التّمييز بين العلم والميتافيزيقا: قراءة في محاولة فتجنشتاين
في ماهية العلم
مقدّمة عامّة لتلك السّلسلة من المقالات:
إن تمييز النظريات العلمية عن غيرها من النظريات الأخرى، ولا سيما النظريات الميتافيزيقية، هو أحد المشكلات الرئيسية في فلسفة العلم، فمشكلة ترسيم الحدود بين العلم والميتافيزيقا تتجاوز النطاق العقلي العام للعلم نفسه.
وعلى الرغم من أن مشكلة تمييز النظريات العلمية عن غيرها من أنواع النظريات الأُخرى، بخاصّة الميتافيزيقية، قد نوقشت كثيرًا في القرن العشرين، فإنّها ليست مشكلة جديدة، إذ عالجها كل من هيوم وكانط في القرن الثامن عشر.
في أوائل القرن العشرين صبّ فتجنشتاين جل اهتمامه في كتابه “الرسالة” (1921م) على ترسيم الحدود بين العلم والميتافيزيقا بمعناها الضيق وعلى ترسيم الحدود بين العلم والدين، وهو المنحنى الذي اتّبعته جماعة فيينا أيضًا.
هذه السلسلة من المقالات ستتناول أطروحات فتجنشتين للتمييز بين العلم والميتافيزيقا، حيث تبدأ بمحاولة توضيح ما المقصود بالضّبط بكلمات “علم” و”ميتافيزيقا”، وبعد ذلك سنتناول المحاولة الأولى لـفتجنشتين في هذه القضية من خلال قراءة وتحليل كتابه الشهير “الرسالة”، ثم يتم رصد التحول الذي حدث في فلسفة وأطروحات فتجنشتين وكيف أثرت تلك التحولات على تناوله لتلك القضية، خاصةً من خلال كتابه الأخير البحوث الفلسفية، ويترافق كل ذلك مع استعراض سريع ومُركَّز لحياة فتجنشتين الفريدة والثرية بالتغيرات والتجارب لما لهذه الحياة من تأثير بالغ على فلسفته، وأخيرًا تعليق موجز ومُركّز لكاتب تلك السطور على مجمل محاولة فتجنشتين.
وهكذا فإننا سنبحث في المقالة الأولى من تلك السلسلة في ماهية العلم، حتى يكون التوضيح أو التحديد لماهيته هو مرشد ومرجع لنا عبر بقية بحثنا في تلك المسألة.
ما هو العلم؟
إنّ التعريف المبدأي والعام لطبيعة العلم وماهيّته ضروريّ جدًا لكي يكون القارئ على بيّنة بمعنى لفظ العلم “Science” وخصائصه الواضحة، وبالطّبع لا ندّعي هنا أننا سنقدّم تحديدًا وتعريفًا جامعًا مانعًا للعلم، فهذا ما يخرج عن نطاق بحثنا، بل مجرد إبراز الخطوط الرئيسية والمناهج المتّبعة والأُسس المعرفية العامّة التي تكوّن العلم الحديث وتُحدّد مساراته وتُشكل بنيته.
إن كلمة علم تشير إلى مجموعة منظَّمة من المعارف تهتم بالعالَمِ الفيزيائي (المادي) وتدرسه، بشقيَّه الحيّ واللّاحيّ، لكنَّ التعريف المناسب يجب أن يحتوي أيضًا الأساليب والطّرق التّي تكوّن -ومن خلالها تعمل- هذه المجموعة من المعارف، لذلك فإنّ العلم هو نوع محدّد من النّشاط وهو أيضًا نتائج هذا النّوع من النشاط، يمكن أن نقول: إنّ للعلم ثلاثة مكونات رئيسية؛وهي: مبادئ قبلية، ونظريات، وقوانين تجريبية/عملية (إمبريقية).
1- مبادئ العلم القبلية
يمكن القول أن هناك ثلاثة مبادئ قبلية للعلم: مبدأ انتظامية الطبيعة وتماثلها (اطّراد الطبيعة)، ومبدأ التّفسير المادي (أو المادية)، ومبدأ السّببية.
إن المبدأ الأول: مبدأ انتظامية الطبيعة وتماثلها (اطّراد الطبيعة) يعني أن أي حالة مرصودة للطبيعة تكشف عن قوانين تنظمها، يتبعها بالضرورة أن تلك القوانين هي نفسها التي تنظّم أي حالة مشابهة للحالات المرصودة، أيًا كان المكان والزّمان الذّي تحدث فيهما تلك الحالة المشابهة، هذا المبدأ يدل ضِمنًا على تجانس الزمان والمكان. المبدأ الثاني: مبدأ التّفسير المادي (أو المادية) يعني أنّ العالم الفيزيائي -أي الطبيعة بمجملها- هو عالَمٌ مادي وخالد، وأنّ التّغيير هو التّغيير الذّي يحدث في المادة [[1]]، إنّ المادة هنا يمكن ترجمتها بشكل مفتوح وواسع، بحيث يمكن أن تكون شيئًا ملموسًا، أو مجالًا (مغناطيسيًا أو كهربائيًا مثلًا) أو طاقة[[2]]. المبدأ الثالث: مبدأ السببية يعني أنّ أي تغير يحدثُ فإنّ له سبب، لا يوجد تغير يحدث بدون سبب ما، لذلك فإن التغيير دائمًا مسبب. بوضع هذه المبادئ الثلاثة معًا نصل إلى فكرة أنّ سبب التغيير يكون من خلال فعل أو تأثير جزءٍ من المادة على جزء مادي آخر، وأنّ أي تغيير هو تغيير ماديّ، أيْ يحدث من خلال إعادة تموضع المادّة أو اختلاف خصائصها [[3]].
