الأديان في الفكر العلمي من أنكساغوراس إلى مرسيا إلياد الجزء الثاني
فلسفة الأديان
يسود اعتقادٌ بأنّ الفكر النّقديّ المقارب للأديان من الخارج بدأ مع اليونان تَأْرِيخِيًّا، إذ لا نعرف فكرًا من هذا الطراز مُؤرَّخًا وقابلًا للدراسة وفق أنساق فلسفية أو علمية، حيث “عرفت بعض مسائل علم الأديان الظهور منذ البدايات الإغريقية الأولى” (11). ففي هذه الفترة ومع بعض وجهاء الفكر في هذا القوم سوف يُعاد النظر لأول مرة تقريبًا في شكل الأديان الشائع آنذاك وهو “الأسطورة”. فقد عرفت القرون الستة قبل الميلاد حركة فكرية نشيطة متفلتة من قيود الرقابة المعيارية للمجتمع اليوناني القديم.
الأديـان في الفكر العلمي الجزء الأول
ذلك ما سمح بظهور كوكبة مباركة من الفلاسفة والعلماء الذين وضعوا الأسطورة على مشرحة النقد والشك والدراسة، فكانوا أقرب إلى نقّاد للمعتقدات الدينية أكثر منهم علماء أديان. لعل أشهرهم: “أناكساغوراس الأقلازوماني الذي اتُّهم بالإلحاد جراء اعتباره الشمس جرمًا عاديًا وليس إلهًا مقدسًا. فبفضل معاينة نيزك جوي متهاو سنة 468-467ق.م على أكيوس بوتموس اقتنع بواحدية الكون” (12). فمن المحال أن يكون الكون جوهرًا منفصلًا عن جوهر الشمس، فكلاهما من طبيعة واحدة. وبما أن الكون غير مؤلّه (بالكلية) فيتبعه في هذا الاعتبار الشمس والقمر. فالإله لا ينثر أجزاءه على أيكوس بوتموس. سيظهر بعده “كسينوفان دي كولفان الأيوني” الذي اشتهر بنقده لتشبيه الآلهة بما يتصوره ويشاهده البشر. يقول: “قد نسبوا للآلهة كلَّ مشينٍ وعار يعرفونه، مثل السرقة والزنا والغش والجنس”. حيث ما فتئ البشر يتصورون الآلهة على شاكلتهم، تملك ألسنة ولها صوت وبدن مثلهم، إلى حد اعتباره للحيوانات لو كانت تملك ما يملكه الإنسان من خيال لكانت في رؤوس آلهتها القرون وفي أرجلها الحوافر (13). فـ”الآلهة-كما يقول كزينوفان- ليست سوى رغبات الإنسان المتحولة إلى كائنات سماوية” (14).
من جهةٍ أخرى حاول “فيوثجان الريجوني” تقديم تأويلٍ مجازيٍّ للأساطير. حيث اعتبر الآلهة قوى طبيعية مؤلّهة لعدم قدرة الإنسان على اكتناه أحجيتها. ما يُظهر أنّ الأسطورة كانت جوابًا مقدّسًا يعوّضُ جهل الإنسان بالطبيعة ويشعره بالاطمئنان. “فتأليه القوى الطبيعية التي تبقى آليتها مجهولة من طرف الإنسان، تثير مشاعر الرهبة والافتتان لديه” (15). وفي نفس الاتجاه يعتبر “هيراقليطس الأفسوسي” أن الأساطير ليست إلا ترميزات للحقيقة التي تعين دون حصر الجوهر الخفي للآلهة، فالأساطير مجرد غشاء يفصل البشر عن الحقيقة الإلهية.
و هنا تقفز للعيان أحد أهم خصائص الأديان -حسب فلاسفة الأديان- و هو ميزتها “الخفية والعجائبية” (16). بعد اليونان سيأتي الرومان، حيث ستختلف مساهمة المفكرين الرومانيين في نقد الأديان، فبالاستفادة من التراث اليوناني ذي النزعة العقلانية، سرت في الفكر النقدي الروماني الاستثنائي (وليس الشائع) روح عقلانية راديكالية. ذلك ما يظهر من موقف “لوكراس” الذي كان يعتبر الأساطير مجرد خرافات ناتجة عن الجهل وعديمة الفائدة، لا تصلح إلا “لخرفنة” الناس. لذلك ندّدَ بمختلف أشكال التلاعب بالدين من طرف راكبي حصان السلطة. يقول: “إن هذه الآلهة المزعومة ذات القوة الجبارة والعلم الواسع والحضور الكلّي والساكنة في السماوات، لا تزيد على كونها نتاج الجهل الإنساني، فبوادر الرهبة الأولى من الكون هي التي ولدتها” (17). أكثرُ راديكاليةً منه نجد “فارون” الذي بدوره يعتبر الإنسان هو من خلق الإله وليس العكس. إذ إن “الآلهة ليس لها من حقيقة إلا بحسب ما يرفع لها الإنسان من عبادة” (18). فحسبه لولا وجود الإنسان لما وجدت الآلهة.
