التفاحتان – كيف رأى عبد الوهاب المسيري إشكالية التحيز الفكري
إنْ قلتُ هذه تفاحةٌ حمراء وفي يدي تفاحة، سيفهمُ مقصدي مَن يسمعني.
ولكنْ تلكَ الجُملة قد تثيرُ في المستمعِ مشاعرَ أخرى غيرَ تلكَ المعلومة الأوليّة البسيطة فلعلَّه كانَ جائعًا فنظرَ إليها بنهمٍ، وربَّما كان لا يحبُّ التُّفاح أصلًا فينظرُ إليها بعدمِ اكتراث ولعلّ كلمةَ “حمراء”؛ تستدعي في ذهنه ذكرى ما، تثير همومه.
يشاركنا المسيري ذكرى حميميّة من طفولتِه؛ حيث ذكرتْ له أمُّه الرّاحلة شجرةً فى الجنة يتفيّأ ظلالها، فإن دارَ في خاطِره أنّه يريدُ تفَّاحة تتدلى وتستقرُّ فى كَفَّه فيأكُلها، وعُلّقت تلك القِصَّة بذاكرته كما الأسئلةُ التي أثارتها؛ هلْ هذه التفاحة كالتُّفاح الذي نأكلهُ في حياتنا؟ وهلْ تُؤكلُ كما تؤكلُ أخواتها من تفاحاتِ الدّنيا أمْ بكيفيّة أخرى؟
فكلمةُ التّفاحة الحمراء تثيرُ عندَ المسيري ( نتيجة لتكوينه الثقافي والمعرفي ) معنًى مُغاير لهذا الذي يكون لغيره عندَ سماعِ ذات الجملة ومن هنا يبدأُ التحيز الفكري.
أثناءَ كتابةِ عمله الأشهَر(موسوعةُ اليهود واليهوديّة والصهيونيّة)، لاحظَ المسيري التحيُّز الواضحَ في المفاهيم المستخدمةِ لوصفِ العقائدِ اليهوديّة مما دفعه لدعوةِ مجموعةٍ كبيرةٍ من الكُتَّاب والمفكرينَ العرب؛ للمشاركة ببحوثهم عن موضوع التحيّز، وكانت ثمرةُ هذه الدعوة مؤتمرٌ بنقابةِ المهندسيْن بالقاهرة 1992 م وكتابٌ ضخم صدرَ عام 1993 م تحتَ اسم “إشكاليّة التحيّز -رؤيةٌ معرفيّة -ودعوةٌ للاجتهاد”.
فيقول المسيري أنّه من الوقائع الأساسيّة في التّاريخِ الغربيّ الحديث؛ واقعة الإبادة النازية لليهود في أوروبا التي يطلقُ عليها اصطلاح (الهولوكوست) أيْ “المحرقة”، وقد تحوّلت هذهِ الواقعةُ في الوجدان الغربيّ إلى ما يشبه الأيقونة: حالةٌُ يتطابقُ فيها الدّالُ مع المدلولِ عليه تمامًا، وتجسّد لشيءٍ ما لايمكن أنْ يفهمهُ المرءُ تمامًا ولكنّه مع هذا عليه أنْ يقبله دون تساؤُل.
هذا الشيءُ هو أنّ اليهودَ وحدهم همْ ضحايا العُدوان الألماني النازيّ، وأنّه قد ذبحَ منهم ستة ملايين ولهذا السبب؛ استحقُّوا أنْ يُمنَحُوا فلسطين!
وهنا تظهر التحيُّزاتُ المعرفيّة التاريخيّة في هذهِ الأيقونةِ الغربيّة، جليَّة.
فأولاً الإبادة النازيّة ليهودِ أوروبا ليست واقعةً استثنائية فى تاريخ الحضارة الغربيّة، بل إنَّ ممثلي هذهِ الحضارة قاموا بإبادة الملايين في الأمريكيتين وأفريقيا، فليسست أمرًا استثنائيّا، كذلك إسقاطُ صفة أساسية لصيقةٍ بهذه الحضارة ذاتِ الطّابع الإمبرياليّ الإستباديّ والمُتّسمِ بالإبادة إضافةً للتنصُّل منها، وادِّعاء البراءة منها.
ثانيًا لمْ يكُنْ اليهودُ فحسب ضحايا الإبادة النازية، بل ملايين غيرهم صُنِّفوا كأنَّهم مادةٌ بشريّة غير نافعة (أفواهٌ تأكل ولاتنتج) مثل؛ السلاف والغجر والمُعاقين، ولم يكن كل اليهود ضحايا النازي بل اقتصر الأمرُ على اليهود فى بضعِ مناطقَ من أوروبا.
