إعادة الاعتبار للبناء الفوقي في التراث الماركسي: قراءة في مفهوم الهيمنة عند جرامشي

تكوّنت الماركسية في ظروف تاريخية قاسية طبقيًا، وجاءت كرد فعل مساو في المقدار ومعاكس في الاتجاه للاستغلال الطبقي الذي تعرّضت له البروليتاريا من قبل البرجوازية منذ أن بدأت تتهاوى المجتمعات الإقطاعية التقليدية، وظهرت المدن الصناعية والدولة القومية الحديثة في أوروبا. لقد انطلقت الماركسية التقليدية من مرتكزات مادية – أساسها البناء التحتي الاقتصادي – لتفسير الوجود الاجتماعي الذي تعتبر ظاهرة السلطة من أهم مرتكزاته. لذا، أهمل التحليل الماركسي التقليدي البناء الفوقي الذي قدمه ماركس على إنه كل ما هو ثقافي أو معرفي أو سياسي(1)؛ فكان الحلّ للوصول إلى المرحلة الشيوعية – وفقًا للماركسية التقليدية – هو سيطرة البروليتاريا على أدوات الإنتاج وإعادة تشكيل علاقاتها، دون إبداء الأهمية ذاتها للعوامل الثقافية.
وعلى وجه آخر، جاء كتاب «دفاتر السجن» لكاتبه أنطونيو جرامشي – الذي نشرت طبعتها الأولى عام 1947 في إيطاليا – بمثابة قراءة نقدية للنصوص الماركسية من حيث علاقة البناء الفوقي بالبناء التحتي، والخروج بأفكار كانت سباقة على الماركسيين في وقتها – وإن كان قد تعرّض لها بشكل ما أو بآخر ماكس فيبر في تحليله الخاص بعلاقة الدولة والمجتمع في ضوء الشرعية وتوضيحه للعلاقة المتبادلة بين البناء الفوقي والتحتي –(2). وكانت أهم هذه الأفكار هي توضيح دور الهيمنة الثقافية في الحفاظ على استمرارية الدولة الرأسمالية، وأهمية تثقيف الشعب العامل، وإقامة فروقات هامة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني، وكذلك وبين المثقف التقليدي والمثقف العضوي، كما انتقد جرامشي الفلسفة المادية التي تقوم عليها الماركسية وبالتالي التفسيرات الاقتصادية الحتمية المرتبطة بالماركسية.
لذلك، قدّم جرامشي رؤية وفهمًا جديدًا للماركسية، وحرّرها من مطلقتها التاريخانية، كما حرّر الماركسيين من الانغلاق على الفهم المادي والأرثوذكسي للماركسية؛ لأنها في النهاية فلسفة تؤمن بتحرير الإنسان؛ وكان ذلك نابعًا بالأساس من فهم جرامشي للفلسفة ووظيفتها باعتبارها أداة عقلية، وفكرية، ونقدية، وعملية، وثورية، تهدف للتثقيف الاجتماعي بهدف تغيير الواقع. لهذا يعتبر جرامشي من أهم من نقد الماركسية التقليدية من داخلها – أي من الماركسيين ذاتهم -؛ ليفتح المجالات لظهور التيارات الماركسية النقدية الجديدة والتيارات اليسارية الثقافوية عمومًا.
ستحاول هذه الورقة أن تنظر للكيفية التي أعاد بها أنطونيو جرامشي الاعتبار للبناء الفوقي في الفهم الماركسي لتحليل العلاقة بين الدولة والمجتمع في إطار مفهوم الهيمنة التي تمارسها الدولة الرأسمالية في البناء الفوقي، وكيفية تكوين ميكانيزمات المقاومة داخل هذا البناء، بدلًا من إهماله والتركيز فقط على البناء التحتي بما به من علاقات إنتاج. وذلك كله ليس خارج الهدف الأساسي للماركسية التقليدية التي تنشد تحرير الإنسان بتدمير الرأسمالية والبنى الاستغلالية المتعلّقة بها.
أولًا: بانوراما سريعة لحياة جرامشي
فضّلنا البدء بعرض سريع لحياة جرامشي؛ إيمانًا بأنّ الفكر لا ينفصل عن حياة المفكّر وواقعه وتجاربه وآلامه، بل هو نتاج جدل تعاطي ذات المفكّر مع واقعه؛ لذلك رأينا أنّ هذه الخطوة ستكون عامل مساعد على التعاطي مع إنتاجه الفكري بشكل أفضل، خصوصًا وأنه مفكّر حركي منخرط في العمل السياسي.