بالانتقال إلى الفترة الحديثة ومع تصاعد النزعة العقلانية خصوصًا أثناء وبعد عصر التنوير، ستتميز الفلسفات التي ظهرت في هذه الفترة بروحٍ نقديّةٍ عالية، تتمايل بين الاحتفاظ بقيمة وجدانية للدين رغم نقد محتواه المعرفي والتاريخي من جهة، أو الدعوة إلى تجاوزه والانتقال إلى شيء آخر مسايرةً “للتقدم” الذي شكّل في فكر الأنوار هدفًا مقدّسًا. وأكيد أن أيديولوجية هذه الفترة وهي “العقلانية الخالصة” أثّرت على تأملات الفلاسفة في هذا الشأن، إذ نجد مثلًا “جيمس فرينتال” في هذا السياق يقول: “إن البحث في الأساطير ليس لهدف آخر سوى الكشف عن تاريخ أخطاء العقل الإنساني” (19)، طبعًا من أجل تدارك هذه الأخطاء بهدف تعبيد الطريق أمام البشرية من أجل التقدم. غير أنّ هذا التيار زاحمه آخر وسار في اتجاه مختلف تمامًا جسّدته الرومانسية الألمانية أو “التيار المثالي في فلسفة الدين” الذي كان ردّ فعل ضد تيار “العقلانية الخالصة”.
حيث أصبح الهدف من دراسة التاريخ ليس كشف أعطاب استعمالات العقل، بل صار ماضي الإنسانية في وعي “فرهارد هردر” مثلًا “عبارة عن مستخلص لتربية البشرية لأنه منتوج من خبرات محددة و أصيلة” (20)، و به تحوّل التاريخ كذاكرة للأديان من محتوى للخرافات إلى خزان للحكمة الإنسانية. و لعلّ “بنجامين كونستان” أحد أهم ممثلي هذا التيار، فهو يعتبر بأن العقلانية ليست بذي جدوى لفهم الظاهرة الدينية، إذ من اللازم اعتماد إحساس ونوع من “الحدس”، لأن “الشعور الديني” هو الوسيلة لمعرفة العبقرية الخاصة بكل الشعوب والأديان. فهذا الشعور يتطلّب الإقرار بعالم متعالٍ لامرئيّ. إضافة إلى ذلك، فللإنسان “رغبة” ملحّة و حاجة للدخول في تواصل مع عالم آخر لامادي. فإنه يصاب بالقنوط في العالم المعاش لذلك يطير إلى عوالم متخيَّلة، لا يمكن التحقق من وجودها بالفعل، لكنها موجودة في “شعور الإنسان”. ذلك عند بنيامين هو جوهر الدين المتفلت من كل عقلانية مادية (21).
و يبقى “شلايرماخر” واحدًا من أشهر فلاسفة ولاهوتيّي هذا الاتجاه، فقد برَّأ الدين مما يُنقص من قيمته، وهو “الادعاءات” أو نظرية المعرفة التي تقبع في كل دين بشأن أصول الأشياء. حيث يميل كل دين بطبيعة من أنتجه إلى أن يجيب بطريقة أسطورية عن أسئلة تجيب عنها أشكال أخرى للمعرفة الإنسانية كـ”العلم” بطريقة تجريبية أكثر إقناعًا. بذلك تصبح أجوبة الأديان في موضع لا تحسد عليه كلما تقدمت العلوم. بخلاف ذلك عند شلايرماخر “ليس هدف الدين تفسير الكون أو قول الحقيقة المطلقة بشأن الموجودات كما تفعل الميتافيزيقا، و لا حتى هدفه إصلاح العالم بحسب نوامس أخلاقية، بل إن الدين في جوهره ليس فعلًا و لا فكرًا، وإنما هو تأمل حدسي وشعور رفيع” (22). إذا كان شأن الأجوبة عن أسئلة الإنسان شأن المعرفة، فإنّ هذه الأخيرة خاضعة للتحول والتطور حسب أدوات ومدارك البشر حسب الزمان، غير أن “الدين غير مرتبط كشعور وحدس بأي زمن ولا تقليد منتقل من عصر إلى آخر” (23)، وهذا ما يضفي على الدين شيئًا من الفطرية القابعة في نفس الإنسان.
