أنطون تشيخوف الكاتب: بين الطبيب والإنسان
أنطون بافلوفيتش تشيخوف طبيبٌ، كاتبٌ مسرحي وقصصي، عُرِفَ كرائد لأدب القصة القصيرة، وتُعدُّ كتاباته بمثابة ابتكارات أثَّرت في تطوير القصة القصيرة الحديثة، وإنكار بنية القصة التقليدية وتتمثَّل أصالة أدب تشيخوف بالاستخدام المبتكر لتقنية تيّار من شعور الإنسان، والتي اعتمدها فيما بعد الأديب الأمريكي جيمس جويس وغيره من الأدباء.
وكان تشيخوف، مُصِّرًا على أنَّ دور الفنان هو طرح الأسئلة وليس الردَّ عليها كما يتضِّح في رسالته لناشره سوﭬورين حين قال:
“أنت مُحِقٌّ في مطالبة الفنان باتخاذ موقف ذكي تجاه عملِه، لكنك تخلط بين شيئين: حلِّ المشكلة وتوضيح المشكلة بشكل صحيح. إنها الثانية فقط التي يجب على الفنان القيام بها.”
رسالة إلى سوﭬورين، 27 أكتوبر 1888.
مقتبس من رسائل أنطون تشيخوف.
كيف نقرأ إذن أدب أنطون تشيخوف؟ كيف نصنِّف أدبه وكيف نتعرَّف على تشيخوف من خلال ما نقرأ له؟
ذاك الأديب والطبيب الذي تتملَّكه روح الشعر في مسرحياته؛ المهموم بالإنسان وإنسانيته، فَبين الحسِّ الكوميدي، والطابع الساخر، والإحساس الموجع انسابت أعماله. فهناك ملمحٌ ما كنت أستشعره بقصص تشيخوف لم أجده في غيرها من القصص ولا حتى للكتّاب الروس أنفسهم الذين عاصروا تشيخوف وعاشوا متغيرات الحياة التي صادفها هو وقت الثورة البلشفية وتغيّر شكل الحياة والمجتمع في روسيا القيصرية.
هل هناك من يشبه تشيخوف؟ لا أعتقد! ربَّما هي نظرتي الخاصة للرجل، وربّما هي حقيقته بالفعل، لأنَّني أبحث عن الإنسان فيما أكتب، أو ربما أبحث عن الإنسانية كما أفهمها في كلِّ ما حولي، أبحث عن قيمة الأنسنة نفسِها حتى لو كانت نابعةً من علاقات الكائنات الأخرى بعضها البعض، فأحيانًا تبدو الكائنات الأخرى أكثر إنسانية من البشر أنفسهم.
ومن منطلق نظرتي هذه طالما وجدت في أدب أنطون تشيخوف، وفي شخصه تلك المعاني، التي تتسرّب إلينا من بين سطوره ومن خلال حيوات شخصياته التي يمنحها الكثير من القيم والدلالات.
هناك عملان لتشيخوف كنت قد تناولتهما بالتحليل من خلال قراءة تضمّنت محاولةً لتفسير أفكار أنطون تشيخوف الواضحة والخفيّة؛ كنت أحاول الاقتراب والوصول إلى ذاك الإنسان الذي لامس آلامَ الناس وأوجاعَهم كطبيب، وشخّص بقلمه عالمَهم ونفوسَهم وطبائعهم ككاتب، لتبدو أعمال تشيخوف مجتمعةً رحلةَ غوصٍ عميقة في النفس البشرية.
العمل الأوَّل هو قصته القصيرة (موت موظَّف) والتي قرأتها لأوَّل مرَّة وكنت لا زلتُ بعد فتاةً في الثالثة عشر من عمرها، وكانت أوَّلَ قصص تشيخوف التي أقرؤها، أما العمل الثاني فهو روايته القصيرة نسبيًّا (النوﭬيلا) العنبر رقم 6، وسوف أعرض عليكم كلا القراءتين في السطور التالية.
وفاة موظف
إنَّ الدائرة الدلالية لعنوان قصة وفاة موظف شاسعةٌ جدًّا على المستويات الاجتماعية والسياسية والإنسانية، هذا الكون المرهف الذي أجاد أنطون تشيخوف تصويرَ تفاصيله. ويعتمد أدب تشيخوف على اللقطة، واللقطة هنا تبدو ملامحها منذ الفقرة الأولى في القصة.
