أفريقيا السوداء
حتى أواخر القرن التاسع عشر، كانت الدول الأوروبية تعتبر أنّ أفريقيا تتمثل في أراضٍ لا صاحب لها، فهي مناطق شاسعة لا تسكنها إلا قبائل متخلفة ومتناحرة بلا حضارة ولا حكام بمفاهيم الدول الأوروبية، وكانت الحملات الاستكشافة للأوروبيين قد توصّلت إلى أنّ أفريقيا تمثّل أرضًا غنية بالثروات الطبيعية، تتوفّر فيها المعادن والأخشاب غير المستغلة، فيجب بالتالي أن تؤول لأوروبا. ولما كان العالم الجديد (القارة الأمريكية) قد تم احتلاله بالكامل، فلماذا تُهمل أفريقيا وهي الأقرب والأكثر ثراءًا!
كانت الدول الأوروبية تتنافس لتخطيط تواجدها بالقارة السمراء. وكانت أكبر المناطق غير المكتشفة بالكامل هي الكونغو التي تتوسط القارة، والتي لا تقل مساحتها عن شبه الجزيرة الهندية. فكانت كلّ التطلعات موجهة إليها. ولكن كان ليوبولد الثاني، ملك بلجيكا، قد سبق الآخرين في الاهتمام بالكونغو ودراسة سبل استكشافها. ففي بداية سبعينات القرن التاسع عشر، دعا الملك البلجيكي لعقد مؤتمر علماء الجغرافيا في بروكسل وذلك لوضع خطة لدخول أراضي الكونغو الشاسعة واحتلالها، فقد كانت في نظره أراضٍ غير مملوكة لأيّ آدمي.
ولكن، كان لفرنسا تواجد عند مدخل نهر الكونغو، وتطلّعات لاحتلال تلك الأراضي. وقد عقد الفرنسيّ “دى برازا” اتفاقًا مع أحد رؤساء القبائل المقيمة على ضفاف النهر عام 1880 للتعاون في خطة احتلال الكونغو. وفى الجنوب، كان التنافس بين البريطانيين والبرتغال قائمًا لنفس الأسباب، خاصة مع التواجد البرتغالي في أنجولا والموزامبيق، الذي أفشل خطة بريطانيا لإنشاء محور عمرانيّ لمستعمراتها بين رأس رجاء الصالح والقاهرة، يخدمه خط سكة حديد.. ثمّ كان قرار ألمانيا عام 1884 بوضع مستعمراتها بجنوب غرب أفريقيا تحت حماية إمبراطورها “بيسمارك”. وقد قابلت بريطانيا التحرّك الألمانيّ بتوقيع اتفاقية مع البرتغال، تعترف بريطانيا بموجبها بحق البرتغال في احتلال مدخل نهر الكونغو، مما أثار ليوبولد الثاني ملك بلجيكا.
استشار بيسمارك سفير فرنسا “شودرون” عن رأي بلاده فى الأوضاع الأفريقية. فأشار عليه بعقد مؤتمر قمة لدول أوروبا كلها لتقرير مصير أفريقيا. وبالفعل تمّت الدعوة لعقد المؤتمر لتقرير مصير الكونغو بصفة خاصة وأفريقيا بصفة عامة. فانعقد في نوفمبر 1884 بمشاركة 14 دولة هي: ألمانيا – انجلترا – فرنسا – البرتغال – بلجيكا – هولندا – أسبانيا – الولايات المتحدة – النمسا/ المجر – السويد – الدانمارك – إيطاليا – روسيا – تركيا العثمانية.
من الناحية الرسمية، تحدّدت أهداف المؤتمر في ادّعاء اخراج أفريقيا من عزلتها وإنهاء تجارة العبيد. وقد وضعت بريطانيا عند بدء المؤتمر شرطًا وهو عدم مناقشة مصير وادي نهر النيجر الذي اعتبرته من أملاكها، وفعلت فرنسا نفس الشيء بخصوص نهر السنغال. فتحولت كل النقاشات حول مصير نهر الكونغو، الذي أسماه بيسمارك بنهر “الدانوب الأفريقي”.
ظل المؤتمر منعقدًا مائة يوم، لم تتخلّله إلا ثماني جلسات عامة، وكان المشاركون يقضون باقي وقتهم في الاحتفالات والترفيه والرحلات، سعداء بما ينتظرهم من ثروات سيتمّ اقتسامها.
انتهى المؤتمر بأواخر فبراير بالتوقيع والتصديق على عدة توصيات، منها: تحرير الملاحة على الأنهار، بما فيها نهر النيجر والكونغو، منع تجارة الكحول والسلاح مع سكان أفريقيا الأصليين، ومنع تجارة الرقيق. ولكن كانت أهم توصية تمّ الاتفاق عليها هي إعطاء الملك ليوبولد الثاني، بصفته شخصية ملَكيّة، كلّ أراضي الكونغو الشاسعة على أن يستكشفها ويقوم بتنميتها، فقبل تملّكها وقام بتسميتها “دولة الكونغو المستقلة”.. وكانت أوّل دولة تعترف بهذا الكيان الجديد هي الولايات المتحدة الأمريكية.
قام ليوبولد باستكمال استكشاف أراضي الكونغو، وقام بتمويل تلك الاستكشافات بما استطاع الحصول عليه من عائد تجارة الكاوتشوك الذي استخرجه من أدغالها. وعند وفاته، وبناءً على توصيته، انتقل الكونغو إلى ملكية بلجيكا التي حولته إلى مستعمرة الكونغو البلجيكي.
هكذا تمّ اقتسام أفريقيا السوداء بين المستعمرين كما يتمّ اقتسام الكيكة. أمّا الكونغو فظل محتلًا حتى ستينات القرن الماضي، وملحمة الاستقلال كانت على يد رجالها الشّجعان، مثل “لومومبا” الشهير جدَّا بمصر، الرجل الأسمر الذي حرّر بلاده.