إعلان
ولد جرامشي عام 1891 بجزيرة سيردينا الإيطالية لعائلة فقيرة عانت من الحرمان من عائلها مبكرًا بسبب سجنه. وكان نمط الإنتاج في سيردينا نمط إنتاجي زراعي؛ وذلك لطبيعة العلاقة بينها وبين الشمال الإيطالي، حيث أنّ الشمال كانت تشكّله القوى الرأسمالية الصناعية والجنوب وسردينيا تسيطر عليهما طبقة مُلاك العقارات والأراضي الزراعية(3)؛ فعلاقات القوة بين الشمال والجنوب فرضت هذا النمط الإنتاجي على الجنوب.
وفي ظل هذه الظروف الطبقية السيئة أصيب جرامشي بمرض التحدّب ليُكثر من الأمر سوءًا، لكنه بالرغم من ذلك يسعى للحصول على منحة تعليمية لدراسة علم اللغة في جامعة تورينو، وبالفعل التحق بها وتعرّف فيها على بعض الرفاق الذي أسّس معهم بعد ذلك صحيفة باسم النظام الجديد، وقد لعبت هذه الصحيفة دورًا هامًا بعد الثورة البلشفية في روسيا 1917.
وتبعًا لطبيعة النمط الاقتصادي لمدينة تورينو الشمالية، تأثر جرامشي بالحركة العمالية وانضم للحزب الاشتراكي عام 1913، وما لبث أن انضم حتى قامت الحرب العالمية الأولى عام 1914 وقد زادت الوضع سوءا في المجتمعات الرأسمالية وأفضت إلى قيام ثورة أكتوبر في روسيا 1917 وما رافقها من اضطرابات كبرى في إيطاليا في نفس العام.(4)
وبدأت الحركات العمالية في إيطاليا بمحاولة الانتشار وتحقيق مكاسب مستغلّةً سوء الأوضاع مع بدايات انتهاء الحرب، وكان جرامشي منخرطًا في تلك النضالات من خلال التواجد والتنظير والكتابة في صحيفة النظام الجديد، لكن بعد اعتقال عدد كبير من الاشتراكيين على أثر النشاط الذي قاموا به؛ بدأ انحسار النشاط الاشتراكي لصالح الحركة الفاشية التي نبهت جرامشي بأفكارها وتنظيمها إلى أهمية المجتمع المدني ومؤسّساته كمجال للانتشار والدعاية والهيمنة، وأهمية كسب المعركة داخله قبل أي شيء. وفي إضراب أُقيم عام 1920 تدهورت على أثره العلاقة بين الاشتراكيين والسلطات الإيطالية، وتعاملت السلطات بعدها مع الاشتراكيين بشكل صارم. أدرك جرامشي في هذا المناخ ضرورة ترك النهج الإصلاحي وإعادة هيكلة فكره ونشاطه السياسي، مما جعله يشارك في تأسيس الحزب الشيوعي الإيطالي عام 1921. (5)
أسهم جرامشي بتحليل مسار فشل العمل الاشتراكي للفترة السابقة على تأسيس الحزب، وأسباب الصعود الفاشي، ونقد الفكر الليبرالي وتطوير أفكار حول نظرية الحزب ومسار عمله. ومع استيلاء الزعيم الفاشي موسوليني على السلطة في إيطاليا عام 1922؛ أخذت الأمور تزداد سوءًا بالنسبة للاشتراكيين. بعدما أثار نشاط جرامشي البرلماني والفكري الخطر على سلطة القادة الفاشست؛ قاموا باعتقاله عام 1926 بالرغم من كونه نائبًا برلمانيًا، وتم الحكم عليه بعقوبة السجن لمدة 20 عاما، وذلك بتهمة التآمر على النظام السياسي، وقد قضى منها 10 سنوات استغلًها في الكتابة وتطوير الأفكار الماركسية، حتى خرج من مسجنه عام 1936 منهكًا تمامًا من آثار المعاناة التي عانها في السجون الإيطالية الفاشية، وتوفى بعدها بعام في روما.(6)
ثانيًا: الهيمنة الجرامشانية في ضوء العلاقة بين البناء الفوقي والتحتي
بالرغم من أنّ النبوءات الماركسية كانت متعلّقة بالأساس بالمجتمعات الصناعية الغربية، إلّا أنّ أوّل ثورة اشتراكية ناجحة حدثت في روسيا، البلد الذي يختلف نمط إنتاجه الزراعي عما هو مفترض لتلك الثورة. وكان جرامشي يقف أمام هذه الحادثة التاريخية مفكًرا في الأسباب التي جعلت الثورة تقوم في هذا البلد الزراعي، ولم تقم في المجتمعات الصناعية.