هذه المبادئ هي الافتراضات المُسبقة للعلم الحديث، هذه المبادئ مفتوحةٌ للنّقد، وتأخذ أشكالًا مختلفةً باختلاف أقسام ومجالات العلوم، ومن المُمكن تحديدها بشكل أكثرَ دقّة داخل كل علم على حدى، لذلك فإنّه بالنّسبة للفيزياء مثلًا، فإنّ مبدأ الانتظامية يتمّ تحديده بمبادئ ثابتة تختّص بموقعٍ وحيّز مكانيّ: الاتّجاه والتّوجه والتّكيف حسب الظروف، والحركة المنتظمة، ووقت الحدوث. أمّا مبدأ الماديّة فيتمّ تحديده وتفسيره ليصبح مبدأ حفظ الطاقة؛ أي أنّ الطّاقة لا تفنى ولا تُستحدث من العدم، ولكنْ يمكن تحويلها من صورة لأُخرى، ومبدأ السّببية يتمّ تحديده وتفسيرهُ بقوانين الديناميكا، وأكثرها أساسيةً هو مبدأ أو قانون القُصور الذّاتي: إنّ الجسم يظلّ على حالته من الثبات أو الحركة المنتظمة في خط مستقيم ما لم تؤثر عليه قوة تغير من حالته [[4]].
هذه المبادئ القبلية الثلاثة تمثّل قلب وجوهر وأساس العلم الحديث، وهي تؤثّر في العلم وتوجّهه بأربع طرقٍ على الأقل، فهي تحدّد أنطولوجيًا (وجوديًا) ما اللّازم والضّروري أو المُمكن في العِلم، وهي تؤسّس وتبني العقلانية العلمية والمنطق العلمي، ثمّ إنها توجّه البحث العلمي وتمدّه بالقوانين الإجرائية، وأخيرًا فهي تضع وتُعرّف المفاهيم الأساسية للعلم، هذا التأثير تخضع له كل من الجوانب التجريبية/العملية (الإمبريقية) والنظرية لكل أوجه العلم [[5]].
2- النّظريّة العلميّة
نظرية الأوكسجين للاحتراق، النّظرية الكمومية، نظرية التطور، النظرية النسبية العامة، النظرية النسبية الخاصة… إلخ، كلّها نظريّات، يبدو أن المؤسسة العلمية قائمة على تلك الكلمة: “نظريّة”، لكنْ ما معنى نظرية؟ أو على الأقل ماذا تعني نظريّة علميّة؟
يمرّ العلم بعدة مراحل حتى يُثبِت أو يَنفي فرضية لُوحظت في ظاهرة ما، المنهج العلمي يتسلسل بالطريقة التالية: تحديد المشكلة، ثم تساؤل، وفرضية، ونظرية، المشكلة قد تأتي على هيئة ظاهرة طبيعية أو تكون من صنع الإنسان، فتبعث الفضول في شخص ما، فيتساءل بعدها عن كيفيّة حدوث تلك الظاهرة، بعد هذه المرحلة وبعد أيّ سؤال تأتي مرحلة مهمّة وهي مرحلة وضع فرضيّة، الفرضيّة هي تفسير محدود مقترح مبني على خبرة سابقة أو خلفية علمية سابقة أو مشاهدات أولية، عند اختبار الفرضيّة عدّة مرّات وجمع الأدلة حولها وتمحيصها، ونشرها في ورقة علمية، فيكرّرها علماء آخرون ويتمّ تأكيدها، تصبح لدينا نظرية، خلال مراحل التجربة يمكن أن تتغير الفرضيّة عدّة مرّات لتتماشى مع الأدلة، فقد تظهر أدلّة جديدة مع تقدم التكنولوجيا المستخدمة في التجربة.
النظرية العلمية إذن هي شرح واسع طبيعي للعديد من الظواهر، النظرية تكون موجزة، نظامية، متنبّئة، قابلة للتطبيق، وكثيرًا ما تتكامل مع فرضيّات عديدة وربما تعمل على تعميمها، النّظريات المقبولة في الأوساط العلمية تكون مدعومة بالأدلّة، لكنْ حتّى النّظريات يمكن أن تُعدّل أو يُصرَف النّظر عنها إذا تغيّر أو تبدّل الدّليل، إنّ وظيفة النظرية العلمية الأساسية هي تفسير القانون الإمبريقي عن طريق الكشف بالتفصيل عن كيفيّة تمثيل قوانين العلم القبلية الثلاثة في -ومن خلال- ذلك القانون.