لم تمرّ استنتاجات التيار المثالي بشأن الدين مرور الكرام، فقد تعرّض إلى حملة نقد شعواء من طرف الجيل الثاني لتيار “العقلانية المادية”. إذ حصل التحول بدءًا من “فلهايم هيغل”، فقد أتت مقاربته إلى الدين متأثرةً بمشروع فكري هائل كانت غايته طبعًا هي التقدّم، و حثّ الألمان على التحرك كما فعل الفرنسيون. حيث كان هيغل يعتبر فرنسا الثورية منارة للتنوير، وكان يعتقد بأن مع الثورة الفرنسية “أبواب التغيير قد فتحت من أجل استعادة الحرية” (24). و بالتالي فما هو سياسي أثّر بشكل ملحوظ على نظرة هيغل للدين، فقد أدرك هذا الفيلسوف -بحسّه التاريخي- بأن الإنسان والمجتمع تاريخيًا تحرّكه معانٍ مثالية كانت فاعلة جدًا في بعض فترات التاريخ، إلا أنها أصبحت عاجزةً عن ململته منذ القرن 17م على الأقل.
صحيح أن هيغل أكد أن الإنسان هو من ينتج هذه المعاني ثم ينسبها إلى قوى خارقة كـالآلهة، غير أنه يدعو إلى: “المطالبة -وإن نظريًا- بالكنوز التي بيعت للسماء بثمن بخس بعدما كانت ملكًا للبشر” (25). و لا يقصد بهذه الكنوز سوى تلك المعاني التي تحرك التاريخ. ففي سياق هذه الدعوة سيتحوّل ما هو مثالي ومتخيل في الأديان إلى ما هو واقعيّ وعينيّ ومساعد على التغيير المُراد. يحصل ذلك بدياليكتيك خاص يتحوّل فيه “الإله” محرك التاريخ القديم إلى “العقل” محرك التاريخ القادم. حيث تبتغي هذه الفلسفة إرجاع الإلهي وتجسيده في الإنساني، وتحويل الجنة من التحقق فيما بعد الموت إلى التحقق في الأرض وفي الواقع.
بذلك فإن فلسفة هيغل تؤنسن اللاهوت وتُعقلن ما تَمثلن فيه في التاريخ، من أجل إحداث تغيير في المجتمع تقوده عوامل إنسانية واقعية أكثر من العوامل اللاهوتية المثالية التي فقدت قدرتها على التغيير، خصوصًا بعد أن تجمّدت في قوالب دينية طقوسية غير معترفة بحركة التاريخ. لذلك سنجد هيغل منذ شبابه ينتقد “الدين المُنزَّل”، الذي حسب ما يذكر جون هيبوليت يعتبره هيغل: “قائمًا على السيطرة ويعامل الإنسان كطفل ليفرضَ عليه من الخارج ما ليس متضمّنًا في مبادئ عقله” (26)، وبالتالي يعيق مسار تقدمه. فمتى كان شرط التقدم الحرية أو “تقدم الوعي بالحرية وبعده يخطو الوعي إلى الفعل”، فإن الهيغيلية تحاول تحرير الأول (الوعي/الإيمان) من أجل تحقيق الثاني (الفعل/ التغيير) (27). يقول هيغل: “إن الحاجة الملحّة للإنسان في زماننا هي أن يكون حرًا، أي ألا يتلقى من أحد سواه قاعدة فعله” (28). إذا علمنا أنّ من جملة الأشياء -حسبه- التي تقيد حرية البشر وتفرض عليهم قاعدة السلوك خارج ذواتهم هي الدين، أدركنا أنّ نقده غير موجه سوى لجهاز ليس أحد جناحيه غير الدين والآخر السياسة. إذ حسب هيغل: “المسيحية الثيولوجية الطقوسية أصبحت تمارس استلابًا على المؤمنين بها، وأنّ التحرر منها هو السبيل نحو أوربا جديدة” (29).
منتقدًا لهيغل ومتجاوزًا له، سوف يعمل “لودفيغ فيورباخ” على توضيح ظلال الميثولوجيا التي بقيت في الفلسفة الهيغيلية، إذ أكد هذا الفيلسوف بأن: “الهيغيلية كانت المحاولة الأسمى والأخيرة لاستعادة المسيحية الحائرة والمخلوعة عن عرشها” (30). حيث بقيت هذه الفلسفة تفصل بين الإله والإنسان، في حين أن هذا الفصل مجرد وهم عند فيورباخ (31)، حيث اعتقد أن الإنسان والإله لهما جوهر واحد هو الأنثروبوس، وكلاهما يعيش فقط في الأرض. ذلك ما لم يدركه هيغل. لذلك دعا فيورباخ كما يوضح هربرت ماركيوز إلى: “تحويل النظرية في الإله (الميثولوجيا) إلى النظرية في الإنسان (الأنثروبولوجيا) لتتحقق السعادة الأبدية مع تحول مملكة السماء إلى جمهورية أرضية” (32). فلا يجب المناداة باستعادة ما بيع للسماء بثمن بخس كما اعتقد هيغل، بل لا يوجد في السماء شيء يشتري ممتلكات الأرض، بل كل ما يجب فعله حسب فيورباخ هو “قلب الجوهر”، أي قلب الإله إلى وجهه البشري الذي نسيه، وقلب الإنسان إلى وجهه الإلهي الذي غاب عنه بين غبار التاريخ. وهذا ما يسمى بالديالكتيك النازل والصاعد عند الهيغيلي الشاب.
