“أقوام السماء”: عن الذكاء والدِّين
تناقلت من وقتٍ قريب الشبكات الاجتماعية، كما وسائل الإعلام التقليدية وحتى الدوليَّة منها، صورًا التقطتها المحطة الفضائية الصينية عن الجانب المُظلِم على سطح القمر، المُثير فيها هو صور مُجسَّم مربع الشكل، ولكن مناخ الدعاية والدعاية المضادة بين القوى الكبرى في ظل التوترات غير المسبوقة والتي أفضت إليها الأزمة التي خلَّفها وباء “الكوفيد-19“، سرعان ما شكَّكت في صحة الصور، خصوصًا وأن غزو الفضاء أضحى ذا أهمية إستراتيجيَّة أكبر من أي وقت مضى، كمنطقة نفوذ تُسابق المُستجدَّات التكنولوجية الأعراف في المجال، غزو الفضاء الذي لا يزال في أذهان الكثيرين ضربًا من الخيال العلمي لا أكثر، الخيال العلمي الذي انتعش في المخيال العام من خلال الوسائط الثقافية، كالسينما والأدب.
في تسجيلٍ تلفزيوني بثَّته المؤسَّسة الوطنية الفرنسية للأرشيف، لحواراتٍ مع أطفال، خلال سبعينيات القرن الماضي، عن تصوراتهم عن شكل العالَم في الألفية الجديدة تحديدًا، أجمع كثيرٌ منهم أنهم سيكونون على موعدٍ مع سيارات طائرة وأشكال حياة مختلفة. نظرة استمدَّها جلهم من سينما الخيال العلمي، التي كانت الولايات المتحدة الأمريكية رائدة فيها، من خلال سلسلة “حرب النجوم” تحديدًا التي انطلقت منذ السبعينيات، وأدب الخيال العلمي الذي بدأ قبله بكثير. يجمع بعض الباحثين على كون الفرنسي “جول فيرن” (1828-1905)، مؤسِّسًا لهذا اللون الأدبي في أوروبا، في حين أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت السَبَّاقة للتنظير له وإطلاق مصطلح “الخيال العلمي” سنة 1851، في حين يذهب آخرون للتأكيد أن هذا المفهوم قد بدأ ممارسة من خلال استباق وتصوّر حلول علميَّة مع الحضارات الأولى من خلال أساطيرها ودياناتها.
ومهما تعدَّدت الآراء، يبقى “الخيال العلمي” نوعًا أدبيًا وفنيًا خاصًا، يتطلَّب جملة من الأدوات التي قد تغيب عن الأدب المُسمى “أبيضا”، على الرغم من أن التخيُّل هو المَلكَة الأساسية واجبة التوظيف في جميع الأنواع الفنيَّة، تعزف الكثير من الأقلَام المرموقة عن الكتابة في هذا النوع تحديدًا، ونجد قَلَمًا عالميًا كالجزائري “ياسمينة خضرا” (1955)، يُشَدِّد في أحد حواراته مع إحدى المجلات العربية، بأن النوع الوحيد الذي لن يختبر فيه قَلَمه، هو الخيال العلمي، دون أن يُفضي بمعلوماتٍ إضافية. هو الكاتب الأول في “شمال إفريقيا” والشرق الأوسط الذي يبيع أكبر عدد من الكتب، وتُترجَم أعماله إلى العشرات من اللُّغَات، إضافة لإبداعه في أكثر من نوعٍ أدبي، عكس “واسيني الأعرج” (1954)، الذي غامر بتجريب لون أدبي، لم يسبق أن أبدع فيه، حين أصدر رواية عَنوَنها بـ “حكاية العربي الأخير 2084″، مزج فيها الأدب بالسياسة في أجواءٍ ديستوبية خالصة، مُستلهمًا رواية “جورج أوريل” (1903-1950): “1984”.
على الرغم من أن الإنتاج الروائي في المنطقة العربية، أصبح ظاهرة لوحدها من خلال العدد الهائل للمؤلَّفات النثريَّة، فالمُلاحَظ هو عزوف الأقلام الشابة التي تبدو مُنفتحة على أنواع ثقافية لها تقاليدها في العالم الغربي، ربما لصغر سوق هذا النوع من الأدب في المنطقة العربية، والذي قد يُفضِّل مريدوه كتبًا مترجمة عِوَضًا عن الإقبال على رواية عربية لم تبلور بعد تقاليدها في المجال.