المجتمع السياسي والمجتمع المدني
حلّل جرامشي هذا الموقف – التمايز بين المجتمع الروسي ومجتمعات الغرب وحدوث الثورة – من خلال مفهوم المجتمع المدني، حيث أدرك جرامشي أنّ المجتمعات الأوروبية الصناعية تختلف عن نظيراتها بما فيهم روسيا فيما يخص علاقة الدولة بالمجتمع. فالدولة الأوروبية القوية يناظرها مجتمع مدني نشط، وهذا بحكم حداثة المجتمع وعلاقاته الاقتصادية المعقدة، أما المجتمع الروسي فلديه سلطة سياسية باطشة ومجتمع مدني ضئيل لا يوازيها، ومن ثمة كان الانقضاض على السلطة أمرًا كفيلًا بنجاح الثورة البلشفية وإعادة تشكيل العلاقات الإنتاجية داخل المجتمع الروسي.(7)
ومن هنا أدرك جرامشي أهمية البنى الفوقية داخل المجتمعات الأوروبية باعتبارها مجتمعات أكثر تعقيدًا من أيّ مجتمعات. مما جعله يقيم تفريقًا في البناء الفوقي بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، فالمجتمع السياسي تمًثله الدولة بما فيها من بيروقراطية ضخمة متضمنة قوى قسر المجتمع كالجيش، والبوليس، والقضاء، والحكومة وفي مقدّمة كل ذلك القانون الذي يسيّر عمل تلك الأجهزة، وهدف هذه البيروقراطية الضخمة هو تقنين وتأمين استمرار قمع الطبقات المُستغلَة في المجتمع، لكن ليس بالقهر المادي فقط كما تصوّره ماركس وإنجلز، بل من خلال الهيمنة الايدولوجية؛ فالدولة عند جرامشي كيان مركّب ونسيج عضوي ليس بالبساطة التي تصوّرتها الماركسية التقليدية، ومن هنا فتح جرامشي الباب النظري أمام التيارات الذرائعية في الفكر الماركسي لإعادة التعاطي نظريًا مع الدولة وكيفية الاستفادة منها في النضال الطبقي.(8)
يتكوّن المجتمع المدني عند جرامشي من كل التنظيمات والمؤسّسات ذات الطابع غير الحكومي مثل النقابات، والأحزاب، والمؤسّسات التعليمية، والصحافة ودور العبادة. ويكون هذا الحيز الذي يملأ الفراغ الكامن بين الدولة والمجتمع بمثابة مجال حيوي للأيدولوجية التي تعكس النسق العقيدي والقيمي للطبقة المسيطرة، ووظيفة هذه الايدولوجية هي إقناع المجتمع أنّ الوضع الطبقي والاجتماعي القائم به يمثّل الخير والعدل لكافة المجتمع.(9) وبالتالي يمكننا القول بأنه قد فرّق منذ البداية بين الهيمنة والسيطرة، حيث أنّ السيطرة تُشكّل آلياتها من خلال المجتمع السياسي وأجهزته القسرية، بينما الهيمنة تتكوّن وتنتشر في المجتمع المدني ومؤسّساته الإقناعية.
الهيمنة وشبكة مفاهيمها
لا نستطيع التعاطي مع مفهوم الهيمنة الجرامشاني إلّا من خلال فهم مصادر تكوينه، فمصادر فكر جرامشي بشكل عام كوّنتها دراسته للتاريخ الإيطالي والأوروبي وقراءة ميكافيلي من جانب، والفكر الماركسي من جانب آخر. بالإضافة إلى سياقه الخاص به سواء في متابعة وحضور الأممية الثالثة ومتابعة مسار ثورة أكتوبر، أو حتى نضاله الداخلي ضد الفاشية.