كما ركَّز المسيري الضوءَ على مسألةٍ تم إغفالها كثيرًا في الفِكر الأوربيّ ألا وهي التعاونُ الذي دامَ لسنواتٍ طويلةٍ بين الحركتين الصهيونية والنازيّة اللذانِ تشاركا بنيةً فكريّة عنصريةُ متقاربةً تقومُ على نقاءِ الجنسٍ، وكان تعاونهما قبل (الحلّ النهائيّ) الذي جاءَ به هتلر؛ قائمٌ على إيقاظِ النازيّة الحسِّ القوميّ لدى اليهود، ممّا يعينُ الصهيونيّة في حِراكها القائمِ على تمايزِ الشعبِ اليهوديّ ورفض اندماجه فى المجتمعاتِ المختلفة والسَّعى لإقامةِ دولةٍ للشعبِ اليهوديّ حصرًا، فساعدَ النازيين على الهجرةِ إلى فلسطين حتى كان 25% من المُهاجرين إليها من ألمانيا لفترةٍ ناهزتْ العشرَ سنواتٍ قبلَ قيام الحرب العالميّة الثانية.
ومن خلالِ مثالِ التُّفّاحتين يبرزِ المسيري أوّل أنواعِ التحيُّز الناتجِ عن الارتباط الدّال بسياقهِ الحضاريّ الذي نشأ فيه، فيكونَ للكلمةِ معنًى يختلفُ من شخصٍ إلى آخر بحسبِ خلفيّته الثقافيّة.
فكلمةُ “أسرة” مثلًا لها معنًى في إطار الثقافة العربيّة الإسلاميّة مغايرٌ لمعناها الغربيّ العلمانيّ، وكذلكَ مصطلحُ التديُّن عندما نقرأ فى الصحافة الغربيّة “زادتْ نسبة التديُّنِ بينَ يهود نيويورك” فإنَّ أذهاننا تقفزُ لمفهوم التديُّن عندنا، وهو الالتزام بالأوامرِ والنّواهي الدينية، ولكنَّ مصطلح التديُّن هنا يُقصد به إقامة الشّعائرِ الاحتفاليّة والتي تُماثِلُ أكلَ الكُنافة وشربَ قمر الدين في رمضان عند مسلمي مصر، فهل أكل الكُنافة يعني التديُّن عِندنا؟
ونتيجةً لسوءِ الفهمِ هذا الذي أنتجهُ التحيُّز غير الواعي، يُسقِط القارىءُ المُسلم اعتقادته على الخبرِ ويعطيه مدلولًا مغايرًا لمدلوله الحقيقيّ ويترتب عليه نتائجُ بُنيت على هذا الفِهم الخاطىءِ الذي يتعاظمُ إثرهُ تدريجيًا.
وعندما تُرجِمت مصطلحاتٌ مثلُ العلمانيّة والتّنوير والعصورِ الوسطى وعصرِ النّهضة، تٌرجِمَت دونَ نيّة تحميلها مرجعيّاتها الثقافيّة، ولكن بالتدقيقِ نجدُ أنَّ الألفاظَ المُترجَمَة تحملُ انحيازًا لمرجعيّة ثقافيّة قد لا نتَّفقُ معها فمثلًا الحروبُ الصليبيّة هي المُصطلح الشّائع حاليًَا لوصفِ حروبِ الفِرنجة كما وصفها العربُ؛ نسبةً إلى الفرانك حيث كانَ أغلبُ جنودِ هذه الحملات فرنسيين ولكن وصفها بالصليبيّة يمنحُها معنًى مغاير ومدلول مُختلف لما قدْ نتفقُ معه على أنَّها حروبٌ دينيّة، قامت في سبيلِ نُصرةِ الصّليب وعندما نستعمل هذا المُصطلحَ “الحروبُ الصليبيّة ” فإننا نقعُ فى تناقضٍ واضح.
ويمكننا تلخيصُ رؤية الاستاذ المسيري للتحيُّز الفكريّ فى نقاطٍ معدودة:
أولًا -التحيُّز حتميّ ولكنَّه ليسَ مُطلق.