في إحدى الأمسيات اللطيفة، هناك موظَّف حكومي ليس بالأقلِّ لطفًا يُدعى “إيـﭬـان دميتريتش تشيرياكوف”، كان يجلس في الصف الثاني من المقاعد في المسرح وهو يحملق خلال زجاج الأوبرا في كلوشيز دي كورنفي. كان يحملق ويشعر أنّه في قمّة النعيم، ولكن فجأة، وغالبًا ما نقابل في الروايات كلمة ” لكن فجأة”، والمؤلِّفون على حقٍّ: فالحياة مليئة بالمفاجآت! فجأة استجمع وجهُه قواه، واختفت عيناه، وتوقَّفت أنفاسُه… تناول نظاراتِ الأوبرا عن عينيه، انحنى و“عطس”!
عطس بشكلٍ يمكنك تخيُّله، وهو أمرٌ لا يستحقُّ التوبيخ أن يعطس في أيِّ مكان. فالفلاحون يعطسون، ومديرو الشرطة أيضًا يعطسون، وحتى أعضاء مجلس الملكة الخاصّون يعطسون أحيانًا، كلُّ الرجال يعطسون.
ولم يشعر تشيرياكوف بأدنى ارتباك. مسح وجهَه بمنديله، وكرجلٍ مهذّبٍ نظر حوله ليرى إنْ كان قد تسبّبَ في إزعاج أيّ إنسان بعطسه. لكنه بعد ذلك غمره ارتباك، فقد رأى عجوزًا لطيفًا يجلس في الصفِّ الأوَّل من المقاعد، يمسح بقفّازه رأسَه الأصلعَ بعناية وهو يتمتم في نفسه. تعرَّف تشيرياكوف على ذلك الرجلِ اللطيفِ، واسمه بريزالوف، وهو جنرالٌ مدنيّ يخدم في إدارة المواصلات.
“لقد أصبتُه برذاذ العُطاس” قال تشيرياكوف لنفسه. “إنَّه ليس رئيس إدارتي، لكنّ الأمر لا يزال محرجًا، عليّ أن أعتذر له”.
لا يتعلَّق الأمر فقط بكون إيـﭭان تشيرياكوف موظف فهو حسَّاسٌ/مصابٌ بالزكام/لا يقلُّ روعةً عن المساء/ يذهب للمسرح/ يشاهد الأوبرا. العطس حالة طبيعية منتظرَةٌ من الجميع! ومع هذا حساسيّة إيفان بسبب عطسته /قد تكون عرضًا طبيعيًا؛ ربَّما لأن كتب التحليل النفساني تربط بقوّة ما بين الزكام وأعراضه وبين الحساسية/ حقيقةٌ علميّةٌ ما كانت غائبةً عن ذهن تشيخوف القاصِّ الطبيب، حينما كان بصدد تـَمثُّلِ شخصيةِ إيـﭭان ورغم ذلك، فالواضح أنَّ تشيخوف في أثناء الصياغة غيَّب في أعماقه شخصَ الطبيب، وأفسح المجال واسعًا، لمهارة القاصِّ المبدع ووظّف تلك المهارة بتسخير معجمه اللغويٍّ جامعًا بين الرجاء وطلب العفو، وتبجيلِ الطرف الآخر الذي وقع عليه فعلُ العطاس، وستِّ اعتذارات خلال ليلة ويومين، وبين الاعتذار الأوَّل وحتى السادس، استخدم تشيخوف جمالياتٍ لغويةً محدَّدةً للدلالة على حالة إيفان، اتضَّحت هذه الجماليات من خلال الاعتذارات.
الاعتذار الأول:
– “عفوًا يا صاحب السعادة، لقد بلَّلتكم… لم أقصد”.
* الشرطة في بداية الكلام، ثم إيرادُ جملة الحوار بين علامتي التنصيص.
* تَقَطُّعُ جملِ إيـﭭان وعدمُ قدرته على الإتيان بالكلام المتماسك يَنُمَّان عن حالة نفسية غير عادية.
*النزوعُ الشديد نحو نكرانِ الذات: إنسانية/حساسية مفرطة/وسواس قهري.. هذا هو إيـﭭان.
المزيد من سرد التفاصيل، ذلك أنَّ إيـﭭان لم يعد وحده على غير ما يرام، بل نحن أيضًا قد شمِلَنا التوترُ جميعًا.