3- القانون العلميّ (الإمبريقي)
بشكلٍ عامّ القانون العلمي هو وصف لظاهرة تمّت ملاحظتها، القانون العلمي لا يقول لماذا توجد هذه الظاهرة أو ما هي أسبابها؟، فتفسير الظّاهرة يكون عن طريق النظرية العلمية، فمن الأخطاء الشّائعة أنّ النظريات تتحوّل إلى قوانين بعد إجراء أبحاث كافية، ففي العلم القوانين هي نقطة البدء، فمنها يبدأ العلماء في طرح أسئلة “لماذا وكيف؟”
إن كلًا من القوانين والنظريات العلمية تكون مُدعّمة بمنظومة هائلة من البيانات والمعلومات التجريبية، وتكون مقبولة بشكل واسع بين الغالبية العظمى من العلماء داخل التّخصص الذّي تقع في حدوده تلك القوانين والنّظريات، كلاهما يساعد على البناء والتّوحيد المعرفي لحقلٍ معيّن من الدّراسات العلمية، لكنّ النّظريات والقوانين، وأيضًا الفرضيات، يشكّلون أجزاءً منفصلة عن المنهج العلمي.
إن القوانين العلمية تصف -غالبًا في صيغة رياضية- إحدى الظواهر الطبيعية، مثل قانون الجاذبية لنيوتن أو قوانين مندل الوراثية، فهذه القوانين تصف الظاهرة ولكنها لا تقول كيف أو لماذا تحدث.
إنّ قانون الجاذبية مثلًا اكتشفه نيوتن في القرن السابع عشر، هذا القانون يصف بصيغة رياضية كيف أنّ جسمين مختلفين ومنفصلين في الكون يؤثّران على بعضهما البعض، لكنّ قانون نيوتن لا يفسّر ما هي الجاذبية أو كيف أو لماذا تعمل؟ لقد تطلّب الأمر ثلاثة قرون بعد ذلك، عندما وضع آلبرت آينشتين نظريّته النّسبية، حتى بدأ العلماء في فهم ما هي الجاذبيّة وكيف تعمل. المثال الآخر هو قوانين مندل الوراثية، فقد اكتشف مندل أنّ صفتين وراثيتين مختلفتين يمكن أن تظهرا بشكلٍ مستقلّ في مولودين أو ذريّتين مختلفين، لكنّ مندل لم يكن يعرِف شيئًا عن الحمض النّووي (DNA) أو الكروموسومات، فقط في القرن الماضي اكتشف العلماء الحمض النووي (DNA) والكروموسومات اللذَين يمثّلان التّفسير البيوكيميائي لقوانين مندل.
لكن هل تتغير القوانين العلمية؟
إنّ تحوّل فكرة إلى قانون علميّ لا يعني أنّها لا يمكن أن تتغيّر من خلال البحث العلمي في المستقبل، إنّ استخدام كلمة “قانون” يختلف عند العلماء عن الاستخدام العاميّ، فعندما يتكلّم أغلب الناس عن قانون، فهذا يعني شيئًا مُطلقًا، أمّا القانون العلميّ فهو أكثر مرونة بكثير، فمن المُمكن أن يكون له استثناءات، أو إثبات خطئه أو تطويره مع الوقت عبر البحث العلمي، فالعالِمُ الجيد هو الذّي يسأل نفسه دائمًا: كيف يمكن أن أكون مخطئًا؟ ففي مثال قانون الجاذبية أو قانون وراثة الصّفات المستقلة فإنّ الاختبارات والملاحظات المستمرّة قد أوجدتا استثناءات لهذه القوانين، فقانون نيوتن للجاذبية لا يعمل على المستوى الكوانتي (تحت الذري)، كما أن قوانين مندل لوراثة الصّفات المستقلة لا تعمل عندما تكون تلك الصفات مترابطة وموجوده على نفس الكروموسوم.
في النهاية نكرّر أنّ القانون العلمي هو صيغة مؤسَّسة على ملاحظات تجريبية متكرّرة، وتصف ظاهرة أو أكثر من ظواهر الطبيعة، والقانون العلمي دائمًا ينطبق على نفس الظروف، ويدل على أن هناك علاقات سببية قائمة بين عناصر تلك الظاهرة.
إنّ المعرفة تختلف عن العلم، فالمعرفة ليست مُرادفًا للعلم بمعناه الحديث والمعاصر، بل أوسع حدًّا ومدلولًا وامتدادًا من العلم، بحيث يصبحُ كلّ علم معرفة وليس كلّ معرفة علمًا، ولكنْ يمكن تمييز العلم عن المعرفة بأنّ العلم هو المعرفة المُعتَرف بها عالميًا في زماننا المعاصر.
[[1]]CRAIG DILWORTH: “The Metaphysics of Science”, P. 53 [[2]] Ibid, P. 55 [[3]] Ibid, P. 57 [[4]] Ibid, P. 64 [[5]]Ibid, P. 60