فإنَّ الإنسان ليسَ ألة صمّاء تسجّل تفاصيلَ الواقعِ دونَ اختيارٍ أو إبداع، بل إنّ العقلَ الإنساني إيجابيٌّ مُبدع وهو يدركُ الواقعَ من خلالِ نموذجٍ، فيستبعدُ تفاصيلَ ويضخِّم أُخرى ويركِّز عليها، فلايمكن أنْ يدّعيَ شخصٌ أنَّه موضوعيّ بشكلٍ مطلقْ في كافةِ الأمورِ إزاءِ كافةِ القضايا؛ لأن ذلكَ معناه أنْ موقفهُ سلبيٌّ من كلِّما يدور حوله وهذا مستبعدٌ؛ لأنّ كلَّ إنسانٍ تكوّنت لديهِ نماذج إدراكيّة يحدّد على أساسها موقفه من القضايا المُختلفة بحسبِ تكوينِه الثقافي الذي يمثِّل هويته، ولكنَّ هذا التحيُّز ليسَ نهائيًّا ولا يعني التَّناحُرَ والصِّراعَ الداّئم حتمًا، فالنهائيُّ هو القيمُ الإنسانيّة الأخلاقية المُشتركة بينَ النوعِ الإنسانيّ كله والتي تسبقُ تحيُّز الإنسانِ لأنَّها سابقةٌ على تكوينِ هويّته.
بينما إنكارُ التحيُّز في جوهره، تحيُّزٌ لرؤيةِ أنَّ الانسان محكومٌ بقواعدِ طبيعيّة راسخةٍ صارمة تسري على الكلّ، وأنَّ عقلَ الإنسان جزءٌ من هذه المَنظومة، وعليه تنتجُ آراءٌ متحيزّةٌ أخرى ولكن مع الإصرار على أنَّها الصّوابُ وليسَ تحيُّزًا لرؤيةِ ترى العقلَ يعمل آليًّا وفقَ قوانينَ ثابتةٍ لاتتغيّر، مُحدّدة سلفًا وتسري على الجميع.
ثانيا -التحيُّز ليسَ صورةً واحدة بل هو أنواع:
فهناكَ التحيّز لِما يراهُ الإنسان على أنَّه الحقّ وهذا هو الالتزام.
والإنسانُ المتحيّز للحقّ والحقيقة يمكنُ أنْ يتحمّس لهما وينفعلَ بهم، ولكنّه على استعدادٍ لأنْ يُخضعَ ذاته وأحكامه للمنظومةِ القيميّة وللحقّ الذي يقعُ خارجه، كما أّنه على استعداد لأنْ يختبرَ ثمرةَ بحثه، فهو لا يعتقد أنّ أحكامه (المتحيّزه) هي الحُكم النهائيُّ المُطلق إذ أنّ أحكامه أولا وأخير اجتهاد، وهوَ يدرك ذلك تمامًا.
فعلى سبيلِ المثال كاتبُ هذا المقال شخصٌ مسلمٌ ينظرُ إلى العالمِ من خلالِ عقيدتِه ويحكمُ على الأشياء بناءً عليها ولكنّه يُدرك أنّه ليسَ نبيًا يوحى إليه، وأنّه اكتسب عقيدَته بطريقِ السماعِ فيسلمُ باحتمالِ الخَطأ في التّلقي وسوءِ الفهم، فاعتقاده بأنّ تصرُّفًا ما حلالٌ أو حرام، يكونُ بناء على أدلةٍ قابلةٍ للضّحدِ وإثبات العكس بأدلةٍ أقوى حتى لا يكونَ مثلَ الذين قالَ فيهم سُبحانه( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ في اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيْر) ولا يكنُ كالذينَ يعبدونَ كما يعبدُ آبائُهم بالتقليدٍ الأعمى، بِلا تفكُّر ولا اجتهاد حقيقيّ للوصولِ للحقّ.
وهناك التحيُّز للباطلِ وهذا ياخذُ أشكالًا مُختلفة
1- التحيّز للذاّت حيثُ يجعلُ الإنسانَ مِن نفسه المَرجعيّة الوحيدة المقبولة، ويرتبطُ بهذا فكرةُ التحيُّز للقوّة فإنْ كانَ الإنسانُ منتصرًا يفرضُ إرادته، وإن انهزم تحوّل إلى واقعيّ يرضى بأحكام الأخرين ويخضع لها دون إيمان.
2- التحيُّز الواعي هو تحيُّز من يختارُ عقيدةً بعينها وينظرُ للعالمِ من خِلالها. والتحيُّز غيرُ الواعي، يستبطِنُ فيه الإنسان منظومةً معرفيّة دون أنْ يكونَ واعيًا بذلك.
