اقتحام باحات الأقصى: ابتزاز أم عقيدة دينية؟

شهد يوم الإثنين 26 مايو 2025 تحت شعار “مسيرة الأعلام” في ذكرى احتلال القدس الشرقية، اقتحام ما يقرب من 2092 مستوطن يهودي وعلى رأسهم وزير الأمن القومي “إيتمار بن غفير”، ووزير النقب والجليل “إسحاق فاسرلاوف”، وأعضاء من الكنيست من أحزاب الليكود والقوة اليهودية، والصهيونية الدينية، وقد قاموا بالاعتداء على الفلسطينيين وممتلكاتهم بالإضافة إلى ترديدهم هتافات “كالموت للعرب”، و”لنسوّ غزة بالأرض”.
مما يجعل من يتابع التصعيد المتزايد في الاقتحامات الإسرائيلية للمسجد الأقصى، وطقوس الصلاة اليهودية التي تُؤدى بشكل متكرّر وعلني في ساحاته، يتساءل: لماذا هذا الإصرار؟ ولماذا تتحول منطقة يُفترض أنها خاضعة لوضع قانوني ديني خاص إلى ساحة يومية لاستفزازات دينية منظمة؟ للإجابة عن ذلك، لابدّ من الرجوع إلى البنية الأيديولوجية اللاهوتية التي تشكل وعي الصهيونية الدينية، حيث لا تُفهم هذه الأفعال باعتبارها مجرد تجاوزات أمنية أو سياسية استفزازية، بل كممارسات تنبع من رؤية دينية متجذرة تسعى إلى إعادة تشكيل المكان المقدس على أساس توراتي صرف.
تبدأ هذه الرؤية من إعادة تأويل مفاهيم أساسية في العقيدة اليهودية، وعلى رأسها “الخلاص” و”الهيكل” و”العودة”، حيث جرى علمنة هذه المفاهيم وتفريغها من بعدها الروحي الغيبي، ثم شحنها بدلالات قومية حديثة.
حيث كان يؤمن اليهود قبل نشوء الصهيونية بأنّ الوعد الإلهي الخاص بامتلاكهم الأرض المقدّسة قد تحقّق بالفعل وأنه كان وعدًا مشروطا بصلاحهم، فلما فسدوا عاقبهم الله بالشتات في الأرض، واعتقدوا أنّ سبيل عودتهم إلى أرضهم هو توبتهم وانتظارهم للماشيح المخلص ليأتي ويقيم دولة إسرائيل ويخلصهم من الشتات. لكن مع نشوء الحداثة في أوروبا وتبلور الدولة القومية الحديثة القائمة على الهوية الوطنية لا الدين، والاضطهاد الممنهج الذي مورس ضد اليهود من قبل المجتمعات الأوربية بسبب ثقافتهم الانعزالية والمنغلقة، وفشلهم في الاندماج داخل عملية التحديث السياسي والثقافي خاصة في أوروبا الشرقية؛ تبلور فكرة إقامة دولة قومية خاصة باليهود فيكونوا أمة كشأن باقِ الأمم، وبالفعل راجت تلك الفكرة بين اليهود وقام “هرتزل” رائد الصهيونية القومية بتبنيها والعمل عليها.
لكن ظهرت عقبة أمام فكرة الدولة القومية وهو التفسير الأرثوذكسي للتوراة والذي يمنعهم من إقامة دولة حتى عودة الماشيح؛ ولذلك عملت الصهيونية الدينية على إعادة تأويل المفاهيم اللاهوتية التقليدية لليهودية بما يتّسق مع أهداف المشروع الصهيوني، خاصة من خلال رفضها لمفهوم “الخلاص السلبي” الذي يفترض انتظار قدوم “الماشيح” لإنهاء الشتات. وبدلًا من ذلك، ربطت الخلاص نفسه بعودة اليهود إلى “أرض الميعاد” وتأسيس الدولة، معتبرة أنً غياب الدولة هو السبب الجوهري في ضعف اليهود وتفرقهم. ومن هنا، برز مصطلح “الحق التاريخي” لليهود في فلسطين، الذي وظّفه كل من التيار الديني والعلماني على السواء لحشد الجاليات اليهودية وتشجيع الهجرة. وقد عبّر تيودور هرتزل عن هذا التصور بقوله: “فلسطين وطننا التاريخي الذي لا يُنسى… الاسم في حدّ ذاته سيكون صرخة حاشدة لشعبنا””.