الاعتذار الثاني:
– “أستحلفكم بالله العفو. إنني.. لم أكن أريد!”.
* مواصلة للاعتذار الأول.
لكن سياقَ السرد وطريقةَ كتابته يجعلان منه اعتذارًا مستقلًّا /استمرارُ نهجِ نكرانِ الذات من لدن إيـﭭان، وتذلُّـلِه إلى العجوز/استمرار الإشارةِ إلى “القصد” السلوكي المرتبط بفعل العطس المشارِ إليه في الاعتذار الأول/ استمرار الإيحاءِ بعدم تماسك كلام الموظف وارتباكِه يبدو إيفان كما لو كان إنسانًا ارتكب ذنْبًا فوجب عليه الاعتذارُ وطلبُ المسامحة. هي إذن عقدة الذنب التي تلازم صاحب الحساسية المفرطة.
الاعتذار الثالث:
– “لقد بلَّلتكم يا صاحب السعادة …اعذروني… إنِّي لم أكن أقصد”.
* استمرار ثنائيةِ التبجيل ونكرانِ الذات وإحساسِها بالذنب.
إنَّ ورود عبارة “يا صاحب السعادة” كان على سبيل التَّكرار؛ التحليل النفساني يعتبر التَّكرار من سمات ذوي الحساسية المفرطة، وهو يندرج لديهم في سياق الوسواس القهري، استمرارُ الإلحاح على القصد للمرة الثالثة/صاحب الحساسية المفرطة يولي القصد أهمية قصوى، وكأنَّ جانبًا من البعد الدرامي للقصة يتجسَّد في عمق (القصد) أو (اللاقصد).
إنَّ إيـﭭان لم “يقصد” بالطبع أذيةَ العجوز ولا نوى ذلك إلَّا أنَّ مأساتَه تكمن أساساً في إقناع الطرف الآخر بعدم القصد السيئ. وتتعمق المأساةُ أكثر حينما يرفض ذلك الطرفُ سماع سلسلة الاعتذارات. ولا يترك الفرصة لإيـﭭان لكي يمارس فعل الإقناع بهدوء ورويّة. احتدَّ الصراعُ في أعماق الموظف المسكين/ أصابته التوترات المتشنجة المتدرجة.
* لماذا يُـمعن إيـﭭان في استحضار القصد؟!
لأنَّه يُشكِّل أزمة نفسية/مصيرية خطيرة، هو رجل بسيط لا ينوي أكثر مما يفعل/ لا نيّة مبيّتة/ لا قصد خفيّ بل قصد وحيد يعمل جاهدًا من أجل أن يتعامل معه الآخرون من منظور ذلك القصد الوحيد وليس من منظور قصدٍ آخرَ متوهَّمٍ. تواجهه صعوبة/ استحالة ضرورةُ إقناع الآخرين بصدق ذلك “القصد الواحد”، الكارثة في ردِّ فعل الجنرال (اللامبالاة) وربما كانت اللامبالاة أشدَّ وطأةً من التأويل الخاطئ للقصد.
الاعتذارات الثلاث الأولى قصيرة ومقتضبة تنمُّ عن حالة إيفان او إحساسه بالذنب، وتتصاعد وتيرتها من الرابع حتى السادس حيث تتسّع الجمل ويزداد الشرح والتفسير لينتقل التوتُّر للقارئ، ويتصاعد الموقف/ وصولًا للحظة الانهيار التام.
الاعتذار الرابع:
– “بالأمس في أرْكاديا، لو تَذكُرون يا صاحب السعادة… عـطست… و… و.. بلَّلتكم عن غير قصد. أعتذر..”.
الاعتذارات الثلاثة السابقة كانت مترابطةً زمنياً. الآن المسافة الزمنية بدأت تتسع مع الاعتذار الرابع…الاعتذاراتُ الثلاثةُ الأولى في “الليلة الماضية” والاعتذاراتِ الثانية “في اليوم التالي”.
جماليةُ توزيع المعلومات والحقائق داخل القصة، فبدايةُ سلسلةِ الاعتذارات الجديدة عرّفت تحديداً المكان الذي وقع فيه حدثُ العطَس، وقد ذُكِر قبل الاعتذار الأول قدْرٌ من المعلومات من قبيل “أجواء المسرح”، و”أوبرا أجراس كورن فيل”.
