان اليوم في واقع الحداثة السائلة. إنسان الحداثة الباكرة الذي نضج حتى أصبح بلا روابط(1)، إنسان سائل في عصر استهلاكي، ملامح عامة في تفكيك الوحدة والانسجام، وخلخلة المتماسك، ومحاولة صناعة الخوف من خلال التزايد المطرد للتوحش في العالم، والحذر المستمر من الآخر، ورفع شعار التأهب لأقصى درجة .

القيم في عصر الحداثة السائلة

تنميط الإنسان من الداخل وإعادة تشكيل الثقافة حتى يتطابق والثقافة الميالة للإنتاج والاستهلاك، الحداثة والرأسمالية أنتجت كائنات تناسب تطلعاتها، وتوجهات من يرسم عالم المستقبل البشري، ترغيب الإنسان للأشياء، وتهذيب سلوكه بالإعلام والإشهار، وتقديم حوافز مادية، واللعب على تفكيك علاقات اجتماعية وروابط ثابتة، استبدال الوحدة المشتركة والثقافة الأصيلة بالمصالح والمنافع، في عالمنا الذي تهيمن عليه سيرورة النزعة الفردية، صارت العلاقات نعمة ونقمة، إنها تتأرجح بين الحلم الجميل والكابوس المفزع، ولا يعلم متى يتحول أحدهما إلى الآخر(2)، هشاشة الروابط الإنسانية في واقع الحياة السائلة ومجتمع اللّايقين، الحذر من الارتباط الأبدي، العلاقات أضحت تعاقدية ملفوفة بالمنفعة والبعد الذاتي، إننا عاجزون عن فرملة السرعة التي يتقدم بها المجتمع، إيقاع الحياة سريع، تحولات جمة في العلاقات الإنسانية، روابط محطمة، والقيم والقواعد التي كنا نعتقد أنها صلبة ومتينة أصبحت تتلاشى بفعل هشاشة وخوف الإنسان الزائد من المجهول، فالقضاء على الخوف المزمن كان بالأمس يحتاج للدولة القوية والعلاقة المتينة بين الحاكم والشعب في تفويض الأمر حتى يستتب الأمن ويشعر الإنسان بالسلامة والسكينة في مجتمع تعددي. في عالم الحداثة السائلة أصبح الشر مستشريًا في كل مكان، قابعًا في النفوس كما قال الفيلسوف جون بودريار، وفي الفرد ومتأصلا في الجماعة، وفي كل نزعة ميالة نحو القوة والتدمير.

تعميم الاستهلاك والزيادة في المخاوف هي نهاية الحياة الفاضلة والقيم الأخلاقية الثابتة، وتصوير الحياة كنمط للاستهلاك محفوفة بالمخاطر والمفاجئات، يعيش الإنسان في واقعها اللايقين، لم تعد الدولة تمسك بزمام الاقتصاد، ولا الأمن، ولا الثقافة، ومن ثم فهي لا تستطيع أن تَعِدَ رعاياها بالحماية مدى الحياة من المهد إلى اللحد، تلك الحماية التي سعت إلى توفيرها قبل زمن ليس ببعيد(3)، فالمجال العام فقد القدرة على التنوير، والمؤسسات في مضمونها البحت عن الأرقام والمعطيات، وتسخيرها في فهم العقلية الاستهلاكية وجمع البيانات، لذلك لا بديل في الأفق لأن العصر السائل يسير بسرعة فائقة ويتجه نحو العدمية وفقدان المعنى، وانقلاب في القيم يوازيه فقدان الإنسان للبوصلة.