وتبلور مفهوم الهيمنة في ذهن جرامشي كبديل لمفهوم ديكتاتورية البروليتاريا الذي اُعتمد من القادة السوفييت في الأممية الثالثة باعتباره مفهومًا ماركسيًا أصيلا، يُمكّن الطبقة العاملة من الاستحواذ على السلطة،(10) لكن كما وضّحنا أنّ المجتمعات الغربية التي بها مجتمعات مدنية قوية لن تكون اللعبة فيها داخل المجتمع السياسي فقط.
وعندما حلّل جرامشي بنية المجتمعات الغربية أدرك أنّ الطبقات البرجوازية رسّخت قيمها داخل المجتمع المدني بكافة مؤسّساته، ولكي يكون الحديث أكثر وضوحًا، يمكن فهم تلك الأطروحة في ضوء الإسقاط على مجتمعات أوروبا الإسكندفانية، حيث تُحكَم هذه الدول في كثير من الأحيان من أحزاب اشتراكية ديمقراطية، لكنها في الوقت ذاته تحافظ على البنى الرأسمالية للدولة مع إقامة ديمقراطية اجتماعية، وهذا لأنّ مؤسّسات المجتمع المدني تعتقد – في أغلبها – بما فيها الأحزاب الاشتراكية والنقابات العمالية أنً الرأسمالية أفضل الأنظمة الاقتصادية لإدارة المجتمع، وبالتالي استدامة ترسيخ الرأسمالية جاء من البناء الفوقي للمجتمع، وتولّي السلطة فيه من الاشتراكيين لن يفضِ إلى شيء بخصوص تدمير البنية الرأسمالية للمجتمع، ولن يتجاوز تخفيف آثار الرأسمالية على الطبقة العاملة.
أما فيما يخصّ المصدر الثاني الهام لمفهوم الهيمنة في فكر جرامشي فقد كان الفلسفة الميكافيلية، حيث أنه قرأ ميكافيلي وتأثًر بمفهوم القوة عنده باعتباره خليطًا من عمليتين القبول والإكراه، لكن تكون الهيمنة فاعلة عندما تسود عملية القبول، وذلك لا يعني استبعاد عملية الإكراه تماما؛ لأنه لاتزال مطروحة على الهامش في حال إمكان الخروج من حيز الهيمنة،(11) كما أنّ الهيمنة تجعل ما يعبّر عن مصلحة طبقة معينة يحقّق في الوقت عينه الانسجام للمجتمع بالرغم من التناقضات الطبقية الموضوعية الموجودة؛ لأنّ المجتمع كافة يعتقد بقيم ثقافة الطبقة المهيمنة بغضّ النظر عن موقع الفرد الطبقي منها. وهذا يشبه إلى حدّ كبير الفكرة القومية التي تجمع كافة طبقات المجتمع تحت ولاء هوياتي واحد.
ويمكن فهم نظرية الحزب عند جرامشي في إطار مشروع دولة الأمير الميكافيلية، مع فارق أنّ ميكافيلي سعى لتوحيد إيطاليا بينما جرامشي كان يحاول تخليصها من الفاشية، ومن الطريف أنّ كل من جرامشي والفاشست كانوا ينطلقون من قراءة ميكافيلي بالأساس. كما أنّ جرامشي سعى لتحرير مفهوم القوّة من ظرفيته التاريخية ليُسقطه في قلب التفاعلات الاجتماعية في أوروبا القرن العشرين، وقد تعامل مع أمير القرن الخامس عشر باعتباره هو الحزب الثوري في قرن الثورات الاشتراكية.
وقدّم جرامشي الهيمنة على أنها عملية ربط مصالح كافة طبقات وفئات المجتمع بمصالح طبقة محدّدة، وذلك عن طريق الأيدولوجية التي تضمن لهذه الطبقة القيادة الفكرية والأخلاقية أو الثقافية بشكل عام.(12) وإذا فكًكنا تلك الرؤية للهيمنة سنجد لها عدة دلالات هامة، أوّلها أنّ جرامشي تعامل مع الهيمنة كاستراتيجية تعمل على ديمومة وضع يخدم واقع طبقي معين، وهذا الوضع غير مقتصر على خدمة البرجوازية، وبالتالي يُمكن للبروليتاريا الاستفادة من هذه الهيمنة من خلال الفوز في حربها.
