الانطوائية: الخطأ الصحيح

الانطوائي كالسائح في بلدٍ ما، الغريب -إلى حدٍ ماـ عن ثقافته ولغته، الفرق الوحيد بينه وبين أي سائحٍ آخر هو أن الشخصية الانطوائية لم تختر وجهتها السياحية والتي تتمثل في خروجها إلى العالم الخارجي.

الكثير من الشائعات والمغالطات تلاحق الانطوائيين، كقول صديقٍ أعرفه “الانطوائي يحتاج إلى علاج حتى يندمج في مجتمعه”، وقول زميلةٍ لي بصوتٍ خافت ونحن في مصعد الجامعة “كلهم تعرفت عليهم وحكيت معهم إلا هالبنت الكئيبة، ما بتتكلم ساكتة طول الوقت” _في إشارة إلى زميلة كانت معنا في المصعد تبدو عليها أمارات الانطوائية_ وغيرها من العبارات التي نسمعها دائمًا، “ليش قاعد لحالك مضايق من شي؟”، “شفتي البنت اللي قاعدة هناك دايمًا لحالها ما تتكلم مع حد، بحسها متكبرة” والبعض يكون حكمه ربما أكثر رحمة قليلاً فيكتفي بالقول: إن الانطوائي خجول لذلك لا نجده يتحدث كثيرًا مع الآخرين.

أنا شخصيًا لا أستغرب كثيرًا من كل تلك الأحكام والانطباعات وليدة اللحظة، رغم أني لا أؤيد الحكم المتسرع والظاهري الذي يكون مبنيًا على الملاحظة النظرية فحسب لأنه يخطئ أكثر مما يصيب، ولكن أعتقد بأن هذا جزءٌ من طبيعتنا كبشر؛ التسرع في إصدار الأحكام على الآخرين.

الانطوائية ليست مرضًا نفسيًا:

الانطوائية ليست مرضًا أو خللاً نفسيًا، وهي بالتأكيد ليست توحدًا، هي ببساطة ميول في الشخصية وكما أن للشخصية الانفتاحية ميزاتها الخاصة تتمتع الشخصية الانطوائية كذلك بصفات خاصة، فمثلاً يُفضل الانطوائي الاستماع على التحدث، والأحاديث الطويلة مع أشخاص مقربين إليه على تلك الأحاديث العابرة والقصيرة مع الغرباء أو مجموعات كبيرة من الناس، الاختلاف الرئيسي بين الشخصيتين مصدره بيولوجيٌ بحت وليس نفسيٌ كما يعتقد الكثيرون.

فمثلاً الانطوائي يختلف عن الشخص المنفتح في طريقة استجابته لهرمون الدوبامين، وهو مادة كيميائية مرتبطة بالتحفيز والرغبة في الحصول على المكافآت، تقول الباحثة في علم النفس جينيفر جرانيمان في مقالٍ لها بأن الانطوائيين أقل استجابةً لهذا الهرمون من الأشخاص المنفتحين، وهذا غالبًَا ما يفسر شعور الانطوائي بالانزعاج وعدم الراحة أثناء تواجده في الأماكن المكتظة بالناس وتعرضه للمواقف الاجتماعية بشكل عام، على عكس الشخص المنفتح الذي يزيد إفراز هذا الهرمون عنده في الأماكن العامة وعند حديثه مع مجموعات كبيرة من الناس. حين يتعلق الأمر بالشعور بالراحة أو الاسترخاء فهناك بديلٌ آخر للانطوائي عن الدوبامين وهو الناقل العصبي أستيل كولين المسؤول عن شعور الانطوائي بالارتياح في عزلته، والذي يعزز أيضًا من قدرته على التحليل والتفكير بعمق. (١)

إعلان

الانطوائي لا يكره الناس وليس متوحدًا أو غير اجتماعي، وبالرغم من أن دائرته الاجتماعية ضيقة إلى حدٍ ما، إلا أنه في الغالب لديه أصدقاء- و إن كانوا قلةـ و يستمتع بالحديث والخروج معهم، ولكنه يحتاج إلى وقتٍ يقضيه مع نفسه لكي يستعيد طاقته التي استنزفت خلال تفاعله مع الآخرين.

هل تقف الانطوائية عائقًا أمام النجاح؟

إذا كنت تظن بأن الانطوائي شخصٌ منزوٍ في بيته، معتكفٌ عن العالم وترهاته، أو عضو غير فعال في مجتمعه أو موظف أداؤه العملي سيء فربما تتفاجأ عندما تعرف بأن أنجح رجال الأعمال هم في الواقع انطوائيون، مثل مؤسس مايكروسوفت بيل غيتس ومؤسس فيسبوك مارك زوكربيرغ ومؤسس جوجل لاري.