فحسبه، الإنسان لم يخلق الإله، بل هو نفسه الإله. فهذا الأخير عند فيورباخ ليس سوى إنسان قد تخلص وتحرر من الحدود والقيود المحيطة به أو المصادرة عن طبيعته. ولفيوراخ من الأدلة على حكمه هذا الكثير، وقد عرضه في كتابيه “أصل الدين” و”جوهر المسيحية”. فعنده تشبيهات الإله في الكتب المقدسة على أنه شخص يتكلم ويغضب ويتوعد ويحب ويتأثر بالرجاء وغيره، ذلك كله بالنسبة إليه لا ينبئ إلا بما هو بشري، إذ “وحدها -يقول فيورباخ- الكائنات المادية من تتأثر وتنفعل وتثار” (33). كما يوضح ميسلان “فإن فيورباخ تصور مختلف أشكال التعبيرات العقدية والشعائرية ليست سوى وظيفة طبيعة للخيال” (34)، لذلك اختلط الإنسان مع الإله فقط تحت تأثير الخيال. وبالتالي يظهر مما سبق “أن الإله ليس سوى إنسان دون لحم و دم”. إذا كان ذلك كذلك فإن فيورباخ يدعو إلى “التحول فورًا إلى تمجيد الإنسان وتنصيبه في مكانه الحقيقي والإقرار علنًا بأنه هو الكائن المتعالي” (35)، وهو في رأيه سبيل الخروج من حالة العطالة الحضارية التي كانت تتخبط فيها ألمانيا منذ أواخر القرن 18م.
لن يحيد على هذا الاتجاه المتصاعد في تعرية الدين وإظهار سوأته أيضا “كارل ماركس”. هو الآخر في كتابه “أطروحات حول فيورباخ” سيعتبر أن الدين ناتج عن كونه: “انعكاسًا تخيّليًّا في العقل الإنساني للقوى الخارجية التي تحكم العالم اليومي للإنسان، وليس فقط للقوى الطبيعية التي تبقى آليتها مجهولة” (36). فهذه هي القاعدة التي انطلقت منها كل فلسفات عصر الأنوار وما بعده في مقاربتها للدين. غير أن لماركس زيادة راديكالية عمن سبقوه. فإذا كان هيغل وفيورباخ تساءلا عن كيف تحوّل اللاهوتي إلى الأنثروبولوجي، فإن ماركس -بحسه الجذري- بحث عن ما هي الشروط التاريخية والاجتماعية والسياسية التي تخلق الحاجة إلى الإيمان بما هو خفي، أي إلى إحداث هذا التحول من البشري إلى الإلهي بشكل عام. لأن عنده فيورباخ حلل نمطًا فقط للدين وليس العقيدة الدينية كليًا. كما أن منظوره اختزل الفلسفة في الدين (37)، وهو ما انتدب ماركس نفسه للقيام به. لذلك وسع دائرة التحليل كي تشمل أكثر من دين في أوروبا وآسيا، خصوصًا مع رفيقه “إنجلز” (38)، حيث بحثا عن الأسباب التي تحرك واقعًا ما لإنتاج وعي مغلوط. لذلك اقترح ماركس أننا بمعرفتنا لهذه الأسباب وتدميرها سوف يختفي الدين (39). حيث يظهر الدين في النصوص الماركسية “ليس كواقعة مستقلة الوجود، وإنما يُنظر إليها باعتبارها منتوج ظروف اجتماعية خاصة” (40).