يؤجِّل تشيخوف القدْرَ الآخرِ من تلك المعلومات على سبيل تحقيق بلاغة التوازن، أو بلاغة المقابلة، حيث ذكر إيـﭭان في اعتذاره الرابع اسم المسرح “أركاديا” لأنَّ كاتب القصة القصيرة غالبًا ما يعمد إلى بثِّ المعلومات في مواضعَ متباينة تجنبًا لتكديسها بمكان واحد فيضيع التوازن والانسجام. بينما تأخير ذكر اسم ” أركاديا” على لسان إيـﭭان لتأكيد الحميمية التي عاشها الرجل في المكان وربما الطرف الآخر بدوره لأنَّ حميمية الأماكنِ مقدسةٌ لدى أصحاب الحساسية المفرطة. أما استمرار تقطَّع الكلام فـللإيحاء بالانهيار.
الاعتذار الخامس:
– “يا صاحب السعادة! إذا كنت أتجاسر على إزعاج سعادتكم فإنما من واقع الإحساس بالندم!!… لم أكن أقصد كما تعلمون سعادتكم!”.
* إيـﭭان يحاول التماسك/التظاهر بالجرأة، شعور بالندم/ أعلن عنه تمهيدًا للاعتذار الأخير.
الاعتذار السادس:
– “جئتُ بالأمس فأزعجتكم يا صاحب السعادة، لا لكي أسخر منكم كما تفضلتم سعادتكم فقلتم. بل كنت أعتذر لأني عطست فبللتكم… ولكنه لم يدر بخاطري أبدًا أن أسخر وهل أجسر على السخرية؟ فلو رحنا نسخر فلن يكون هناك احترام للشخصيات إذن”.
* أطول الاعتذارات جميعًا/ لأنه آخرُها.. إيـﭭان انتبه إلى فشل الإيجاز فعمد إلى الإطالة، حدوث التحوُّل المفاجئ/ الانهيار التام حاصلٌ لا محالة، فلم يعد يبالي بما يمكن أن يخسره أكثر من حياته ذاتها.
* اللافت أنَّ العنصرَ الجديد في الاعتذار هو “السخرية”؛ مَسحة تشيخوف الساخرة في ثنايا مآسي قصصه. والسخرية بالنسبة إلى إيـﭭان هي الباطل ظلمًا وافتراءًا بعد كثرة اعتذاراته اتهمه الجنرال بأنه يستهزئ به. فأيُّ تأثير سلبي جارح لنفس إيفان ذي الحساسية الرقيقة بل و ((قاتل)) ، هو ظلم بيّن لا يعكس مطلقًا حقيقةَ شخصيته الطيبةِ المتسامحة فيحاول جاهدًا التخلُّص منه/ يدافع عن نفسه حدَّ المبالغة. وقبل هذا الاعتذار الطويل كان قد فكَّر في كتابة خطاب إلى الجنرال ثم تراجَع نظرًا إلى يقينه بعدم جدوى الكتابة في مثل هذا الموقف الظالم. لا بدَّ إذن من المواجهة الشخصية. إنَّ الكلمة المنطوقة تقتضي نظر العين في العين، وإسماعَ الطرفِ الآخر الكلماتِ، وربما الاستعانةَ بحركات اليدين، إنها لغة الجسد التي قد تنقل حالته للجنرال، ولكنه لم يفهم بل استشاط غضبًا وهاجم إيـﭭان بشدّة.
وبتحليل شخصية إيـﭭان نجد:
* النـزوعَ الشديد نحو نكرانِ الذات إنسانية/حساسيةً مفرطة/وسواسًا قهريًّا/ رهابًا. وكأنَّها النتيجة الطبيعية والحتميّة لطغيان السلطة وهيمنتها على واقع المجتمع بما يصنع أفرادًا يشبهونه. فزوجته نفسها خلال أحداث القصة أشارت عليه بضرورة الاعتذار، إنَّ أفراد المجتمع أغلبهم على شاكلته.
* استمرارَ نهجِ نكرانِ الذات منه/ استمرار ثنائيةِ التبجيل ونكرانِ الذات وإحساسها بالذنب /استمرار الإشارةِ إلى “القصد” السلوكي المرتبط بفعل العطس/ استمرار الإلحاح على القصد الذي يوليه أهمية مفرطة وكأنَّ جانبًا من البعد الدرامي للقصة يتجسَّد في عمق (القصد) أو (اللاقصد) … فهو لم يكن يقصد!