وبهذا يكون قد تعامل أيضًا مع الاستراتيجية باعتبارها ذات أهداف محافظة أي تهدف للبقاء على الوضع القائم، أو ثورية ترغب في تغيره. لذا يكون جرامشي قد أسس لأداة تحليلية عامة – بالرغم من انتماءه الفكري المعروف – لأنه لم يقصر ممارسة الهيمنة على طبقة بذاتها أو وضع طبقي معين.
كما أنه قد خلّص مفهوم الأيديولوجية من دلالته السلبية في الفكر الماركسي، حيث أنّ ماركس قد رأى الأيدولوجية على أنها ذات دور وظيفي في تشويه وعكس الواقع وقد جاءت الاشتراكية العلمية لتعيد عكس انعكاس الواقع لتعطي الصورة الحقيقة للمجتمع والتاريخ، بينما رأى جرامشي أنً الأيدولوجية قد تلعب دورًا وظيفيًا في خدمة مصالح الطبقة العاملة إذا تم نشرها في المجتمع المدني.
وإذا كانت رؤية جرامشي للهيمنة تضمن للجميع العمل كما حلل المجتمعات الغربية، فكيف يمكن للطبقة العاملة الاستفادة من ذلك إذن؟ ينقلنا ذلك التساؤل إلى شبكة المفاهيم الهامة المرتبطة بمفهوم الهيمنة باعتبارها ميكانيزمات حركة للطبقة العاملة، تمكّنها من أداء مهامه في التخلّص من الاستغلال البرجوازي الذي تتعرض له.
الاستراتيجية بين حرب الحركة وحرب المواقع
استفاد جرامشي من التجربة السوفيتية في الثورة كما أوضحنا سلفًا، وفي ضوء تفاعله مع هذه التجربة وتساؤله حول عدم حدوث مثلها في المجتمعات الغربية؛ كوّن استراتيجيته الخاصة بالحركة على الأرض من أجل إمكانية تحرير الطبقة العاملة. رأى جرامشي أنّ حرب الحركة هي الخاصة بعلاقة الطبقة بالسلطة وأجهزتها،(13) حيث أنه وضّح في تحليله أنّ طليعة البروليتاريا استطاعت السيطرة على السلطة في روسيا، وتمكّنت من قمع الثورات المضادة بسبب استحواذها على السلطة وهلامية المجتمع المدني فيها على حدّ تعبيره.(14) وإذا لم تكن هناك حاجة في روسيا لحرب المواقع؛ فالحركات العمالية في المجتمعات الغربية في حاجة ماسة إليها؛ لأنها تتميّز بمجتمعات مدنية قوية، وحرب المواقع بطبيعتها هي حرب داخل المجتمع المدني،(15) حيث تكون هي المجال الأساسي لحركة الطليعي العمالي ومعاركه الثقافية، وهو الذي سيطلق عليها جرامشي “المثقف العضوي” كما سنوضح فيما بعد.
وتهدف هذه المعارك في تفتيت الهيمنة البرجوازية، وتكوين هيمنة مضادة، تعمل على ترسيخ مفاهيم الطبقة العاملة ونشر قيمها ورؤيتها للحياة. وبهذا تكون حرب الحركة متوجة بتأهيل داخل المجتمع المدني، بحيث إذا استطاعت الطبقة العاملة الحصول على السلطة؛ يكون لديها ما يُمكنها من ديمومة ممارسة السلطة؛ لأنها حازت على السلطة في المجتمعات الغربية دون خوض حروب المواقع؛ ستسقُط سريعًا بسبب عدم تقبّل المجتمع المدني القوي لها؛ لأنه مُهيمن عليه بثقافة البرجوازية.(16)
وحرب المواقع هذه تضمن عدم استيعاب القوى العمالية الثورية في النظام الرأسمالي عبر تحقيق بعض مطالبهم وحصولهم على بعض المكاسب داخل المنظومة، مما يجعل ثورتهم ثورة سلبية، لا تهدف لحلّ التناقض الطبقي حلًّا راديكاليًا، يضرب استغلال فائض القيمة في جوهره. وهي علاوة على ما سبق، تُجنب الحركة العمالية الوقوع في مشكلة الاستيلاء على السلطة وفشل التعامل مع الثورة المضادة؛ وذلك ما يحكم على الحركة العمالية بالموت منذ بدايتها.(17)
وهنا وجب التنبيه أنً جرامشي لم يكن إصلاحيًا مثلما صوّرته بعض الأدبيات الاشتراكية الديمقراطية، بل كان يهدف لإعادة تشكيل المجتمع من خلال إعادة تشكيل علاقات الإنتاج – البناء التحتي -، وكان يؤمن بالثورة أيضًا، لكنه سعر إلى تمكين كل تلك الخطوات من خلال التحليل الثقافي وأهمية الاستفادة من البناء الفوقي كتكتيك في ضوء الانتقال للمجتمع الشيوعي، وكذلك استراتيجية في حرب المواقع، تضمن استمرارية ممارسة الهيمنة وبالتالي استمرارية ممارسة السلطة.