سُئل بيل غيتس في إحدى المقابلات التي أُجريت معه: كيف استطعت أن تنجح كشخص انطوائي في عالم يكتسحه المنفتحون؟ فأجاب بيل غيتس بأن الانطوائي الذكي يستغل سمات شخصيته المميزة والتي يتمثل بعضها في عمق التفكير والتحليل وحب الاطّلاع والبحث، كل هذه المميزات والصفات تسعفه في مواجهة المشاكل الصعبة والمعقدة في عمله، أما عندما يتعلق الأمر بالتوظيف وتحفيز الموظفين فلابد أن يتحلى ببعض صفات المنفتحين وينتهج سلوكهم في هذا الجانب من عمله؛ فتأسيس أي شركة أو “بزنس” يتطلب توافر مهارات من الشخصيتين الانفتاحية والانطوائية على حدٍ سواء. (٢)

قد يواجه الانطوائيون بعض التحديات ليحققوا أحلامهم أو أهدافهم في هذا العالم والتي في الغالب لا يتعرض لها المنفتحون، فمثلاً قد يبذل الانطوائيون جهدًا كبيرًا في القيام بأمور بسيطة وروتينية بالنسبة للأشخاص المنفتحين كالتحدث مع مجموعات كبيرة من الناس على سبيل المثال أو حضور اجتماعات طويلة تتطلب قدرًا من التفاعل والمشاركة مع الآخرين، ولكن هذا لا يعني أن الانطوائي إنسان غير مرن أو لا يخرج عن دائرة الأمان والراحة الخاصة به متى تطلب الأمر ذلك؛ فأي انطوائي ناجح يدرك أن ثمن نجاحه يتطلب تخليه ولو بشكل جزئي ومؤقت عن انطوائيته.

الانطوائي المتطرف: ما الذي فاته؟

أعتقد وبحكم تجربتي السابقة مع ما أُطلق عليه الانطوائية المتطرفة ـ أو بعبارة أخرى الانطوائية في أقصى درجاتها ـ تلك التي يرفض صاحبها أن يخرج من قوقعته الخاصة ويتفاعل مع العالم الخارجي ويعطيه ويعطي نفسه فرصةً ليكتشف جوانبه المختلفة، الحسنة منها والسيئة، هذه الفئة من الانطوائيين الذين اكتفوا بدورهم في عالمهم الداخلي بصورة شبه كلية قد فوّتوا على أنفسهم الكثير من التجارب والخبرات التي تتطلب بالضرورة قدرًا من الانخراط أو التفاعل الاجتماعي في العالم الخارجي، وقد حرموا أنفسهم أيضًا من التعرف على أناس جديرين بالمعرفة، يتشاطرون معهم الفرح فيتضاعف ويتعاظم ويتشاطرون معهم الحزن فينقسم ويتضاءل.

وفي النهاية قد تبدو الانطوائية سلوك خاطئ، شاذ عمّا هو سائد في عالمنا، فلا ينبغي للمرء أن ينعزل مع نفسه لوقتٍ طويل لأن الوحدة _غالبًا_ مقرونة عندهم بالكآبة والحزن، وعلينا أن نتجنبها حتى نتفادى المشاعر السلبية، الصواب أن يكون المرء اجتماعيًا، يُكون الكثير من الصداقات والعلاقات مع الناس _قوية أو سطحية لا يهم كثيرًا_ المهم أن يكون محاطًا بالناس. الصمت، الأحاديث المقتضبة، العلاقات الاجتماعية المحدودة، الجلوس وحيدًا لساعات طويلة في الغرفة، كلها أخطاء _بالنسبة لهم_ ولكنها في الحقيقة أخطاء صحيحة لأنها وإن خالفت السلوك المنفتح السائد في هذا العالم فهي تعكس الاختلافات البيولوجية بين البشر، والتي ينتج عنها ميول معينة في الشخصية وسلوكيات مختلفة، وبدلًا من أن ننعتها بصفات سلبية علينا أن نتقبل حقيقة أنها ليست عيوبًا أو أخطاء حقيقية وإنما أنماط وأساليب مختلفة في العيش.

المصادر:
(١) Why Introverts and Extroverts Are Different: The Science
٢) Bill Gates: How To Succeed As An Introvert

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: سلمى الحبشي

اترك تعليقا