الإنسان يبحث عن المعنى: خمسة دروس يمكنك تعلّمها
لمؤلفه د. فيكتور فرانكل
في عام 1945م وبعد شهور من إطلاق سراحه من معسكر الاعتقال في ألمانيا النازية، جلس السيد فرانكل ليكتب كتابًا، وكان حينها قد بلغ الأربعين من عمره. وكان فرانكل الذّي عمل معالجًا نفسيًّا في مدينة فيينا قبل اندلاع الحرب العالميّة الثانية، قد كتب مخطوطة كتابه في تسعة أيّام متتالية، وعلى الرّغم من أنّ الكِتاب يُلقي الضّوء على الأهوال والمعاناة التّي لا يمكن لبشرٍ تخيّلها، والتّي عاشها سجينًا في أوسشفيتز ودخاو وغيرها من معسكرات الاعتقال، فإنّ الغرض الأساسيّ من نصّ الكِتاب هو سبر غور تلك الإرادة القابعة وراء رغبته في البقاء على قيد الحياة. ومن الجدير بالذّكر إّن كِتاب “الإنسان يبحث عن المعنى” قد باع أكثر من 10 ملايين نسخة وتُرجِم لما يقارب 24 لغة.
وبينما يرى البعض أنّ الحياة سعي لا ينتهي وراء الّلذة، يرى آخرون أنّها عمليّة جمع القُوّة والمال، إلّا أنّ فرانكل يعتبر الحياة بشكلٍ رئيس سعي وراء المعنى.
وباعتبارنا بشرًا، فإنّنا غالباً ما نتطلّع إلى هوامش الحياة، فهي تلك المواقف شديدة التّطرف، والتّي تنخر في معدن الإنسان وخصيصته. فنرى فرانكل قد نجى وهو على شفير إحدى تلك الهوامش، لِيَخلُصَ إلى نتيجة أنّ الاختبار الأساسي للجميع هو إضفاء معنًى على حيواتِنا؛ بل إنّنا جميعًا لدينا قوّة الإرادة لإيجاد المعنى بغضّ النّظر عن الحالة الصّحيّة والماديّة والظّروف المحيطة؛ بل وبغضّ النّظر عن مدى التّعاسة والبؤس الرّهيب الذّي نعاني منه.
الدّرس الأوّل: دائما ما نستبقي القدرة لاختيار موقفنا
لطالما كان د. فرانكل مراقبًا حريصًا للسُّلوك الإنساني وأفكاره، ونورد هنا إحدى أكثر ملاحظاته عمقًا:
نحن ممّن شهدنَا معسكرات اعتقال، نستطيع أن نتذكّر أولئك الرّجال الذّين كانوا يمرّون على عنابر المعسكر لكي يهدّئوا من روع الآخرين، ويضحّون بآخر كسرة خبزٍ قد تبقّت معهم. ربّما كان عدد هؤلاء الأشخاص قليل لكنّهم يقدّمون دليلًا كافيًا على أنّك قد تَحرِم الإنسان من كلّ شيء عدا شيئًا واحدًا: إنّه آخر ما تبقّى من الحريّات الإنسانيّة، وهو أن يختار المرء موقفه في ظروفٍ مُعيّنةٍ؛ أيْ أنْ يختارَ المرء طريقه.
لقد سلبوا من د.فرانكل وزملائه المساجين كلّ شيء عائلاتهم-وأصدقاءهم -أعمالهم -صحّتهم -مقتنياتهم؛ بل حتّى تمّ تجريدهم من أسمائهم ومن الشَّعر على أبدانهم، ولكن بقي شيء يملكونه بحقّ، وهو: ما أشار إليه الفلاسفة الرّواقيون بالمُناجاة الدّاخليّة أو المبدأ التّوجيهيّ، أيْ حريّة اختيار استجابتنا لأيّ فكرة أو عاطفة أو حتّى مجموعة من الظُّروف المحيطة بنا.
على الرّغم من أنّ ظروفًا مثل قلّة النّوم، وعدم كفاية الطعام والضغوط الذهنية المتعدّدة قد تفترض أنّ النزلاء كانوا مجبرين على الاستجابة بطريقةٍ معيّنة، ولكنْ في نهاية المطاف يتّضح أنّ نمط الشّخص الذّي صار عليه السّجين إنّما كان نتيجًة لقرار داخليّ، وليس نتيجًة لمؤثّرات المعسكر فحسب. ومن ثمّ، فإنّ أيّ إنسان قادر، حتّى تحت وطأة تلك الظّروف، أن يقرّر ما سيكون عليه من الناحية الذّهنية والرّوحية.