* مأساة إيـﭭان تكمن أساسًا في إقناع الطرف الآخر بعدم القصد السيء، وتتعمَّق المأساةُ أكثر حينما يرفض ذلك الطرفُ سماع سلسلة الاعتذارات ولا يترك الفرصة له كي يقنعه بهدوء ورويّة، ليحتدّ الصراعُ في أعماق الموظف المسكين، وتصيبه التوترات المتشنجة المتدرجة.
* في النهاية اعتذاره الأخير طويل.. تعمَّد فيه تشيخوف الإشارة على لسانه أنه لم يقصد السخرية بعطسته.. وأن الأمر لم يكن بـ (قصد). تراجعه عن إرسال رسالة اعتذار لأن الكلمة المنطوقة تقتضي نظر العين في العين، وإسماعَ الطرفِ الآخرِ الكلماتِ، وربما الاستعانةَ بحركات اليدين.. لغة الجسد التي قد تنقل حالته للجنرال غير أنَّه لم يفهم بل استشاط غضبًا وهاجمه بشدة.
نقطة فاصلة/ النهاية
“لم يتحمَّل إيـﭭان.. وعاد إلى بيته.. بذاك التمزق في بطنه؛ طعنة قاتلة… ثم مات”.
هل مات بسبب عدم قبول الجنرال لاعتذاراته المتتالية، بسبب عطسته التي قد تصدر من أيّ شخص؟ أم هل كان ميتًا من قبل في عالم مملوء بالظلم والفساد السياسي والاجتماعي؟
بين الموت الرمزي والموت الفعلي عطسة.. مجرد عطسة! عطسة وسلسلة الاعتذارات التي تلتها أودتْ بحياة الموظف المسكين. فهل كان من الممكن لإيفان ألا يبالي بالموقف برمَّته مثلما هو حال الأسوياء من البشر فلا يحفل بمجرد عطسة، أو موقف الجنرال منها؟! فمن هو السويّ في حقيقة الأمر؛ إيـﭭان أم البشرُ اللامبالون؟
ربما هذا ما قصده أنطون تشيخوف! وربما قصد أن يخبرنا عن شخصيات تحيا في المجتمع وقد ماتت أرواحها خنوعًا ومهانةً، فالمجتمع يسلبها حريَّتها وكرامتها، يحوِّلهم إلى أشخاص بلا احترام لذواتهم وآدميتهم وإنسانيتهم التي تشوَّهت. ويواصل تشيخوف طرح الأسئلة في رائعته التالية.
العنبر رقم 6
تلك الرواية التي قال “لينين” عندما قرأها (لم أستطع البقاء في حجرتي بعد أن قرأت هذه القصة فنهضت وخرجت إلى الطريق وأنا أشعر بأنني حبيس تمامًا في العنبر رقم 6) وهذا ما خبرته بمعايشتي لها.
نجد في عنبر رقم 6 لغز الكائن البشري، المنظورات غير العادية سواء من قبل الفرد /المؤسَّسة/المجتمع، تلك التي تشكِّل بانوراما الوجود الإنساني وأيضًا لغز الحياة ذاتها، والتأرجح الأبديّ بين الحقيقة والوهم، والحبِّ والكراهية، الرحلة الدائرية بين الشَّك المتزايد والإيمان المطلق، والحاجة المتجدِّدة للآخر في جوع لا يعرف الشبع، والوحدة والعزلة العميقة إلى ما لانهاية، تلك المتناقضات أو قُل المتنافرات التي تشكِّل معًا بنية الوجود؛ وخداع الظاهر بالباطن وخداع الباطن بالظاهر. آفة المجتمعات التي تغالي في الشكل والنظام الذي لا يتجاوز القشرة، وينداح تحتها الفوضى والاضطراب وتضارب القيم قبل الرغبات، والغايات قبل الذرائع.