الحياة السائلة استهلاكية، والروابط الإنسانية نفعية، غياب الأمن يُولّد الخوف من المستقبل، والفراغ الروحي والمعرفي يُولّد الشعور باليأس والإحباط وخيبات الأمل، نحن مجرد أرقام في عالم الاستهلاك، نخاف أن يتساوى الإنسان مع الأشياء عندما يختزل الإنسان في هواه وماديته، الحداثة السائلة أنتجت أدوات وآليات في المراقبة والتتبع، خلخلت الثابت، وحولت منطق الإنسان وقيمه، وقامت بالإجهاز على العقلانية والذاتية، والنزعة الإنسانية، وما يتعلق بالفكر الحديث وعصر الأنوار، سيولة القيم الأخلاقية وسيولة المال، إلغاء الحدود التقليدية، والتحالف المتين بين الرأسمالية والهيمنة على الآخر، وتقسيم العالم بين القلة المالكة للخيرات والأغلبية التي تعيش في كنف الفقر، كل الآليات في نظر باومان تهدف بالأساس إلى ترويض المشاكس، وتهذيب المشاغب، وإحلال النزعة الاستهلاكية، والرغبة في الإشباع حتى تتحول الرغبات إلى حالة إكراه بطرق رمزية، وحالة من الإدمان في الاقتناء كثقافة ذاتية وممارسة مثالية، ويزيد من درجة الاستهلاك الحملات الإعلانية والإشهار، أما خبراء التسويق فإنهم يقدمون المنتجات بحرفة عالية للمزيد من الأرباح، تسويق الأفكار كذلك من خلال إغراءات مادية عبر تسهيل القروض، لا يمكنك الهروب من المجتمع،العالم بذاته مُعمّم ومعولم بالنمط الاستهلاكي، والهروب بالنسبة للمنبوذين هو الإدمان على المخدرات، والمشروبات الكحولية، والحقن بالهيروين حيث ينشط هذا النوع من التجارة التي تُدِرّ دخلاً كبيرًا على الشركات والمقاولات والمهربين.

إعلان

الحياة السائلة وهشاشة الروابط الإنسانية

في السياسة الغربية تحيطك الدولة من خلال أجهزتها الإعلامية والاستخباراتية برفع درجة التأهب القصوى من العمليات الإرهابية، الحرب هنا تساوي غياب الأمن، والزيادة في النزعة الذاتية للحفاظ على الحياة، وعدم الاختلاط مع الغرباء، ومن العالم الافتراضي تزداد المخاوف من اختراق موقعك وحياتك الخاصة على الفايسبوك والواتس آب أو حسابك البنكي وهنا يمكن اللجوء إلى شركات التأمين، عليك بالإغواء والانسحاب، حرية الإنسان مزيفة في عالم كذلك الخوف من الآخر، الارتباك الشديد من الغرباء، تكوين الأفكار والانطباعات عن الآخر العابر للحدود، الباحث عن فرصة أمل، إنه الخوف من المجهول، المرئي واللامرئي يزيد من صعوبة العيش بأمان، الفوضى والقلق الزائدين، وعدم الأمان من سمات الحياة السائلة، إننا نعيش في عصر الخوف والسلبية والأخبار المزيفة، فلا سوق للأخبار السارة لأنه ليس هناك من يهتمون بها(4)، لم يعد العالم يكترث بالعلماء والفلاسفة والمثقفين، انتقال من الشهداء إلى الأبطال، ومن الأبطال إلى المشاهير، تحولات سريعة في النموذج والمثال، حيث أصبح البشر يعرضون حياتهم الحميمة على شبكة الأنترنت، ويبيعون صورهم العارية لكل من يدفع أكثر، تسريبات بالجملة، وتشهير وحملات مغرضة، وعنف الصورة ظاهر، مجتمع الإنترنت يسوده الخوف، من التتبع والمراقبة لكل فعل؛ انكشفت الأسرار فأصبحت الحياة الخاصة معروضة من خلال صور ثابتة ومتحركة، الحروب الطويلة تلاشت من الساحة، هناك حروب سريعة وقصيرة، تتدخل فيها الأسلحة النوعية والقنابل الذكية، والموجهة عن بعد، الشر السائل كما يصفه باومان أصبح يرتدي ثوب الخير والحب، لا الشر بالمعنى الديني والأخلاقي، ولا الشر في تأويل وتصنيف الفلاسفة، الشر هنا يصعب استئصاله ومحوه، شبح الشر يهيمن على الأخلاق ويتجلى في غسل الدماغ وإفراغ الذهن والعقل من الأفكار الصلبة التي ترسخت من قبل الحداثة الصلبة، ويقين القيم الدينية، العالم الذي نقف عليه اليوم أكثر هشاشة من السابق، عالم يمكن أن ينطفئ في لحظة معينة بفعل الأزمات المتراكمة في مجال البيئة، وجموح السياسة نحو المنفعة والتهور، ينهي التعايش ويشعل حروبًا شرسة على الموارد والأسواق العالمية، ويؤجج الحروب في أعلى مستوياتها من الحروب البيولوجية إلى القصف النووي، وهذا يعني نهاية النوع الإنساني.