إعلان
ثم جاء الحاخام “أبراهام يتسحاق كوك”، ليمنح هذا البناء بعدًا لاهوتيًا صوفيًا عبر رؤيته لحلولية العلاقة بين “الشعب، الأرض، والإله”. ففي تصوّر كوك، الشتات لم يكن عقابًا إلهيًا بقدر ما كان حالة اختلال كوني ناتجة عن ابتعاد اليهود عن أرضهم، إذ يرى أنّ الروح الإلهية تحل في الشعب اليهودي، لكنها لا تكتمل إلّا على الأرض المقدسة. ومن ثمّ، فإن العودة إلى أرض إسرائيل ليست مجرد خطوة سياسية، بل فعل ديني يعيد تنقية الوحي وتجديد العهد الإلهي. ومن هذا المنطلق، لم تعد الصهيونية نقيضًا للدين، بل أداته الجديدة في تحقيق الخلاص، الذي يكتمل ببسط السيادة على كامل “أرض الآباء”، بما يشمل يهوذا والسامرة – أي الضفة الغربية – باعتبارها المرحلة الحاسمة في تطهير الروح القومية وتجسيد الوعد الإلهي.
بالتالي لم يعد “الوعد الإلهي” مشروطًا، ولا “الخلاص” مربوطًا بقدوم المشيح وتوبة جماعية، بل أصبحت إقامة الدولة اليهودية، والسيطرة على “أرض إسرائيل الكبرى”، هي التي تستجلب المشيح وتمهد لعودته. ومن ثمّ، فإنّ الحضور المكثف في القدس، والسيطرة التدريجية على المسجد الأقصى، لا يُعدان في المنظور الصهيوني الديني مجرد خطوات سياسية، بل أعمالًا ذات طابع طقسي تسهم في تسريع مجيء الخلاص الموعود.
ولا يمكن فهم هذا الهوس بالسيطرة على المسجد الأقصى دون استحضار الرمز الغائب دائمًا الحاضر في المخيلة الدينية اليهودية: الهيكل. إذ يمثّل “الهيكل الثالث” ذروة هذا المشروع اللاهوتي السياسي، بوصفه البنية المقدسة التي ينبغي أن تُبنى فوق جبل الهيكل – أي مكان المسجد الأقصى حاليًا – لكي تكتمل شروط الخلاص. وفقًا لهذا التصور، فإن بناء الهيكل ليس غاية سياسية أو أثرًا تراثيًا، بل واجب ديني ملزم، مرتبط ارتباطًا مباشرًا بعودة الحضور الإلهي وسط الشعب اليهودي. فالله – في اللاهوت التوراتي كما أعاد تأويله الحاخام أبراهام كوك – لا يسكن إلا في صهيون، ولا يتجلى إلا في هيكله، وبالتالي فإن غيابه طوال قرون الشتات كان نتيجة لطرد اليهود من الأرض، وتدنيس مكانه المقدس.
من هنا نفهم لماذا تسعى جماعات “أمناء الهيكل” و”صندوق تراث جبل الهيكل” إلى أداء طقوس دينية في الأقصى، ولماذا تُعد كل اقتحاماته اختبارًا تدريجيًا لكسر الوضع القائم. إن هذه الطقوس – مهما بدت رمزية أو فردية – تُمارَس بوصفها أفعالًا تأسيسية: تعبيرات عن “الحق الديني” في هذا المكان، وتهيئة روحية للبناء القادم. ولا يجب التقليل من شأن رمزية الطقوس، لأن اللاهوت اليهودي يربط بين الممارسة الدينية وبين إعادة القداسة للمكان، فكل صلاة أو تلاوة توراتية في الأقصى تُعتبر “تطهيرًا” له من النجاسة، أي من الحضور الإسلامي القائم.
ويكتمل هذا المشروع بإحياء رموز أخرى تُعد ضرورية لبناء الهيكل، وعلى رأسها “البقرة الحمراء”. في العقيدة اليهودية، لا يمكن دخول جبل الهيكل إلا بعد التطهر برماد بقرة حمراء تُذبح وتحرق وفق طقوس دقيقة. ولذلك كان استيراد خمس بقرات من تكساس عام 2022، ورعايتها في مستوطنة “شيلو”، خطوة بالغة الرمزية، توازي من الناحية اللاهوتية وضع حجر الأساس للهيكل. وفي مارس 2024، أعلنت جماعات الهيكل نيتها ذبح بقرة منها على جبل الزيتون، وهو ما يعني – وفق العقيدة – جاهزية جماعية للدخول إلى جبل الهيكل وإعادة تدشينه كمركز عبادة يهودي.