وإذا كان التحليل الجرامشاني قد أعطى هذه الأهمية الكبرى للهيمنة الثقافية ودورها الثوري أو المحافظ في البناء الفوقي أو المجتمع المدني؛ فمن الذي يمكنه ترسيخ ثقافة طبقية معينة أو محاربتها وتقديم ثقافة بديلة تعبر عن طبقة أخرى؟
المثقّف العضوي والمثقّف التقليدي
يلعب المثقّف في فكر جرامشي الدور الأهم في ضمان نشر الهيمنة الثقافية لطبقة معينة على المجتمع. فقد كانت التفريقات تتم على المستوى النظري في الفكر الغربي بين المثقّف وغير المثقّف بالأساس، باعتبار أنّ المثقف هو من يعمل عملًا فكريّا مثل كونه أستاذًا أو معلّمًا أو أديبًا أو مفكّرًا أو رجلَ دين، واكتسب المفهوم صفته الحديثة من خلال خروج هذا الفرد صاحب المعرفة إلى الاشتباك بمعرفته في القضايا العامة، بينما غير المثقّف هو الذي ينخرط في الحياة من خلال العمل اليدوي.(18) بينما قدّم جرامشي فهمًا نقديًا ومغايرًا لمفهوم المثقّف، باعتبار أنه رأى أنّ كل إنسان لديه ثقافة ورؤية معينة للحياة تُشكل طريقة تعاطيه معها، فحتى أبسط الأفراد لديهم بعض المعارف التي تمكّنهم من أداء أعمالهم البسيطة.(19)
وباعتبار أنّ كل الأفراد لديهم ثقافة؛ فقد فرّق بين نوعين من المثقّفين؛ الأوّل هو المثقّف التقليدي الذي يعيش بجوار السلطة – ظاهريًا -، ولا يشتبك بمعارفه وثقافته مع القضايا العامة للمجتمع من خلال تعبيره عن هموم ومصالح طبقة اجتماعية معينة؛ فهو يعتقد أنه يُمارس الثقافة لأنها مهنته، ليس لكونها وسيلة حفاظ على وضع قائم أو تغييره. أما الثاني هو المثقّف العضوي وهو شخص يرتبط ويندمج بشكل أساسي داخل الطبقة الاجتماعية التي يستشعر أحقيتها في الوجود والاستمرار في السيرورة التاريخية، ويعمل على نشر قيمها ورؤيتها للحياة داخل البناء الفوقي للمجتمع.(20)
وبالتالي يعتبر المثقّف العضوي أداة الطبقة في نشر هيمنتها داخل المجتمع، وباعتبار أنّ جرامشي مفكّر ماركسي بالأساس؛ فقد نظر لعلاقة المثقّف العضوي بالحزب الثوري على أنّ الحزب الثوري هو مصنع إنتاج المثقّفين العضويين الذي يخلق أفرادًا على ارتباط عضوي بهموم ومشاكل الطبقة العاملة؛ وهذا ما يعكس رغبته في تأسيس الحزب الشيوعي الإيطالي بدلا من الحزب الاشتراكي في إطار تحليله لفشل الحركة الاشتراكية الإيطالية في فترة الحرب العالمية الأولى.