يقوم العمل الفني دائبًا في إيجاد حلٍّ للغز الحياة المحيِّر، يأخذك بعيدًا ويعود بك عبر كلمات تعالج الوجود، ونقاشات وتصرُّفات متعدّدة لمجانين خمسة في العنبر رقم ستة ليبدأ المؤلف في تصويرهم تباعًا، ويركّز الضوء على إيـﭭان ديمتريتش، رجل في الثالثة والثلاثين، نبيل الأصل، مُحضَر (كاتب) محكمة سابق، يعاني من جنون الاضطهاد، فهو إمّا راقد في سريره متكوِّرًا كالكعكة، وإمّا يروح جيئة وذهابًا من ركن إلى ركن، وكأنَّما يسير للتريّض، ولا يجلس إلَّا نادرًا، منفعلٌ ومضطرب ومتوتِّر يؤرِّقه انتظارٌ غامض وغير محدَّدٍ، ويكفي أن تحدث ضجة حتى يرفع رأسه صارخًا.
أما الطبيب آندريه يفيميتش والذي لم يكن راغبًا في دراسة الطِّب، ولكنَّه أصبح طبيبًا بناءً على رغبة والده، وقد عانى من سخطٍ على الناس بسبب غبائهم وأصبح لا يفعل شيئًا سوى الذهاب إلى العمل أو القراءة أو شرب الخمر غير أنَّه وجد وبالصدفة البحتة أحد الأذكياء الذين حلم بالتكلُّم معهم. والغريب أنَّه وجده في عنبر رقم 6 في مستشفى المجانين فصارا صديقين وكانا يجلسان سويًّا لساعات طويلة.
هل يواجه كلُّ حالمٍ راغبٍ بالتغيير شبحَ الاضطهاد؟ هل محكومٌ على كلِّ صاحب رؤى تغاير ما درج المجتمع عليه وتآلف معه أن يقبل به حتى لو كان حاملًا بين طيّاته الفساد والسلبية والقبح؟ هل محكوم على كلِّ مخالف ومغاير بالبقاء خلف الأسوار؟ سواء هي أسوار مصّحة أم سجن؟!
بيد أنَّ هناك دومًا من يحميه الفساد، وهناك دومًا من يخلع على هذا الفساد شرعية النظام ويحمل الأفراد على الرضوخ لأعرافه وتقاليده والويل كلُّ الويل لمن لا تتسِّق سيرته وصيرورته مع توقعات النظامِ /المجتمعِ أو ينحرف عنها! فالإدانة والإقصاء أقلُّ عقوبة ممكن أن يواجهها.
من خلال شخصيتيّ النوفيلا المحوريتين؛ يقف الطبيب آندريه يفيميتش والمريض إيـﭭان دميتريتش، بين طرفي نقيض.. لا مبالٍ/بارد/غير مكترث، ومهتم/منفعل/ يموج بالحياة.
كيف وصف تشيخوف كليهما؟
الطبيب إنسان رقيق هادئ الطّبع لطيف المحضر ودود اللفتات مثقَّف يمسُّه قلق رقيق لكنه دومًا قشيب، مبعثه غيبة إيمانه بمطلقٍ ومركزٍ يمكث وراءَ الظواهر والأحداث الزمنية في هذا الوجود. وهو ما أسقطه تشيخوف من نفسه على الطبيب لتكون رواقيته هي أنسب ما يلائمه من نِحلة فلسفية باركت عليه خصاله ويعوّض بها افتقاده لمطلق ومركز يحمل معنى لوجوده.
أمّا المريض حالمٌ يوتوبياويٌ مهذَّب وخدوم، يؤمن بالخالق والخلود ومحبٌّ للحياة تشي طبقة صوته العالية “تينور” وحديثه المفعم بحرارة دائمًا عن هذا الحب، أما ملامحه الدقيقة ووجهه الحزين ينمَّان عن روحه المعذبَّة، صريح وواضح لا يعترف إلَّا بالأبيض والأسود، البشر إمّا شرفاء أو أوغاد، ومع هذا تمثَّلت المفارقة التي أصابته بالمرض أنَّ الأوغاد يتمتعون والشرفاء يتألمون، رغم أنَّه يرى في الألم دلالةً على الحياة والاستجابة لانفعالاتها، إلَّا أنَّه لم يتحمَّل ما أصابه عندما خاض معترك الحياة فربَّما كان الألمُ أقوى من حبِّه لها.