رواية “أقوام السماء” الصادرة بالفرنسية عن دار نشر “فرانز فانون” سنة 2019، للجزائري “أحمد قاسمية”، تدخل ضمن الاستثناءات الجميلة في أدب “الخيال العلمي”، هي التي وصلت المراحل النهائية من مسابقة جائزة “أورونج”، لأحسن رواية إفريقية.
تحكي رواية أقوام السماء قصة تجربة علمية يقودها مجموعة من الباحثين على متن محطة فضائية على كوكبٍ يُسمى “ألكيوم”، كوكب شبيه جدًا بكوكب الأرض، تُنفِّذ على سطحه شركة ما، مهمومة بكسب المزيد من المال، اختبارات علميَّة، يولد على إثرها بشرٌ مصابون بتطور جيني يجعلهم يكبرون بسرعةٍ، حتى أنهم قد يَصِلون إلى مرحلة الشيخوخة في بضع سنواتٍ فقط.
رواية أقوام السماء تعتمد على كتابة تصويريَّة، يبدو “قاسمية” الوحيد الذي يمتلك مفاتيحها، إذ يصف تفاصيل الأشخاص، الأماكن، والمركبات، حتى سرمد الكون الفسيح، لا يُمكن للقارئ سوى أن يعيش أحداث الرواية بتفاصيلها المثيرة، هي التي تنطلق بمشهد معركة يتقاتل فيها جمعان خارجان توًا من العصور الوسيطة، أو على الأقل ذلك ما سيُوحَى به للقارئ، الذي سيُثيره مشهد تتشبث به عيون مجموعة من الأشخاص بمَشاهِد هذه المعركة مستمتعين بمناظر القتل والموت، والرهان على أفضل فارس، قبل أن يتم استدعاؤهم من طرف مدير المكان، الذي سنكتشف بعده أنه مدير محطة فضائية، وأن المجموعة التي كانت مُتَسَمِّرة أمام الشاشة ذات الملامح المستقبلية تلك، ما هي إلا مجموعة من علماء الجينات، اللسانيَّات والإعلام الآلي. لتنطلق مغامرات الرواية التي تختلط فيها القصص الإنسانية، بالطرافة والكثير من الأعاجيب العلميَّة، فالمقيمون بالمحطة الفضائية يمتلكون شاشات تظهر بمجرد الكبس على زر، وتختفي بالطريقة ذاتها، يستمتعون بمناظر النجوم والكواكب من خلف نوافذ مركباتهم الفضائية، تخدمهم روبوتات كثيرة.
لكن خلف التصوير الدقيق، والحوارات الطريفة، يَنثُر الجزائري “قاسمية” أفكارًا تُثير التساؤل في ذهن القارئ، فالقومان المُتحارِبان توحدهما الديانة، يتعبَّدان في مكانٍ حَطَّت فيه ذات يوم مركبة من مركبات الباحثين الذين لم ينتبهوا لوجود أحدهم، المركبة العجيبة ولباسهم المختلف، قدرتهم على الاختفاء السريع، جعل أحدهم يعتقد بأنهم من الآلهة، ونقل المعلومة إلى باقي الساكنة، ليتحول المكان إلى معبدٍ، وأولئك الباحثون إلى آلهةٍ ومَبعَث الحياة على “ألكيوم”.
قصة حب ممنوعة بين رجلٍ وامرأة من قبيلتين متعاديتين من سكان “ألكيوم”، هي التي ستقلب سير الأحداث في رواية أقوام السماء، تُثير الأسئلة في الأذهان، تُعيد التفكُّر في الشر والخير، في الحب والدين، في الحياة، فكائنات “ألكيوم” السماويَّة قادرة على ارتكاب الفظائع في حالة غضب، بمثابة آلهة ظالمة، تُعَشَّش بها روح الانتقام. تَخْتَتِم هذه الرواية بنهاية سعيدة، لكنها لن تترك القارئ دون أن تُثير بنفسه لغطًا حول وجود حياة أخرى، وأشكال من الذكاء أكثر تطورًا، عن جدوى الدين أمام التفسيرات العلميَّة الواقعيَّة، وعن مقدرات البشر على اختلاف درجات ذكائهم وتقدمهم على ممارسة الشرور، وعن كوننا أقوامٍ، ربما أصبحت على درجة ذكاء أقل من أقوامٍ أخرى، أو طفرة جينية منهم، ما يجعلنا نتعبَّد إليها عِوَض التفكُّر منطقيًا في ماهيتها.