التكلفة المالية لتأميم قناة السويس
ازدادت التساؤلات حول ما تحمّلته مصر ماليًا لتعويض حملة أسهُم شركة قناة السويس بسبب تأميمها، حتى أنّ البعض ادّعى أنّ مصر سدّدت تكلفة مرتفعة للشركة المؤمّمة ذهبت بإيرادات القناة بين عام 1956 وعام 1967 عند إغلاقها بسبب نكسة 67، وكان يمكن الانتظار حتى استرجاعها بلا تأميم عام 1968. لذلك، ولأنّني على علم بكثير من ملابسات التأميم وما بعد التأميم، بسبب قيام والدي بالصياغة القانونية لقرار التأميم، ولاشتراكه مع الوفد المصريّ في مفاوضات تعويض حملة الأسهم، ذهبتُ أسترجع الوثائق الدولية والاتفاقيّات والمعاهدات لتوضيح حقيقة الأرقام والمفاوضات. يجب أولًا أن نعلم أنّ المفاوضات التي جرت بين مصر والجانب الفرنسي والبريطاني كانت في غاية التعقيد ومليئة بالمحاذير والفخاخ من النواحي السياسية والمالية والقانونية. ولا يسعني إلا تحية جهود كلّ من ساهم من قريب أو من بعيد فى تلك الملحمة، حتى توصّلت مصر إلى أفضل الحلول لصالح الوطن، مع تقبّل الجانب الأجنبيّ لكلّ النتائج.
ولنستعرض أولًا بعض المعلومات عن تلك المرحلة:
1) قيمة الجنيه المصري حتى بداية الستينات كانت مساوية لمبلغ 2,87 دولار أمريكيّ، ومساوية لمبلغ 0,975 جنيه استرليني، ومساوية لمبلغ 1201 فرنك فرنسيّ قديم.
2) كانت بريطانيا مدينة لمصر بمبلغ 135 مليون جنيه استرليني منذ الحرب العالمية الثانية، ولكنها ممتنعة عن سدادها باعتبار أنّ حساب مصر لديها معلَّق حتى إشعار آخر. كما كانت الولايات المتحدة مدينةً لمصر بنحو 18 مليون جنيه مصريّ. (أيضًا من ناتج ما تحمّلته مصر في فترة الحرب العالمية). ثمّ كانت فرنسا مدينة لمصر بمبالغ ضئيلة تمثّل ما تستحقّه مصر من عوائد قناة السويس.
3) عند تأميم شركة قناة السويس، ضغطت الشركة على أصحاب السفن العابرة لقناة السويس حتى يستمرّوا في سداد رسوم العبور لخزانة الشركة بباريس، وقد التزم بعضهم بالسّداد للشركة المؤمّمة والتزم آخرون بالسّداد لهيئة قناة السويس الجديدة، وظلّ الوضع قائمًا هكذا حتى العدوان الثلاثي، مع حرص مصر على عدم الاعتراض على عبور أيّ سفينة. وقد نتج عن ذلك أن حصلت الشركة الفرنسية المؤمّمة على مبلغ 5,337 مليون جنيه، في حين حصلت الهيئة على مبلغ 3,557 مليون فقط.
4) عند تقييم أصول الشركة فى مصر محاسبيًا من الجانب الفرنسي، كانت قيمة الأصول 92 مليار فرنك (76,5 مليون جنيه)، وتكون بعد تخفيض الخصوم، أي الصافي 58,2 مليون جم.
أمّا أصول الشركة خارج مصر فقد قدّرتها الشركة المؤمّمة بنحو 8 مليون جم، باعتبار أنّ الاستثمارات الأخرى للشركة خارج فرنسا لم تعد تُحتسب من أصول الشركة. بعد التأميم مباشرة، حاولت إدارة الشركة الفرنسية اللجوء إلى الحكومات الغربية لمناصرتها ودعمها في قضية استرجاع حقوق وامتيازات الشركة في مصر. فوجئت الشركة بعدم اهتمام الحكومات بقضيّتها كشركة أُخِذ منها حقّ الامتياز على الملاحة في قناة السويس. لم يؤدِّ صراخها في المحافل الدولية لنتيجة، فقد كان اهتمام الحكومات – بما فيها حكومة فرنسا وانجلترا – اهتمامًا سياسيًا وليس تجاريًا. لذلك، ادّعت الحكومة الفرنسية ذاتها، قلقها على حريّة الملاحة في قناة السويس، ولم تدعُ يومًا لإعادة حقّ الامتياز للشركة. أمّا الجانب البريطانيّ، فكان مهتمًا بالتخلّص من جمال عبد الناصر الذي كان يعيق قيام حلف بغداد لاستمرار السيطرة البريطانية على الشرق الأوسط، معتبرة أنّ فكر القومية العربية خطر على مصالح بريطانيا العظمى. ثمّ كان الجانب الأمريكيّ يراقب التحرّكات في ظلّ سنة انتخابية أمريكية، ولم يهتمّ إلا بالدعوة لضمان حريّة الملاحة وتطبيق بنود اتفاقية القسطنطينية. بدأت نبرة إدارة شركة القناة تختلف وبدأت تصدر التصريحات الخاصة بالتعويضات بعد أن كانت تطالب باستعادة كلّ امتيازاتها. وتوالت الأحداث حتى قامت إسرائيل يوم 29 أكتوبر 1956 بالهجوم على مصر لتبرير تحرّك الأسطول البريطاني والفرنسي إلى بور سعيد، في إطار تنفيذ خطة “موسكتير” التي وضعتها الدول الثلاث سرًا للتخلّص من عبد الناصر واحتلال قناة السويس. ومع هذا العدوان الثلاثيّ، عرفت إدارة الشركة أنّ عليها إعداد الملفّات المالية لمحاولة الحصول على أكبر قدر من التعويضات، وقد استاءت للغاية من هذا العدوان معتبرة إياه غباءً سياسيًا، أضرّ بمصالحها أكبر ضرر…