هشاشة الروابط الإنسانية تزيد من أزمة القيم وانقلاب في الأخلاق، والأسس التي بنيت عليها الحضارات التي جاءت بقيم لأجل تهذيب الإنسان، والعمل على حفظ النوع، والبحث عن التوازن النفسي والوجداني، التعطيل الأخلاقي للوعي وغياب البديل حسب باومان من سمات العصر، الخوف من المجهول، يعني الزيادة في التوجس والحذر كالعيش في المدن من خلال بيوت مصفحة ومقفلة بأقفال، هذا الحرص الشديد على الاحتياط من الاختراق الإلكتروني يزيد من درجة الخوف وطلب الأمان، ودرجة البحث عن خبراء التسويق والبدائل الممكنة في شراء التضامن والابتسامة المصطنعة، ما نراه في محلات التسويق الكبرى، بدائل سريعة وسهلة في الاقتراض، خلق النظام الرأسمالي الربوي إنسان بدون روابط اجتماعية، كائنات استهلاكية داخل نمط اقتصاد السوق، الذي يهيمن على العقول والنفوس، ويعيد إنتاج ذاته بأساليب متنوعة، تجرفك الإعلانات والبرامج التسويقية والاشهارات، إنسان في زمن السيولة، الخفة والسرعة في الخبر، والعرض واستهداف الكثرة، لاشيء يمنحك المكانة سوى حجم المشتريات بوصفها مقياسًا للنجاح والاستهلاك معًا، احترس من الخسارة ولا تراهن على حصان واحد، هذه هي القاعدة الذهنية العقلانية الاستهلاكية، فهناك أكثر المتغيرات في معادلات الحياة، وما أقل الثوابت إن كانت موجودة(5).

تحولت الثقافة من الصلابة إلى السيولة، وأحدثت تحولات في القيم العقلانية حيث أصبح الجسد مكمنًا للرغبات. فلكل نزعة استهلاكية أهداف كامنة وصريحة من وراء العناية بالجسد كونه مصدرا للأرباح، الحياة الحميمية بدورها أصبحت معروضة على الأنترنت للزيادة في نسبة المشاهدة، وهذا اللاأمان يُولّد الخوف ورغبة الناس في الحماية أكثر، الخطاب السياسي يلعب على وتر الأمن والسلام من بوش إلى ماكرون، نحن نعيش في عصر الأوبئة والفيروسات، والزيادة في العقاقير، وأشكال من أمراض السرطان، والأمراض النفسية والعقلية، نترقب حروب شرسة بكل الوسائل، نلمس تزايد في الهجرة والفرار من الأمكنة نحو عالم أفضل، مواجهة المهاجرين بالمنع، والغرق في البحار، وبناء مراكز اللاجئين، وتشديد الرقابة والأسلاك الشائكة والجدران السميكة والعالية، لا حاجة للعولمة من خلال حرية التنقل والعبور، هنا ينبغي للعولمة أن تكتسي طابعًا اقتصاديًا وثقافيًا عندما تعبر السلع في أجواء مناسبة من الاستقرار والأمان، وعندما يعيد النظام الرأسمالي تعميم أسلوبه في الحياة بديلاً عن الأساليب القديمة.

البدائل ممنوعة أو شبه مستحيلة في ظل هيمنة اقتصاد السوق والتجارة الحرة، بمنطق الأقوياء أصبحت الأشياء متساوية، الخير والشر، الصواب والخطأ، الحرب والسلم، الفوضى والأمن، إنه الخوف من المجهول، من الإرهاب العابر للحدود، من العنف القاتل، من الجرائم والدسائس، يسكننا العدم والقلق من القادم، هناك سرعة التضليل الإعلامي، ومغالطة الرأي العام، والتحريض على الكراهية من خلال عودة المقدس وإثارة ما هو عنصري ومذهبي، وبالتالي من الصعب بناء مجتمع المواطنة والاعتراف بالآخر، عندما تختفي دولة الرعاية، ويتحالف الاقتصادي والسياسي والثقافي في تنميط الإنسان وقيمه الاجتماعية. إنه الغباء الناجم عن هشاشة الروابط الإنسانية وبث الخوف من المجهول حتى يستقر في اللاشعور للتحكم وإعادة رسم معالم الحياة السائلة.

هوامش :

(1) زيجمونت باومان " الحياة السائلة " ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر،الطبعة الأولى بيروت 2016 ص 109.

(2) زيجمونت باومان "الحب السائل" ترجمة حجاج أبو جبر ،الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى بيروت  2016 ص28.

(3) زيجمونت باومان "الحياة السائلة" ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى بيروت 2016 ص74.

(4) زيجمونت باومان وليونيداس دونسكيس "الشر السائل العيش مع اللابديل" ترجمة حجاج أبو جبر  الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى بيروت  2018ص 25

 (5) زيمجمونت باومان "الحداثة السائلة " ص118.

 

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أمينة براهيمي

اترك تعليقا