باعتماد هذه الرؤية استنتجا أن الأديان في مختلف أطوار التاريخ سعت إلى فهم العالم غير أنها فهمته بالمقلوب، كما أنها حاولت البحث عن السعادة في عالم آخر بعد أن تعذّر على ملايين البشر في التاريخ تحقيقها في الدنيا. وهو ما يشير إلى أن الدين يجعل الإنسان “يغترب” عن عالمه الحي و يسبح عبثًا بخياله في عالم غير موجود. حيث إن هذا “الاغتراب الديني” عنده ناتج عن “اغتراب سياسي”. لذلك في دعوته إلى التغيير لم يدعُ كما فعل هيغل وفيورباخ إلى التحرر من الدين فقط، بل من الدولة أيضًا، باعتبارها أهم عامل تاريخي حافظ على الدين وساهم في نشره، لأنه شكّل بالنسبة إليها -أي الدولة- مصدر الشرعية. لذلك خطة ماركس اقتضت من أجل: “تحقيق الديمقراطية الكلية يجب الانتهاء إلى نفي ثنائية إله/ دولة” (41). هكذا فالدين عنده أحد أنواع الأيديولوجيا (بنية فوقية) التي يصنعها وينشرها من يتحكمون في وسائل الإنتاج (البنية التحتية)، حيث يتم بهذه الأيديولوجيا تخدير الطبقات الشعبية. إذ إن “الإنسان -حسب ماركس- خلق قوة خارجه فاستعبدته” (42). هكذا يظهر أن إسهاب فلاسفة الدين في الإطار النظري لعلم الأديان خصوصًا منذ عصر الأنوار تأثر بشكل كبير بالسياق السياسي والصراع الاجتماعي لهذه الفترة، لذلك يقول مشيل ماسلان: “أن هذه النظريات تضيق حدود مجال علم الأديان، بإغفالها التحليل الداخلي للظواهر الدينية” (43).
فينومينولوجيا الأديان
إن الفينومينولوجيا منهج ممتد من حقل الفلسفة بدون شك، إلا أنه تفلت من إطارها النظري الأنواري، خصوصًا إذا نظرنا إلى تطبيقاته في علم الأديان. فهو (منهج) مؤسس من طرف الألماني من أصل تشيكي “إدموند هوسرل”، ومطبق من طرف طائفة من عظماء الفلاسفة ليس أقلهم شأنًا هايدغر وسارتر وبول ريكور. ومدار هذا المنهج عن دراسة العالم كظواهر للوعي فقط، أي كتَمَثُّل. إذ تجاوز هوسرل هل يوجد الجدل الفلسفي القديم بين الواقعيين والمثاليين حول هل يوجد واقع فعلًا أم أنه غير موجود سوى في الكلمات والحواس، إذ اعتبر هوسرل أن الشيء موجود بمجرد أن يظهر للوعي. ذلك يدرك “بالعودة إلى الأشياء نفسها، بمعنى أن يكون الوصف الفلسفي لمعطيات الشعور بداية لكل تفلسف” (44). تاليًا، دعا هوسرل إلى وضع الظواهر المدروسة بين قوسين أي بلغته “الإيبوكي”، وهو مصطلح يوناني يعني تعليق الحكم عليها بأي شكل من الأشكال، ودراستها فقط من جهة المعنى الذي يضفيه الإنسان عن الظاهرة. وهنا فكرة جوهرية يطلق عليها هوسرل “القصدية”، وهو المفهوم الذي استعاره من أستاذه “فرانز برنتانو”، والذي يعني ما يقصده الفرد بتصرف أو خطاب ما. إذ إن غاية تعليق الحكم هو غض الطرف عن العالم الموضوعي، من أجل اكتشافه كما يعيشه الأفراد وليس كما هو موجود. وهنا نتحدث عن “التجربة أو المعايشة لشيء ما”. حيث يسعى هذا المنهج إلى تفسير علاقة الذات والموضوع على مستوى تجربة معاشة (45).
إن الفينومينولوجيا لا تهدف إلى معرفة الواقع الخارجي بموضوعيته، بل إلى تأويل المعاني والرموز التي من خلالها يعيشه الأفراد وفق تجاربهم الحياتية المختلفة، إذ ليس المهم هو العالم وإنما معناه (46). فمثلًا لا يهتم الباحث في علم الأديان بالله وهل هو موجود أو غير موجود، بل يهتم فقط بالمعنى الذي يكوّنه الإنسان بشأنه، أي ما يقصده المتدين بالله وكيف يعيش حياته باستحضار وجوده ومرافقته. واضح جدًا مبلغ حيادية وعمق الفينومينولوجيا خصوصًا إذا اعتمدها عالِم أديان. حيث نلاحظ بأن معظم من اعتمدوها في هذا الحقل كانت تحليلاتهم للدين أكثر اعتدالًا وتفهمًا، بما فيهم علماء الأديان العرب وعلى رأسهم “فراس السواح” (47). إذ نستطيع أن نقول أن مع الفينومينولوجيا بشكل أساسي تحققت علمية علم الأديان. فكيف كانت تطبيقات هذا المنهج إذن في هذا العلم؟
سيظهر للملاحظ حسب ما سبق عرضه بأن الفينومينولوجيا طُبّق بشكل قبلي من طرف “شلايرماخر”، لذلك لا غرو إن وجدنا معظم فينومينولوجيي الأديان تلامذة له إن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وفي طليعتهم “ردولف أوتو”. ففي كتابه المعنون بـ”المقدس” (1917م)، وعلى خلاف “التيار العقلاني”، يعتبر أوتو أن الدين واقعة مستقلة عن الإنسان. ما يعني بأن الدين ليس من صنع البشر، بل يوجد كمعطى خارجي فيستوعبه الإنسان على شكل إيمان. وبالتالي فالمقدس معطى غير قابل للاختزال في تصور أو تخيل بشري، حيث شدّد أوتو النكير على الاتجاهات التي تدّعي بأن الدين ناتج عن خيال البشر وأنه خرافي منحدر من سوء استعمال للعقل.