مع انتهاء العدوان الثلاثي فى ديسمبر 56، بدأت عمليات تطهير القناة من السفن والكراكات التي أغرقتها القوّات المصرية لمنع العبور. وقد تمّ تطهير القناة في وقت قياسيّ وإعادتها للملاحة بعد ثلاثة أشهر، في نهاية مارس 1957. ومع إعادة الملاحة، أصدرت مصر بيانًا سياسيًا يوم 24 أبريل 1957، أوضحت من خلاله الأسس التي يمكن وضعها لبدء المفاوضات لتعويض حملة الأسهم. وبالفعل كانت بداية المفاوضات مع الحكومات، فبدأت يوم 24 مايو مع بريطانيا، وفي أغسطس مع فرنسا. أمّا فيما يخصّ التعويضات الخاصّة بالشركة، فقد بدأ السيد أوجين بلاك، عن البنك الدولي، مهمّة الوساطة بين مصر والشركة. فقد كان هناك مشكلة قانونية في البداية تعيق مثل هذه المفاوضات المباشرة… عند تأميم شركة وأخذ كلّ ما تملك من أصول، يصبح لا وجود قانونيّ للشركة… فكيف يمكن التفاوض مع كيان لا وجود قانونيّ له وفقًا لقانون البلد الخاضع له هذا الكيان (شركة مساهمة مصرية)؟
لجأت الشركة إلى تعديل عقد تأسيسها بالكامل، واستصدرت حكمًا من محكمة فرنسية باعتبارها شركة فرنسية خاضعة لقانون الشركات الفرنسي. تقبّلت مصر هذا الكيان الجديد كمفاوض، مع وضع شروط حازمة تمنع التلاعب بقانون التأميم، والمطالبة بأيّ حقوق غير التي سيتّفق عليها الطرفان لتعويض حملة الأسهم. وانتهى الوضع بتسمية الشركة المؤمّمة المعدّلة باسم “شركة السويس المالية”… اعترضت المفاوضات العديد من العراقيل والتفاصيل والاختلافات، حتى انتهت باتّفاق مبدئيّ فى أبريل 1958 تمّ توقيعه في روما، واتّفاق نهائيّ تمّ توقيعه يوم 13 يوليو 1958. وكان هذا الاتفاق بشهادة البنك الدوليّ، بين حكومة دولة (الجمهورية العربية المتحدة) وشركة خاصّة. وهو وضع قانونيّ شاذّ في إطار الاتفاقات الدولية.
أما حكومتَي بريطانيا وفرنسا، فلم يشتركا بتاتًا في أيّ مفاوضات سوى بحضور أوّل اجتماعات تمهيدية. محتوى الاتفاقية:
• لن تطالب مصر باستعادة أصول الشركة الواقعة خارج مصر والمقيمة بنحو 8 مليون جم.
• لن تسدّد مصر أيّ ديون على الشركة خارج مصر، سواء كانت لحاملي الأسهم أو لأشخاص اعتباريّين لهم مستحقّات لدى الشركة.
• لن تسدّد الشركة أيّ ديون عليها داخل مصر، حيث أنّ معظمها لحساب الحكومة المصرية وبعضها لمرتبات ومعاشات العاملين بالشركة من المصريين.
• ملكية كلّ أصول الشركة داخل مصر والمقيمة بمبلغ 58,2 مليون جم تصبح ملك الحكومة المصرية (هيئة قناة السويس).
• التعويض عبارة عن مبلغ إجماليّ مقطوع قدره 28,3 مليون جم يسدّد على مراحل كما يلى:
1) خمسة مليون وثلثمائة ألف جم استلمته فعلًا الشركة من الشركات الملاحية ممّن استخدم القناة بعد 26 يوليو 56
2) خمسة أقساط سنوية قدّر كلّ منها 4 مليون جم، يسدّد الأول في يناير 59 ثلاثة ملايين، تسدّد بآخر قسط فى يناير 1964
3) في حالة إفراج بريطانيا عن الأموال المصرية المحتجزة لديها، تقوم مصر بالإسراع بسداد أوّل قسطين. (وتمّ ذلك بالفعل عام 1960)… حقيقة كانت ملحمة إذا قرأنا كلّ تفاصيل المفاوضات، فقد حصلت مصر على أفضل الشروط، ثم أذكر قول السيد جورج بيكو رئيس مجلس إدارة الشركة في كتابه: “لقد حصلنا على أموال بفضل الأمانة المصرية لم نكن نحلم بها”… أمّا مصر، فقد حصلت على القناة وإيراداتها وأصول الشركة بتكلفة تعتبر معقولة جدًا.
وفي النهاية، أنقل عن رواية جان بول كالون، المفاوض القانونيّ الفرنسي، فقد قال لي شخصيًا: “عندما تفاوضت مع والدك، وأدرك كلانا أنّنا لا نطمع إلا في مستحقّاتنا، تناولنا العشاء حول طبق اسباجتي، وانتهت قصة قناة السويس مثلما بدأت بطبق اسباجتى قدّمه ديليسبس لسعيد باشا”.