أشياؤنا المُستَفزَّة للذكريات.. عن الأشياء التي تحكي عَنَّا أكثر بكثير مما نحكي عنها

بطبيعتي، لا أميلُ لعادة التَّكديس والتَّجميع، أحبُّ أن تملأَ المساحات الفارغة كل ما له علاقة بالأماكن المخصصة للتخزين؛ لذلك أتعجَّبُ من نفسي أحيانًا لاحتفاظي بأشياء غريبة أو عَفَا عنها الزمن، قد تكون قطع مكسورة أو غير صالحة للاستعمال، قد تكون قطعة قماش اهترأت وتيبَّست من تَراكُمِ بقايا الألوان الزيتيَّة عليها أو حبّة صنوبر صغيرة عدتُ بها من نزهةٍ في الغابةِ، أو حقيبة المدرسة لمرحلَتيّ ما قبلَ الابتدائيَّة.

عثرتُ قبلَ مُدّةٍ على طبقٍ دونَ أخوتهِ غير صالح للاستخدام بتاتًا وزجاجةِ عطر فارغةٍ تبخََّر كل ما عَلِقَ فيها مع الوقت وصندوق كامل يحتلُّ مساحةً كبيرةً لأشرطة كاسيت وفيديو؛ مما دفعني للتساؤل عن سبب احتفاظي بكل هذه الأشياء، و ماذا لو كنت قد تخلَّصتُ منهم كلٌّ في حين، هل أنا دونهم غيري معهم؟

غالبًا ما تكون “فكرة” طبيعة علاقتنا بالأشياء وأثرها في اتخاذ قراراتنا الصغيرة أمرًا يدعوني للتوقف عنده؛ فحين نقرر التخلُّص من أشياءٍ اعتدناها كقطعة أثاث أو كوب به شقّ ما عاد ينفع لاستخدامه قد نستغربُ حالةَ التردّدِ التي تنتابنا ما بين الرَّغبةِ في الاحتفاظ به -رغمَ عدم صلاحية استخدامهِ- وما بين التخلُّصِ منهُ واستبدالَهُ بآخر.

ما يحدثُ حقيقةً هو أنَّنا لا نقوم بالتخلُّص من مجرَّدِ قطعةٍ مصنوعةٍ من خشب أو زجاج بِقَدر ما نتخلَّص من قصص وتجارب وحالات وجدانيّة عِشناها من خلال هذا الكوب أو ذاكَ الكرسي أو تلكَ الدُمية أو ذلكَ القميص!

نحن لا ننظر إلى الأشياء بشكلها المجرَّد، حتى وإن اعتقدنا ذلك، نحنُ ننظر إلى القصص المُختَزلة التي تشكلت فيها ومنها، كأنَّها صُنِعَت من ذكريات، لا زجاج أو خشب أو مواد أخرى.. هناك تواطُؤ بيننا وبينَ الأشياء التي شاركَتْنا روتيننا اليومي وبالتالي أدقّ أسرارنا وأكثرها صدقًا وبداهة.

إعلان

قد يحدث أن يمر أمامنا شريط طويل من الحياة المشتركة قبل شروعنا بالتخلص من إحدى هذه الأشياء، كالمعاني التي حيكت بخيوط الملابس وهي تُرتَدى وتُخلع في مناسبات تحمل من الخذلان كما تحمل من الفرح وحان الآن وقت التبرع بها، القصص التي جلست على قطع الأثاث إلى أن أُثقلَ قماشهُ واسفنجهُ وجاءَ وقتُ تنجيدهِ أو حتى استبداله بجديد.

الأحلام الهانئة والقلقة التي نامت على الوسادة إلى أن كلح لونها وآن أوان استخدامها لشيء آخر، أو الشهيّة المفتوحة أو “المسدودة” المسكوبة في صحن دون سواه، إلى أن تشقَّقَ وأصبحَ لابد من تغييره.

“طاولة ومزهرية ورود، بابلو بيكاسو ١٩٤٢”

قد يكون ما عبّر عنه (أفونسو كروش) في “الرسام تحت المجلى” هو أجمل مثال على ذلك المعنى المعقّد للأشياء البسيطة؛ ففي الوقت الذي تُقرر الأغلبيّة أن ما أمامهم هو طاولة، فإن آخرين يرونها غير ذلك، لماذا؟
هي عمليّة بسيطة كما يقول: “قوامها رؤية أشياء لا يراها الآخرون في العالم من حولنا، حين تنظر إلى طاولة، يمكن أن تری مثلا أنها طاولة جيدة، لكن في الواقع ، الجزء الجيّد لا يُرَى”.