بالمقابل يعتبر أوتو أن الدين يتجسد في “الشعور الإنساني الذي يجد أساسه في وعي نفسي بما هو مفارق للإنسان و متعالٍ عن ظرفه الخاص”. فالإلهي لدى الإنسان هو الكل الآخر، لأنه في اختلاف كلي مع ما يعرفه الإنسان وما يمكنه معرفته، فهو في أجلّ صوره إحساس وشعور بوجود هذا الآخر. وفيما يخص الدراسة، إذا اكتفينا بدراسة التصورات الجماعية وألغينا تحليل ذلك الشعور الديني، فإنه يتعذر علينا بلوغ تفسير نشأة أي دين. حسب أوتو هذا الشعور الذي يعكس جوهر الدين يترجم إلى un style de vie نمط حياة (48)، يعبّر عن نفسه بواسطة “رموز” و”معانٍ”. حيث يؤكد أوتو بإلحاح أنه: “لأجل وصف المقدس فإن الإنسان لا يستعمل إلا ترميزات فكرية، فليس بإمكانه الإحاطة بالمقدس إلا بواسطة بعض الصور والأشكال من التعابير الأدبية التي هي لغات خاصة بالإنسان.
رغم ذلك يصعب استنتاج انتماء المقدس إلى صنف الأشياء المرئية والقابلة للتحديد عبر اللغة، فليس بمقدور هذه الأخيرة مدّنا بتصورٍ وافٍ، فالمقدس دائمًا أمر خفي” (49). بذلك فإن أوتو يقلل من أهمية النظريات التي تدّعي تملّك ماهية المقدس، وتبني حول ذلك استنتاجات قطعية. إذ إن أكبر مشكل يعترض تحديد المقدس من طرف عالم أديان هو اللغة. وهذه الأخيرة فاشلة في ضبطه وتقديم تصور واضح عنه. حيث يحتاج المقدس لفك رموزه ليس إلى لغة مكتوبة، وإنما إلى لغة نفسية تكتنه إحساسًا ذا طبيعة خاصة. ما يعني بأن تحليل علم الأديان للدين حسب هذه النظرة يعتبر إنشاءً للمقدس من الدرجة الثانية (بواسطة لغة خارجه)، هو نفسه يحتاج إلى تحليل (50).
مسايرة لهذا الاتجاه انقطع الألماني “غواشيم واش” إلى فصل علم الأديان عن تاريخ الأديان وعن سوسيولوجيا الدين، حيث دعا إلى البحث عن تأثيرات المنظومات الدينية على المجتمعات التي تشكلت فيها، وكذا تأثير دينامية هذه الأخيرة على المنظومات الدينية. يقول: “بواسطة المقارنة، لا نطمح لإجلاء المعنى المادي للدين فقط، وإنما أيضًا للوصول إلى فهم جديد للعلاقات بين الأشكال المختلفة للتعبير عن التجربة الدينية” (51). حيث تتضح هنا الخلفية الفينومينولوجية لمقاربة واش للأديان. فلا يهم الدين كواقعة موضوعية، و إنما يهم معناه حسب تجارب الأفراد الدينية. إذ على عالم الأديان -حسبه- أن يستوعب ما اعتبر على أنه ظاهرة دينية ليس من منطلق موضوعي، و إنما من منطلق ذوات المتدينين (52). استنكر واش -هو الآخر- اختزال الدين إلى حدود عرضية لبنية اجتماعية، واعتباره انعكاسًا مباشرًا لها لمصلحة مادية (كما اعتقدت الماركسية)، فالدرس المهم لإسهام واش هو أن الظاهرة الدينية تعبر عن نفسها خارج ما هو مادي ومتعلق بمصلحة الأفراد. إنها انعكاس لمثال متسامٍ وحدسٍ لانهائي.