ولا يخفى أنّ هذا التصعيد تزايد بعد عملية “طوفان الأقصى”، التي مثلت صدمة استراتيجية للمجتمع الإسرائيلي، لكنها في الوقت ذاته أعادت بعث النزعة الدينية لدى المستوطنين، بوصفها ردًا وجوديًا على التهديد. في هذا السياق، شهد عام 2024 أكثر من 58 ألف مستوطن اقتحموا المسجد الأقصى، تصاعدت وتيرتها بشكل لافت في الأعياد اليهودية، إذ تجاوز عدد المقتحمين خلال عيد الفصح في أبريل 2025 وحده ثلاثة آلاف مستوطن خلال ثلاثة أيام، وهو رقم يكشف عن إرادة سياسية وأمنية منظمة لدفع المشهد نحو تغيير الواقع التاريخي القائم.
في ضوء كل هذا، يبدو أن المشهد لا يتحرّك عشوائيًا، بل يُدار وفق منطق ديني صهيوني يرى أن استعادة القدس – بكل ما تمثله – ليست هدفًا سياسيًا فقط، بل واجبًا دينيًا وسرًا خلاصانيًا. ولهذا قال بن غوريون ذات يوم: “لا معنى لإسرائيل من دون القدس، ولا معنى للقدس من دون الهيكل”. فالرغبة في الهيكل هي جوهر المشروع الصهيوني الديني، والاقتحامات المتكررة للأقصى ليست سوى تمارين رمزية وتمهيدية لهدمه وإقامة الهيكل الموعود، تحت ستار من الطقوس التدريجية والتطبيع الميداني. وهكذا، فإن ما نشهده اليوم ليس مجرد صراع على مكان، بل صراع على معنى، على سردية كاملة تحاول أن تستعيد نصًا دينيًا مؤسسًا وتُعيد تمثيله على الأرض، باستخدام أدوات الدولة والمستوطنين والعقيدة معًا.
كل هذه التحضيرات تُعبّر عن تصور ديني عميق بأن الزمن المقدس قد عاد، وأن التدخل البشري في بناء الهيكل ليس فقط مشروعًا، بل واجبًا. ومن هذا المنظور، فإن المسجد الأقصى ليس فقط موقعًا دينيًا إسلاميًا، بل هو – في العقل الصهيوني الديني – العائق الأخير أمام اكتمال “الخلاص اليهودي”. لذا، فإن كل اقتحام، وكل صلاة، وكل منع للمصلين المسلمين من دخوله، ليس إجراءً أمنيًا فقط، بل خطوة في رحلة إعادة “تقديس المكان” وفق العقيدة اليهودية الجديدة.
وبذلك، فإن ما يجري في الأقصى لا يمكن فصله عن السياق اللاهوتي الذي يحكم المخيلة الصهيونية الدينية. فالقضية ليست مجرد اقتحام عابر أو استفزاز مؤقت، بل هي فصل من فصول معركة سرديات: بين سردية ترى الأقصى موقعًا مقدسًا يُجسّد حضورًا إسلاميًا ممتدًا منذ قرون، وسردية أخرى ترى فيه أرضًا موعودة ينبغي تطهيرها وبناء الهيكل عليها كي يكتمل المشروع الديني والسياسي في آنٍ واحد.
مراجع ومصادر:
1 – بن غفير يقود اقتحامات واسعة في الأقصى والقدس، الجزيرة، 2025، متاح على:
رابط
2 – هاجر بنت يحيى، العلاقة بين العقيدة اليهودية والفكر الصهيوني، مجلة القراءة والمعرفة، ع207، 2019، ص320.
3 – ماهر الشريف، عندما لم تكن إسرائيل خيار تيودور هرتزل الوحيد، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، مارس 2025، متاح على:
رابط
4 – عبد الوهاب المسيري، تاريخ الفكر الصهيوني جذوره ومساره وأزمته، دار الشروق، ط2، القاهرة، 2014، ص434-436.
5 – جماعات الهيكل منظمات إسرائيلية تسعى لهدم المسجد الأقصى، الجزيرة، 2025, متاح على
رابط
6 – البقرة الحمراء” عند اليهود.. طقس للتطهر من نجاسة الموتى ودخول الأقصى، الجزيرة، 2024. متاح على:
رابط
7 – اقتحامات المستوطنين تتصاعد.. هل أصبح المسجد الأقصى في خطر حقيقي؟، الغد، 2025. متاح على:
رابط
8 – آلاف المستوطنين يقتحمون الأقصى وحماس تدعو للنفير لحمايته، الجزيرة، 2025، متاح على:
رابط
9 – يحيى سعيد قاعود، القدس في العقلية الإسرائيلية وتطلعاتها المستقبلية، مجلة البيان، ع319، 2013.
إعلان