أيْ إننا، مهما تكن تجارب الحياة التّي نمر بها، يظلّ لدينا دائماً تلك الحريّة الدّاخلية لنحدّد موقفنا، ونبقى صادقين حيال شخصيّاتنا وواجباتنا.
الدّرس الثّاني: سيكون دائماً هناك معاناة- ولكن ما يهمّ هو كيف نستجيب لتلك المعاناة؟
يقول فرانكل: إنّ الشخص يمكنه أن يجد معنى للحياة من خلال ثلاثة سبل؛ أولها من خلال العمل، وبشكل خاصّ عندما يحقّق العمل شيئين: أن يكون ذو طبيعة خلّاقة، وأن ينحاز إلى غرضٍ أسمى من ذواتنا. وثانيها هو الحبّ، الذّي غالباً ما يُعبّرُ عن نفسه من خلال خدمة الآخرين. والمعاناة ثالثها، التّي تُعتَبر جوهرَ وأساس التّجربة الإنسانية، وتلك بالتّحديد التّي عُنيَ بها فرانكل من خلال تجربته في معسكر الاعتقال.
إنْ كان هناك معنًى للحياة بصفة عامّة، فلا شكّ أنّ هناك معنًى للمعناة، فالمعاناة جزء لا يتجزّأ من الحياة، شأنها في ذلك شأن القدر والموت، فدون المعاناة والموت لا تكتمل حياة الإنسان.
وبالتّالي، فإنّ الاختبار لنا جميعا هو كيفيّة الاستجابة للمعاناة في حياتنا.
إنّ الطّريقة التّي يتقبّل الإنسان بها قدره، ويتقبّل بها كلّ ما يتحمّله من معاناة، والطّريقة التّي يواجه بها محنته، كلّ هذا يهيّء له فرصًا عظيمة – حتّى في أحلك الظروف – لكي يضيف إلى حياته معنًى أعمق.
الدّرس الثّالث: القُوّة الدّافعة لتحقيق الغاية
لاحظ فرانكل أنّ هؤلاء المساجين الذّين تمكنوا من البقاء على قيد الحياة، كانوا قد وجدوا سبيلًا لتحمُّل آلامهم، وكانوا دائما ما يملكون غايةً أكبرَ تشدُّ من أزرهم وتدفعهم للمضيّ قُدُمًا في تلك الظّروف الصّعبة. وكانت تلك الغاية للبعض طفلًا في ملاذ ما في بلد غريب ينتظر عودتهم للحريّةِ، وكانت للبعض الآخر شريك حياةٍ أو أحد أفرد العائلة، وكانت للبعض الآخر مهمَّة ما أو عملًا إبداعيًا ما لم يتم الانتهاء منه بعد، وكان في انتظار مساهمةٍ منهم ليكتمِلَ.
لقد كان فرانكل وزملاؤه يشاهدون بشكل مستمر زملاءهم المساجين الذّين فقدوا غايتهم في الحياة:
إن السجين الذي كان قد فقد إيمانه بمستقبله وبالمستقبل عامَّة، كان قد حُكِمَ عليه بالفناء. ومع فقدانه لإيمانه بالمستقبل، فقد أيضًا تماسكَه الرّوحي، وبذلك قد ترك نفسه للتّدهور، وأصبح عرضة للإنحلالِ الذّهنيّ والجسديّ.
لقد لاحظ د.فرانكل خلال عمله في المستشفى التابع للمُعسكر، أنّ نسبة الوفيّات ارتفعت كثيرًا في الأسبوع بين عيد الميلاد ورأس السّنة عام 1944م، وقد عزى ذلك الارتفاع الجذريّ للوفيّات لسذاجة الأمل عند عدد من السّجناء بأنّه سيتمّ الإفراج عنهم قُبيل أعياد الميلاد، وكلّما دنت السّنة من نهايتها، اتّضح لهم أنّ حالهم لن يتغيّر، وبالتّالي فقدوا شجاعتهم وأصابهم اليأس. وهذا أثّر بدوره على قدرتِهم على المقاومة ومقدرتِهم في النّجاة. ولطالما استشهد فرانكل بمقولة نيتشه: “من يمتلك سبباً يعيش من أجله، فإنّه يستطيع غالباً أن يتحمّل بأيّة طريقة وبأيّ حال.”