و يبقى أشهر و أهم فينومينولوجيي الأديان في الفترة المعاصرة هو الروماني “مرسيا إلياد”. إذا كانت الفينومينولوجيا توجه البحث نحو المعنى الذي يمنحه المتدين إلى الدين، فإن إلياد ذهب إلى الهند وعاش تجارب دينية مختلفة، ما سمح له أكثر من غيره بأن يمسك بالمعنى العميق للمقدس انطلاقا من تجارب فردية و جماعية متنوعة وغنية مع هذا الأخير. ذلك ما أثر بشكل عميق على تحليلاته للأديان، حيث استنكر إلياد واستخفّ بكل النظريات الفلسفية والسوسيولوجية والسيكولوجية التي تحاول فهم الدين من الخارج، فذاك عنده اختزال رهيب للأديان. فالدين عنده فطري، وليس منتج بشري، بل هو من صميم تكوين الإنسان النفسي والفيزيولوجي، وبالتالي دراسته على أنه ظاهرة عرضية كالسياسة والاقتصاد والفن والأدب، مجرد اختزال وطيٌّ تعسفيٌّ لطبقات معاني الدين. يصف ذلك إلياد بـ”الخيانة العظمى لمعنى المقدس” (53)، حيث يتطلع إلياد إلى “الإلمام بتجربة المقدس la sacré في اختلافه مع المدنس le profane عبر مختلف تمظهراته، متجاوزًا فان در لاو، يسعى لبنينة مختلف أنماط الظواهر الدينية عبر إدماجها ضمن السلوك العام” (54)، أي باعتباره سلوك خارج ما هو مكتسب. فعنده لا يتيسر فهم الدين إلا في حدود خصائصه الذاتية، أي في مستواه الخاص باعتباره دين، و ليس دين أنتجته ثقافة أو سياق تاريخي اجتماعي سياسي (55).
بالنسبة لإلياد، الإنسان يوضع أمام عالم عمائي متناثر ومفتقد لأي معنى، لذلك وجد فيه ما يضفي على العالم المعنى، وهو الدين. حيث يؤكد بأن: “الإنسان يجد المعنى ضمن المقدس المافوق تاريخي، وحتى يصير إدراكه متيسرًا يتجلى في المعالم القدسية والرموز، التي ليست سوى أحوال للمقدس في لحظة محددة من تاريخه المعاش من جانب البشر” (56). إذا كان الخلل في المقاربات السابقة ناشئًا عن ربط الدين بما هو خارج عنه، خصوصًا التاريخ، فإن إلياد يدعو عالم الأديان إلى التخلص من ثقل التاريخ كي يسترد معاني و مُثُل القيم الدينية انطلاقًا منها في حد ذاتها. إن من أهم أفكار هذا الروماني الكبير ما أطلق عليه “أسطورة العود الأبدي”، حيث ترتبط التجربة الدينية بـ”مفهوم دوري للزمان”. و ذلك يتأسس على تمييز جوهري بين المقدس والمدنس. فالأول لا ينتمي إلى العالم المعاش العادي واليومي، في حين يتجذر الثاني فيه. وبالتالي يلاحظ إلياد أن بعض القبائل ترفض التاريخ باعتباره مدنسًا وعاديًا، في حين لا تقبل إلا بما هو مقدس، و”ليس ذلك بسبب قوى محافظة، وإنما بفعل رغبة جماعية لتسوية كل مستويات حياة القوم على قاعدة نموذية موحدة نابعة من الزمن البدئي الذي لا نجده سوى بواسطة الأسطورة” (57). فبما أن أصول المقدس موجودة في الماضي، فلابد من العودة إليه باستمرار (58). حيث كلما تقدم الزمن وجب عليه الارتداد إلى الخلف (كما هو الحال في العقيدة السلفية في الإسلام). بذلك يظهر بأن هذا التقسيم بين المقدس والمدنس المندمج في مفهوم زمني دائري له هدف مهم، وهو تنظيم الحياة بين هذا العالم والعالم الخفي. ومعلوم بأن المعنى لا يتجلى في الفوضى، وإنما في النظام. وهذا الأخير يقتضي تقسيمات لوصف وضبط الأشياء كالزمن.