فعندما نقول، عصرُ النهضة الأوروبيّ يقفزُ لأذهاننا صورُ انتعاشِ الفنونِ والأداب والعلوم، ولكنّه في الواقعِ عصرُ الإمبرياليّة والإبادة الجماعيّة للشعوب المُستعمرة على يد المستعمرين البيض، وعصرُ ميكافيللي وهوبز وعبادة الدولةِ بالقدرِ نفسه، والثورة الفرنسيّة لم تكن ثورة الحرية والإخاء والمساواة فحسب، بل كانت أيضا ثورةً دمويّة موغلةً فى العنفِ والإرهاب ولكنَّ التحيُّز غير الواعي يجعلُ أذهننا تُغِفلُ جزءًا من الحقيقة وتخفيه بينما تبرزُ أجزاء أخرى.
ويري المسيري أنَّ التحيُّز الأكبر لصالحِ مفهومِ الدّولة القوميّة العلمانيّة المركزيّة (وإن كانَ يُمكننا القولُ أنه يواجه بتحيّز آخر للدولة الدينية الإسلامية) فنجدُ مصطلحَ النّهضة في عقولِ البعض يتمثَّل ببساطةٍ في نقلِ النظريّة الغربيّة بحذافيرها وتطبيقها بصرامة على كافة نواحي الحياة، بلا أدنى ذرةٍ من تفكيرٍ أو اعتراض!
وفي مطلعِ القرنِ العشرين، كانت بداية هذه الموجةِ التى سمى روّادها بجيلِ النهضة والذين إن كانَ بعضُهم متطرِّفًا حدَّ المَسرحية فى مطالبته، بارتداءِ القُبَّعاتِ الأوربية وكتابةِ العربيّة بالأحرف الّلاتينية، وبعضُها كان أكثر عقلانيّة إلا أنَّ ما يجمعهم هو القناعة التامّة أنَّ لا سبيلَ لسدِّ الهُوّة بين الشَّرق والغرب إلّا اتباعُ الغَرب بالكلّية فى حلوهِ ومرّه.
وفي مرحلةٍ لاحقةٍ بدأَ هذا التيّار القائمُ على مثقفينَ غربيي الهوى والثقافة في تفسيرِ التُّراث العربيّ الإسلامي ؛بناءً على معطياته وبنيته الغربيّة في محاولةٍ لإعادة صياغة الهُوية الثقافيّة على أسسٍ غربيّة فيطلقُ على المُعتزلة أنَّهم عقلانيّون وأنّ ابن خلدونَ كان ماركسيّا وأنّ الجُرجاني أسلوبيّ! فيكونُ معيارُ أهميّة التُراثِ هو مدى قربه أو بعده عن النموذج الغربيّ العلمانيّ الماديّ!
وبينما ظهرتْ مقاومة تدعوا للتمسُّك بالتُّراث الحضاريّ العربيّ الإسلاميّ والعودةِ إليها لم ْتنجُ من التحيُّز لنموذج الغربي، فنجد من يصرُّ أنَّ الإسلام سبقَ العالمَ فى منحِ المرأة حقوقها وأن القوانينَ العلميّة موجودةٌ فى القرأنِ بصورةٍ إعجازيّة ما وجوهر ذلك تغريبُ النموذجِ الإسلاميّ، بحيث ُيتفقُ مع النموذجِ الحضاريّ الغربي ولا يعارضه من خلال عمليّة تلفيقيّة بين الإيمان والمادية.
وبوعي أو بدون وعي يعادُ اكتشافُ الدّين بناءً على معطياتِ الحضارةِ الغربيّة فى محاولةِ إثبات أنّ الإسلام لا يتناقضُ مع العلمِ الحديثِ والنفعيّة والعقلانيّة الغربيّة ومنْ ثم يؤسّسون شرعية هذا الدّين على أساس موافقته للحضارة الغربية!
فتحوّل الغربُ من تشكيلِِ حضاريّ له خصوصيته بناءً على تاريخه ومفاهيمه التي كوّنت هويتَه إلى النموذجِ العالميّ والرُّضوخِ لهذا النموذجِ يسمى الانتماءُ للعصر الحديث والتقدميّة والموضوعيّة.
قد يكون حديثُ المسيري عامًا وتأمُّلاته فى أوضاعٍ ثقافيّة عالميّة ولكنْ هذا العَرض لمفهومِ التحيُّز يصلحُ كمدخلٍ لكي يعيدَ كل منا النظرَ فى مواقفهِ، حتى يحاولَ تجنُّب فخَ التحيز الفكري الذي يمنع الإنسان من رؤية الحقائقِ ويحدُّ من قدرته على فهم الاختلافات.
المصدر كتاب / إشكاليّة التحيّز: رؤيةٌ معرفية ودعوة للاجتهاد.