وكلاهما تعرَّض لنفس الحظر المجتمعي وفق معايير مغلوطةٍ وقيم فاسدة. كلاهما خلف الأسوار بتهمة الجنون إيفان ذاك الحالم اليوتوبياوي الحالم بالتغيير، وآندريه ذاك اللامبالي الذي يرتدي الرواقيّة قناعًا يبرِّر به لنفسه قبوله بفساد المجتمع.
مكمن السخرية بالعنبر رقم 6 أنَّ المجتمع قابل هذا وذاك بنفس ردَّة الفعل/ نفس التصنيف وأنزل بهما نفس العقاب؛ إيفان لم يتحمَّل معترك الحياة فأصابه المرض، أما آندريه خرج من دائرة التسليم المطلق فمسَّته الحياة بخشونة، وقسوة. فعندما رآه الأطباء يتحدث مع إيفان دميتريتش المجنون العاقل ظنوا أنَّه مجنون وانقلب حاله ليسكن مع هؤلاء المجانين ثم يموت كأنَّه لم يكن موجودًا.
مَن المريض؟ إيـﭭان أم آندريه! أم مجتمع بأكمله؟! من يقبع خلف الأسوار أم من هو خارجها؟!
أكثر من علامة استفهام وتساؤلات عدَّة ففي ظلِّ غيبة القيم والخلل الذي انتاب المجتمع، ما هي القيم المعيارية التي يُصنَّف بها الأشخاص؟! هذا سويٌّ وذاك غير سويّ. ما هو الفارق بين الأسوياء وغير الأسوياء؟!
من وجهة نظر المجتمع من هو السويّ؟! ومن هو الشّاذ؟! متى نستطيع وصف إنسان بأنَّه غير سويّ؟! متى نعتبره خطرًا على المجتمع ونحدِّد حريَّته بوضعه تحت الاحتراز البدني (مصّحة/ سجن)؟! في ظلّ التأزُّم الفكري والضياع والمعاناة، والفوضى والبلبلة التي تسود المجتمع وتقود المثقفَ إلى الدمار فيصاب بالجنون!
هل كان إيـﭭان رمزًا لشريحة المثقَّفين التي تعاني من جنون الاضطهاد؟ وفي ظلِّ ما آل إليه المجتمع هل يستمر اللامبالي على عدم اكتراثه بما يحدث من حوله مادام لا يمسّه بشيء! فما دامت المنظومة مختلّة فما ضيري أنا! فلأبقى داخل الإطار، فلأكن واحدًا من المجموع فلدي من المبررات ما يكفي لقبول كلِّ شيء بل وتقنينه أيضًا.
وأخيرًا ما هو الألم؟ هل نستطيع التغاضي عن الألم واحتقاره واعتباره بلا معنى؟ هل لو كففتَ عن تصوُّر الألم لن تشعر به ولن يكون ذا قيمة؟ وهل يعني التكيّفُ مع الواقع قبولَ السيء والجيّد! التسليمَ بالألم! وهل يكون هذا دليلًا على الصّحة النفسية؟! أم أنَّ الإنسان يرتقي ويرقى من خلال مشاعره وانفعالاته؟
إنَّ ما يغلب على الأدب الروسي أن يُثقَل دومًا بالمآسي الإنسانية، والتساؤلات الفلسفية، وهنا أجاد الإنسان الطبيب القاص تشيخوف وصفَ ما يشغله وما يفكِّر فيه كطبيب وكإنسان، من خلال ما ورد بالرواية الحوارات بين إيفان وآندريه، بفلسفةٍ عميقة يناقش تشيخوف الأسئلة السابقة دون أن يطرحها مباشرة بل يترك لنا حريّة القراءة والتفكير والاستنتاج و التساؤل مثله ربّما، أو الحيرة دون الوصول إلى إجابات منطقية.
ربما كان آندريه بشكلٍ ما انعكاسًا لتشيخوف الذي يكره الألم، حيث يُدِخله في نقاشات حادَّة بمشاهد الرواية مع ذاك الحالم المجنون المندفع بشدّة سجين العنبر رقم 6، الذي أزكى بحرارته واندفاعه التساؤلات في أعماق الطبيب، فبينما يقول الطبيب الذي يكره الألم، ويكره أنه كطبيب لا يستطيع بالفعل تخفيف آلام البشر من حوله، ربما لأنه لا يحبُّ الطِّب، وربما لأنه فشل في مساعدتهم من خلال منظومة مجتمعية فاسدة بالفعل، مما حدا به أن يبرِّر وجودَ الألم، فالألم بالنسبة له ليس إلَّا تصوّرًا حيًّا عن الألم كما يقول ماركوس أوريليوس.