إحالات و مراجع: (11) ميشال مسلان ، "علم الأديان مساهمة في التأسيس" ، م.س ، ص 29. (12) ميشال مسلان ، "علم الأديان" ، ص 30. (13) نفسه ، ص 31-32. (14) نفسه ، ص 56. (15) نفسه ، ص 33. (16) Cité à "Religion", dans "The encyclopedia of philosophy", sous dir. P. EDWARDS, 1967, vol. VII, p. 141 (17) ميشال مسلان ، "علم الأديان" ، ص 37. (18) نفسه ، ص 38. (19) ميشال مسلان ، "علم الأديان" ، ص 45. (20) نفسه ، ص 47. (21) نفسه ، ص 48-49. (22) ميشال مسلان ، "علم الأديان" ، ص 52. (23) نفسه ، ص 49. (24) Hegel, "Principe de philosophie du droit" , trad. André Kaan, Paris , Gallimard , p 209 (25) حاتم أمزيل ، "العلمانية في الفلسفة المعاصرة" ، مختبرالدراسات الرشدية ، فاس 2017 ، ط1 ، ص 50 . (26) jean hyppolite, "Introduction à la philosophiede hegel" , Paris, edition de Seuil, 1983, p 45 (27) حاتم أمزيل ، "العلمانية في الفلسفة المعاصرة" ، م.س.ذ، ص 57. (28) hyppolite , op.cit , p 44 (29) حاتم أمزيل ، "العلمانية في الفلسفة المعاصرة" ، ص 61. (30) Karl Lowith, "De Hegel à Nietsche" , Trad. R.Laureillard, Paris , Gallimard , p 103 (31) Ludwig Feuerbach , "Essence du Christianisme" , trad. Joseph Roy , Bruxelles , A.Lacroix , 1864, p 38 (32) Herbert Marcuse, "Raison, et Révolution- Hegel et La naissance de la Théorie Sociale" , (1954) , trad. Robert Castel et Pierre-Henri Gonthier , Paris , Minuit, 1968 , p 313 (33)Feuerbach , "Essence du Christianisme" , op.cit , p7 (34) ميشال مسلان ، "علم الأديان" ، م.س.ذ ، ص 55. (35) Jean-Claude Monod , "La Querelle de La Sécularisation de Hégel à Blumenberg" , PUF , Paris , 2007 , p 78 (36) ميشال مسلان ، "علم الأديان" ، م.س.ذ ، ص 82 . (37) Fridirich Engles , "Ludwig Feuerbach et la fin de la philosophie classique allemand", trad. Emil Bottigelli , Paris , Editions sociales , 1979 , p 57 (38) Willaime Jean-Paul , "Sociologie des religions" , Collection : Que sais-je ? , PUF , Paris , 2010 , p 6-7-8 (39) سيتم التأكد من هذا الحدس غير صحيح تماما، انظر خوسي كازانوفا ، "الأديان العامة في العالم الحديث" ، ترجمة قسم اللغات الحية جامعة البلمند ، المنظمة العربية للترجمة ، بيروت 2005 ، ط1 ، خصوصا الفصل الأول ، ص 25-56 . (40) دنيال هرفي ليجيه- جون بول وليام ، "سوسيولوجيا الدين" ، ترجمة درويش الحلوجي ، المشروع القومي للترجمة ، القاهرة 2005 ، ط1 ، ص 19. (41) Cité à, Frédéric V.Bandenbhergeh, «Une critique de la Sociologie Allemande- Aliénation et Réification», Paris, La découverte , 1997, p 69 (42 ميشال مسلان ، "علم الأديان" ، م.س.ذ ، ص 83 . (43) ميشال مسلان ، "علم الأديان" ، ص 84 . (44) يوسف سليم سلامة ، "الفينومينولوجيا- المنطق عند إدموند هوسرل" ، دار تنوير ، بيروت 2007 ، ط1 ، ص 12 . (45) ميشال مسلان ، "علم الأديان" ، م.س ، ص 170 . (46) جورج زيناتي ، "الفلسفة في مسارها" ، دار الكتاب الجديدة المتحدة ، بيروت 2013، ط2 ، ص 273-274 . (47) يعبر فراس السواح في مختلف كتبه على أن منهج بحثه هو الفينومينولوجيا ، انظر كتابه ، "دين الإنسان: بحث في ماهية الدين و منشأ الدافع الديني" ، م.س، ص 14.. أو ، "الله الكون و الإنسان- نظرات في تاريخ الأفكار الدينية" ، دار تكوين ، دمشق 2016 ، ط1 ، ص 17 (48) Roger Pouivet , "Epistémologie des croyances religieuses" , collection: Philosophie & théologie , Paris , 2013 , p 4 (49) ميشال مسلان ، "علم الأديان" ، م.س ، ص 94. (50) نفسه ، ص 88-89-94 . (51) ميشال مسلان ، "علم الأديان مساهمة في التأسيس" ، ص 120-121. (52) خزعل الماجدي ، "علم الأديان" ، م.س.ذ، ص 267. (53) Mircea Eliade, "Traité d’histoire des religions", (1990), bibliothèque historique payot, Paris, 2004, p. 11 (54) خزعل الماجدي ، "علم الأديان" ، ص 131. (55) ميشال مسلان ، "علم الأديان" ، م.س ، ص 177. (56) نفسه ، ص 178. (57) نفسه ، ص 181 . (58) خ. الماجدي ، "علم الأديان" ، م.س، ص 134.