وبنجاح المثقّف العضوي البروليتاري في أداء مهامه الطبقية؛ تحدث ثورتان متوازيتان داخل المجتمع؛ الأولى ثقافية تسعى لضمان هيمنة القيم الخاصة بالمساواة التي تتبناها الطبقة العاملة داخل المجتمع المدني، أما الثانية هي سياسية تمكّن الطبقة العاملة من الوصول للسلطة وتكون لها قيادة بفضل الهيمنة وليس فقط السيطرة؛ وبالتالي إمكانية ديمومة هذه السلطة التي تمكن الطبقة العاملة من بناء المجتمع الذي يمثّل الحقيقة والخير وفقا لمنظومتها القيمية.(21)
ومن الجدير بالذكر أنّ أغلب الأدبيات العربية التي استعان بها الكاتب في خطّ خطوط هذه الورقة قد تعاملت مع مفهوم المثقّف عند جرامشي بالإسقاط مباشرة على الواقع العربي، ولو أنّ هذا له قدرة ضئيلة تفسيريًا، لكني أعتقد أنّ الواقع العربي القبلي الطائفي الجهوي في حاجة أوّلًا إلى مثقف عمومي، يحاول ترسيخ الآلية الديمقراطية لإدارة وحكم المجتمع ومن جانب آخر إرساء ثقافة المجتمع المدني الذي يعلو على القبيلة والطائفة، فإذا كان المثقّف العضوي الغربي قد وجد المجتمع المدني الذي يمكنه من تكوين الهيمنة داخله، فعلى المثقّف العربي العمومي أن يخلق هذا المجتمع المدني أوّلًا.(22)
كما أنً البُنى الاقتصادية الرعوية للمجتمعات العربية مختلفة عن نظيراتها الغربية، فالمجتمعات الغربية بحكم التطوّر الاقتصادي الخاص بها؛ أصبحت التفاعلات الاجتماعية الخاصة بها تفاعلات طبقية بالأساس تسمح للمثقّف العضوي أن يتّخذ موقفًا واضحًا في المجال العام لصالح الطبقة التي يُمثّلها، بينما الواقع العربي هو واقع مشوًه طبقيًا لأنّ الطبقات البرجوازية قد نشأت داخله في طور الاستعمار، وترعرت في طور أنظمة ما بعد الاستعمار العربية التي أنشأت بُنى سياسية استبدادية رعوية، جعلت البرجوازيات تتوهّم أنّ مصلحتها مع الدولة الضخمة التي تملك كل موارد المجتمع وليس ضدها. وبالتالي لا حاجة لها لبناء مجتمع مدني حقيقي يُدافع عن مصالحها ضد الدولة.
ووفقًا لما سبق يكون من الصعب وجود مثقّف عضوي عربي يدافع عن مصالح البرجوازية أو حتى البروليتاريا؛ لأنّ المجتمع المدني العربي لم ينشأ في استقلال عن الدولة في شكل دفاعي حقوقي بل نشأ تحت رعاية الدولة في شكل مؤسّسات تنموية رعائية خيرية؛ لذا، ففي اعتقادي يمكن الاستفادة من أطروحة جرامشي في الواقع العربي فيما يخصّ علاقة المثقّف بالسلطة من حيث دوره الوظيفي في تفكيك بنية الهيمنة التي تُقيمها الأنظمة العربية من خلال أجهزتها الايدولوجية، ومحاولة بناء وعي مُضاد على المستويات التحتية يُفتت العلاقات الاستبدادية وثقافتها، لكن إسقاط المفهوم كما هو بعلاقاته الطبقية لن يُفضِ إلى عمق تفسيري في الواقع العربي.
ختامًا
أعاد جرامشي الاعتبار للبناء الفوقي في التحليل الماركسي من خلال تركيزه على الهيمنة الثقافية، وبالتالي لم يعد البناء التحتي وعلاقات إنتاجه هي المحرك الوحيد للتغيير في المجتمع، وبالتركيز على الهيمنة، يمكن أن تكتسب الطبقة العاملة مراكز قيادية في حرب المواقع؛ فتكون معركتها في حرب الحركة، معركة مضمونة والاستيلاء على السلطة وديمومة ممارستها من قبل الطبقة العاملة عملية مقبولة في الوعي الجمعي للمجتمع.