الدّرس الرّابع: الاختبار الحقيقيّ لشخصيّتنا يتكشّف في تصرّفاتِنا
ويخلُص فرانكل إلى استنتاجٍ مفاده أنّه لا يوجد إجابة عامّة لمعنى الحياة، فعلى كلّ شخص أن يجد الإجابة بنفسه، فيجد كلّ منّا المعنى الفريد الخاصّ به، طِبقًا لظروفنا وعلاقاتنا و تجاربنا؛ فالحياة في جوهرها اختبار لنا، والإجابة تتكشّف في كيفيّة استجابتنا.
كان علينا أن نتوقّف عن السّؤال عن معنى الحياة، وأن نفكِّر بدلًا من ذلك في أنّ الحياة هي التّي كانت تقوم باستجوابنا – في كلّ يوم وفي كلّ ساعةٍ، وكان يجب على إجابتنا أن تقوم على العمل الحقّ والمسلك الحقّ، وليس على الكلام أو التّأمل. فمعنى الحياة في نهاية الأمر هو الاضطّلاع بالمسؤوليّة لكي يجد الإنسان الإجابة الصّحيحة لمشكلاتها، وتحقيق المهامّ التّي تكلّف كلّ شخص بها بصفة مستمرّة.
وبالتّالي، فإنّ معنى الحياة ليس على قمّة جبل ما، وإنّما يتكشّف يوميًّا وفي كل ساعة، وذلك من خلال خياراتنا لاتّخاذ المسار الصّحيح ولإنجاز واجباتنا ومسؤوليّاتنا.
الدّرس الخامس: التّعاطف الإنسانيّ يتواجد في أكثر الأماكن مدعاة للدّهشة
قد يفترض أحدنا أنّ حُرَّاس المُعسكر وقائده كانوا، بصفة عامة، أناسًا فظيعين، غير أنّ فرانكل قد اختبر بين الفينة والفينة لحظات مذهلة للتّعاطف الإنسانيّ لدى بعض هؤلاء الحرَّاس، فيتذكّر فرانكل ذاتَ مرّة، عندما عرَّضَ أحد الحُرَّاس نفسه للخطر، ليأتيه سرًا بقطعة صغيرةٍ من الخُبز،
وكان الأمر الذّي حرّك مشاعري آنذاك يفوق كثيرًا مجرّد قطعة الخبز الصّغيرة، لقد كان ذلك ((الشيء)) الإنسانيّ الذّي منحه هذا الشخص لي – تلك الكلمة والنّظرة اللتان صاحبتا تلك الهدية.
وفي ذات الوقت، كان مأمور السّجن -وكان هو الآخر سجيناً- يغتنم أقلّ فرصة ليضرب المسجونين الآخرين.
إنّ مجرّد المعرفة بأنّ الشّخص كان حارسًا أو سجينًا بالمُعسكر، لا تعني شيئًا تقريبًا، فالتّعاطف الإنساني موجود في كلّ الجماعات، حتّى في تلك الجماعات التّي تسهل إدانتها على مجملها.
ويرى فرانكل أنّه يوجد نوعان فحسب من الناس: الإنسان المهذّب والإنسان السّافل. ونجد كلاهما في كلّ مكان، فيتغلغلان في كلّ جماعة وفي كلّ مجتمع.
إن الحياة في معسكر الاعتقال مزّقت الحجاب عن النّفس الإنسانية ولأنّها تعرّيها إلى أعماقها. فهل مما يبعث على الدّهشة أن نجد في تلك الأعماق مرّة ثانية الخواص الإنسانية التّي هي بطبيعتها مزيجٌ من الخير والشّر؟
إنّ كتاب فرانكل “الإنسان يبحث عن المعنى” بحق كتابٌ مٌلهْم، ويترك أثرًا عميقًا لدى قارئه، فإيجادُ المعنى وتعزيزه يعدُّ أمرًا حيويًّا في حياتنا اليوميّة إنْ كنّا نرغب في أن نحقّق ما عبّرعنه سقراط بقوله: “الحياة التّي تستحقّ العيش.” فاستبصارات فرانكل تعلّمنا أنّ الأمر لا يقتصر فقط على قيمة البحث عن معنى، بل إنّه من واجب كلّ شخص منّا أن يجد المعنى الخاص به ويسعى نحوه.
نرشح لك: الحياة في كتاب “الإنسان يبحث عن المعنى”
المصدر: https://www.realtimeperformance.com/5-lessons-from-viktor-frankls-book-mans-search-for-meaning/ يمكنك متابعة مقابلة مع د.فرانكل مترجمة للعربية على الرابط التالي: https://www.youtube.com/watch?v=T525Na5ga7c