حيث يُعبّر الطبيب عن الألم فيصفه كالتالي:
– “ليس الألم سوى تصوّر حيّ عن الألم، فلتبذل مجهوداً إرادياً لكي تغيّر هذا التصوُّر، ولتطرحه عنك، ولتكفّ عن الشكوى، وسيختفي الألم. ليس هناك أيَّ فرق بين غرفة المكتب الدافئة والمريحة وهذا العنبر. إنَّ سكينة الانسان ورضاه ليست خارجه، بل في داخله”.
في حين أنَّ إيـﭭان الذي عاقر الألم وعرفه منذ نعومة أظافره كان يرى العكس تمامًا، فهو يدافع عن الألم قائلاً:
– “بل أخبرني، لماذا تعتبر نفسك خبيرًا في مسألة فهم الحياة واحتقار الآلام وما إلى ذلك؟ هل تألّمت في حياتك؟ هل تفهم ما هي الآلام؟”.
“إن احتقار الآلام هو احتقار للحياة بأسرها، بالأحاسيس الإنسانية التي طالما بعثت الإنسانية في الإنسان، الشعور بالجوع والبرد والأحزان والخوف، أليست كلها من صنعت من الفلاسفة والفنانين والعباقرة رجالًا يُشار لهم بالبنان، كلُّ تلك الفنون والأعمال الأدبية ليست إلا صناعة الألم والشعور الذي يكمن في الإنسان”.
وحينما يتحدَّثان عن العدالة المندثرة تحت أكوام من الأباطيل والزيف يكون حوارهما كالتالي:
– ” أليس من المضحك أن تفكّر في العدالةِ والمجتمعُ ينظر إلى أيّ طغيان وكأنّه ضرورةٌ حكيمة معقولة، بينما يثير أيّ عمل من أعمال الرحمة، كالحكم بالبراءة تفجرًا هائلًا لمشاعر السخط والحنق.”
– “يشعر الأشخاص الذين جمعتهم المأساة بنوع من الارتياح، عندما يجتمعون معًا، كذلك في الحياة، لا يحسّ الأشخاص الميالون إلى التحليل والتعميم، بوجود الفخ، عندما يجتمعون معًا ويقضون الوقت في تبادل الأفكار الحرّة الأبيّة، وبهذا المعنى يُعتبر العقل متعة لا بديل لها”.
وعندما يواصل الطبيب البقاء مع المريض، وينصحه صديقه الحلاق، بالسفر للخروج من تأثير البقاء في المستشفى، والحديث مع المجنون نزيل عنبر رقم 6، يغادر آندريه مثقلًا بهمومه وأفكاره وتساؤلاته التي أثارها في عقله إيـﭭان، سرعان ما يعود بعد سفره وتجواله في الأرض ليقول لإيـﭭان:
– “لا مخرج، لا مخرج.. إننا ضعفاءُ يا صديقي، لقد كنتُ هادئَ النفس سليمَ التفكير طالما لم تمسّني الحياة القاسية، فما أن مسّتني حتى انهارت روحي المعنوية.
أنا لا أرى أيّ مبرر للسعادة. نعم، لن تكون هناك سجون ودور مجاذيب، والحقُّ كما تفضلتم بالقول سوف ينتصر، لكنَّ جوهر الأمور لن يتغير، وستبقى قوانين الطبيعة كما هي. سيظلُّ الناس يمرضون ويهرمون ويموتون كما هو الآن. ومهما كانت روعة الفجر الذي سوف يضيء حياتك فسوف يضعونك في النهاية في تابوت ويلقون بك في الحفرة”.
فهل كانت تلك العبارة، وتلك النهاية بالموت هي خلاصة ما كان يثق به أنطون تشيخوف، ومع هذا لم يكفَّ لحظةً عن السخريةِ من العالم ومن المجتمع ومن قيمه الفاسدة، التي تقود إلى وفاة موظَّف، وموت طبيب واتهامه بالجنون في عالم لا يعترف بالحالمين.
كان تشيخوف يقول مُعرفًا نفسه: “إنَّ الطب هو زوجتي والأدب عشيقتي”. وأقول عنه: هذا هو أنطون تشيخوف الإنسان.