وقد حمل جرامشي مهمة تفكيك الهيمنة البرجوازية وتكوين هيمنة بروليتارية بديلة على أكتاف من أطلق عليهم بالمثقفين العضويين الذين يندمجون مع هموم طبقاتهم، ويشتبكون مع السلطة والبنى الاجتماعية القائمة من أجل تمثيل مصالح تلك الطبقات. وكل ذلك إضافات أنطونيو جرامشي التي أسهم بها في الفكر الماركسي للانتقال التاريخي من الرأسمالية إلى الاشتراكية.
قائمة المراجع:
المقالات:
1 – أسعد بن صالح الشعلان، “الهيمنة: دراسة في تحولات المفهوم”، مجلة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، مجلد 19، عدد 4، 2018.
2 – أنطونيو جرامشي، “الثقافة، الفلسفة والوعي النقدي”، مجلة الملتقى، عدد 10، 2002.
3 – إريك هوبزباوم، “غرامشي والنظرية السياسية”، ترجمة: محمود هدهود، مجلة تبين للدراسات الفكرية والثقافية، مجلد 7، عدد 26، 2018.
4 – بوطويل حمامة ونشادي عبد القادر، “المجتمع المدني، المفهوم والمقاربات السوسيولجية المفسرة له”، مجلة البحوث والدراسات العلمية، مجلد 18، العدد الأوّل، 2024.
5 – روبرت كوكس، “غرامشي والهيمنة والعلاقات الدولية: مقالة في المنهج”، مجلة مدارات، عدد 37، 2021.
6 – كلكوس مان وكريستين بوسي، “غرامشي والدولة نحو قراءة نظرية – سياسية لدفاتر السجن”، ترجمة: عبد الجليل الأزيدي، مجلة الملتقى، العدد الأوّل، 1997.
7 – لوسيانو كروبي، “مفهوم الهيمنة عند جرامشي”، ترجمة: عبد الجليل الأزدي، مجلة الملتقى، العدد الأوّل، 1997.
8 – محمد حدودي، “الجذور التاريخية لمفهوم المجتمع المدني في الفكر الغربي”، مجلة رهانات، عدد 51، 2020.
الكتب:
9 – أنطونيو جرامشي، “كراسات السجن”، ترجمة: عادل غنيم، (القاهرة، دار المستقبل العربي، 1994).
10 – أنطونيو جرامشي، “شجرة القنفذ والرسائل الجديدة”، ترجمة: أمارجي، (دمشق، دار التكوين، الطبعة الأولى 2016).
11 – كارل ماركس، “مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي”، ترجمة: راشد البراوي، ( القاهرة، دار النهضة العربية، الطبعة الأولى 1969).
12- محمد يحيى حسني، “مفهوم المجتمع المدني لدى أنطونيو جرامشي من خلال كراسات السجن من التثوير إلى الحياد”، (برلين، المركز العربي الديمقراطي، الطبعة الأولى 2017).
13 – نزيه الأيوبي، “تضخيم الدولة العربية السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط”، ترجمة: أمجد حسين، (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى 2010).
المحاضرات:
15 – عزمي بشارة، “المثقف والثورة”، (محاضرة، منتدى العلاقات العربية والدولية، 16 أبريل 2016.
16 – المرجع نفسه 189
17 – إريك هوبزباوم، “غرامشي والنظرية السياسية”، مجلة تبين للدراسات الفكرية والثقافية، ترجمة: محمود هدهود، مجلد 7، عدد 26، 2018، ص 122 – 123.
18 – عزمي بشارة، “المثقف والثورة”، ( محاضرة، منتدى العلاقات العربية والدولية، 16 أبريل 2013 )
19 – أنطونيو جرامشي، “الثقافة، الفلسفة والوعي النقدي”، مجلة الملتقى، عدد 10، 2002، ص 28.
20 – أنطونيو جرامشي، ” كراسات السجن”، ترجمة: عادل غنيم (القاهرة، دار المستقبل العربي، 1994)، ص22 – 23، 24 – 26.
21 – بوطويل حمامة ونشادي عبد القادر، ” المجتمع المدني، المفهوم والمقاربات السوسيولجية المفسرة له “، مجلة البحوث والدراسات العلمية، مجلد 18، العدد الأوّل، 2024، ص 11 – 12.
22 – عزمي بشارة، المثقّف والثورة”، مرجع سابق.
إعلان