الجماليات المعاصرة: الاتجاهات والرهانات | شيرين جمال الدين
تحظى الفنون بمكانةٍ كبيرةٍ عند البشر؛ فقد حملت رموزًا ودلالاتٍ لثقافاتٍ ومجتمعاتٍ متعدّدة، ومع التغيّرات التي طرأت في كلّ المجالات، ظلّ الفنّ والجماليّات في طور الملاحظة المستمرّة، ولأنّ الإجابات السابقة عن كلّ قضاياهم لا تكفي لسدّ ثغرات الحاضر والمستقبل؛ جاء كتاب الفيلسوف الفرنسي مارك جيمنيز (Marc Jimenez) يقترح بشجاعةٍ بعض الإجابات للردّ على خمسين سؤالٍ -وهم فصول الكتاب- في الفنون والجماليّات المعاصرة، و بما أنّ إعادة النظر فيما كان مطروحًا قديمًا أصبح مطلبًا مُلحًّا؛ قرّر المؤلّف أن يواجه الماضي بدلاً من تتبّعه باستحياء، مع وضع الحاضر والمستقبل في الحسبان.
****
لا يهدف الكتاب إلى طرح إجاباتٍ مؤكّدة، بل هي نظرةٌ عامّةٌ تحليليّةٌ وتأمليّةٌ لقضايا العصر والماضي؛ الذي يمثّل تاريخ الفنّ والفكر والقضايا التي ما زالت قابلةً لاحتمالات التأويل والتفسير بدءً من تأسيس علم الجمال والالتباس الذي أصاب التعريف، مرورًا باللحظات الفارقة في تاريخ الفنون وفي تاريخ النظريّات الجماليّة التي ساهمت في الارتقاء بالوعي الجماليّ، حتّى يصل إلى أزمات العصر الراهن والتحديات التي تواجه الفكر الجماليّ والفنون بكافّة أشكالها.
تتمثّل أهميّة كتاب في الفنون والجماليّات المعاصرة في كونه انطلاقةً وتريُّثًا في آن واحد، انطلاقةً لكونه مرجعًا مهمًّا للباحثين في ميدان الفلسفة والفنون؛ فتناول بعض القضايا الفكريّة الجماليّة الشائكة مع منظّريها. والمؤلف هنا لم يعتمد على سرد التاريخ فقط، بل يناقش القضايا ويعرض ويقارن أراء العديد من الفلاسفة ويوضّح إشكاليّات بعض المصطلحات والنظريّات مثل مفهوم العَبَق The Aura، وإمكان تحويل المألوف إلى عملٍ فنيّ، وكذلك يوضّح الاتّجاهات الجماليّة قبل وبعد الحرب العالميّة ومفهوميّ ما بعد الحداثة وما بعد الطليعيّة، وإمكان وجود علاقةٍ بين الفنّ والتكنولوجيّات الحديثة، ثمّ أزمة الفن المُعاصر والاتّجاهات الجماليّة الراهنة.
ويوضِّح المؤلّف أنّ أزمة الراهن تدور حول فكرةٍ معيّنةٍ وهي: هل ما زالت هناك معايير للحكم الجماليّ؟ فقد كانت الأحكام سابقًا مرتبطةً بثقافة مجتمعٍ ما أو معايير محدّدةٍ مثل القيم والأخلاق العليا، أما في العصر الراهن ومع انحصار دور النقد الفنيّ أصبحت المعايير شبه منعدمة، لذلك ينادي بعض المحافظين بإعادة إحياء معايير الحكم الجماليّ السابقة.
ويتساءل المؤلّف عن الفترة التي يجب العودة إليها على وجه الخصوص، إذ أنّ التراث غنيٌّ بالمعايير والآراء والتجارب المختلفة لكلّ حقبة، ويستطرد في تفكيك تلك الأزمة ويشير إلى صعوبتين تواجهان محاولة وضع معايير للفنّ المُعاصر وهما الطابع المنطقيّ والنظريّ لوضع الأحكام والثاني خصوصيّة الفن. كما يؤكّد المؤلّف على وجود معالم يمكن من خلالها الحكم على العمل الفنيّ حتّى وإن لم توجد معايير دقيقة، كما يشير إلى نظريّة التلقّي التي تؤكّد على دور الجمهور في تلقّي الأعمال الفنيّة والتوجّهات الأساسيّة للجماليّة الألمانيّة مع بعض النظريّات الأخرى في القرن العشرين، ويحلّل المؤلّف علّة تراجع النقد الجماليّ والفنيّ ويحيل إلى العناصر اللازمة لاكتساب مكانته من جديد.
وعلى حينٍ آخر يُعدّ الكتاب تريّثًا لأنّ المؤلّف يقف عند عتباتٍ فارقةٍ في تاريخ الفنّ والجماليّة مثل الجماليّات الكلاسيكيّة واستقلال الجماليّة وفكرة نهاية الفن، بالإضافة إلى علاقة الجماليّات بالعلوم الأخرى، وذلك التريّث يسمح للقارئ بأن يفهم قضايا الماضي بصورةٍ متعمّقةٍ يدرك من خلالها نتائج ثورات الفنون في القرون الماضية؛ فتتبلور المفاهيم لديه وتتشكّل رؤى واضحة الحدود والمعالم لمستقبل الفنون والفكر الجماليّ، وتلك الموضوعات والوقفات ضروريّةٌ لكلّ باحثٍ في الدراسات الفنيّة والفلسفيّة؛ فهي تمثّل مستقبل الفكر الجماليّ.
والجدير بالذكر أنّ ترجمة كتاب الجماليّات المعاصرة إلى اللغة العربيّة تُعدّ إثراءً للمكتبة العربيّة، ولأن لغة المترجم جاءت بسلاسةٍ وعذوبةٍ فإنّ الكتاب لا يخاطب فقط القارئ المثقّف أو الباحثين الأكاديميين، إنّما يمكن للقارئ العاديّ أن يفهم أبعاد تلك الموضوعات بسهولةٍ ويسر، وقد أرفق المترجم ملحقين؛ الملحق الأول به نبذةٌ عن الفلاسفة والفنّانين الذين جرى ذكرهم في النصّ الأصلي، والثاني به تعريفاتٌ للمصطلحات والاتّجاهات الفنيّة والجماليّة التي ذُكرت من قِبَل المؤلف للإحاطة الكاملة بكلّ ما ذُكر في الكتاب.
لذلك أجد أنّ للكتاب أهميةً بالغةً لأنّه لا يستعرض المعلومات بهدف التعريف الدراسيّ، إنّما بهدف الوصول إلى كمال الفهم، ولأنّنا البشر منّا من ينتج أعمالاً فنية ومنّا من يتذوقها ويستمتع بها، فقد جاءت الحاجة إلى فهم مَوضِع الفنون والجماليات في خارطة التاريخ والزمن الحاليّ، فالماضي يمكن إعادة تأويله لنجد مقترحاتٍ وحلولٍ تخصّ الحاضر والمستقبل، ولأنّ الفنّ يبقى دائمًا المتعة الأولى للرّوح فإنّ فهم كلّ أبعاده يكسبنا خبرةً ونظرةً جديدةً لكلِّ إبداعٍ إنسانيّ.