فما الذي يمنحُ الطاولة هذه الخاصيّة، فالأثاث مجرَّد من الصفات والآراء الأخلاقيّة، لكن من داخلنا تنبعث كل هذه الأشياء التي تُغنِي العالم أكثر.

الجزء “طاولة” ، يظلُّ واحدًا، حتى وإن اختلف الباقي؛ بمعنى أنَّ الطاولة يمكن أن تحوي أكبر التناقضات، ومع ذلك تبقى هي الطاولة ذاتها التي يراها كل من الشخصين.

إذا قلنا مثلًا: أنَّ الطاولة مرتفعة، فإنّنا بذلك نُضيف شيئًا آخر، كذلك يمكن أن نقول إنها أنيقة، وغير ثابتة، وفَرِحة.

أجل ؛ فالطاولة يمكن أن تكون فَرِحة أو حزينة، تصوَّر أن يتقاسم المرء عشاءً عليها مع أكثر شخص يحبَّهُ سيكون ذلك بُعدًا آخر، أو تَصوُّر أنه يعرف نوع الخشب الذي صُنعت منه، والمكان الذي نبتت فيه الأشجار المستخرج منها ذاك الخشب.

في تلك الحالة، حين ينظر المرء إلى طاولة ما، يستحضر الحبيب، أو الشجرة أو الغابة، وكلّها أشياء لا تُرى لدى النظر إلى الطاولة، ومع ذلك فإنَّ الشخص المعني يراها بوضوح.

إن العالم أجمع يعرف وظيفة الطاولة حين ينظر إليها، إلاَّ أنَّ هذه الوظيفة غير مرئيّة، وهي تحتوي على أشياء أكبر بكثير من ذاتها.

فالمعنى لا يتكون من تنوع وجهات النظر بمعناها الظاهري المَبني على انطباعات سطحية، بل من نوع العلاقة التي تُنشأها مع الأشياء.

وهذا ما تقوم عليه فكرة كتاب evocative objects “أشياء مستفزة للذكريات” لشيري تيركل -كاتبة وأستاذة في الدراسات الاجتماعيَّة- يستفزّ الكتاب الذاكرة، ويدفعنا للتوقف والتأمُّل كثيرًا في الأشياء التي نفكر من خلالها، وفي معنى وقوة الأشياء اليوميَّة من خلال مقالات وكتابات لأطباء وفنانين أو ناشطين إنسانيين وغيرهم.

ُتوضح المقالات فكرة الدور الذي يلعبه العالم الملموس في فهم مشاعرنا وما تعنيه الأشياء بالنسبة لنا ومستوى تواصلنا غير المرئي مع الآخرين، في الوقت الذي أصبحت علاقتنا وصِلتنا بالأشياء تُهدَم وتتلاشى قبل أن تُثرى بمعانٍ تُشكِل ذاكرتنا.
هذا الاهتمام بفلسفة الملموس قد يحول المعنى من استهلاكي نفعي إلى علاقة وجدانية تبادليّة، فحياتنا مليئة بثروات يومية من أبسط الأشياء؛ رسالة، علبة صغيرة، دُمية، دبّوس، هذه الأشياء على بساطتها إلا أنها مادة تأمُّل ثريّة في المعاني التي تحيط بحياة كل مِنَّا.

أشياء مثيرة للذكريات
” لوحة ” السجن” بربد جولشيري 2010 ” quod” by Barbad Golshiri ”

ففي مقابل ذلك العجز الذي قد يمنعنا أحيانًا عن إدراك كم المعاني التي تحيط

تحكي القصيدة اللوحة ما قالته السجينة “أعظم” التي كانت في سجن انفرادي حيث فقدت الإحساس والاتصال بالوقت والمعنى وبكل ما يصلها بالعالم الخارجي، إلى أن وجدت ذات يوم دبوسًا صدئَا في حبسها الانفرادي، فرحت به وأحسّت أنه نافذتها التي ربطت بينها وبين العالم الخارجي، بدأت في رسم المربعات به، وأصبحت المربعات عالمها.

تقول: ” أرى أنني كلما رسمت مربعًا داخل مربع آخر ووصلت إلى العمق، يتحول المربع إلى نقط، كانت الزنزانة مُظلِمة للغاية، لكن كان بإمكاني رؤية نقطة في منتصف المربع تنظر إليّ بيأس وتقول: “يجب أن تشهدي بأنني كنت مربعًا، أنت الوحيدة التي تعرف أنني كنت وما زلت مربعًا”.

قد يكون هذا مثالًا مُتطرفًا وموجعًا لما قد تعنيه الأشياء العادية! لكنه واقعي وقد يُعاش مرارًا في حياة كثيرين.

مع ذلك، قد لا تلامسنا كل التجارب التي نخوضها، كما لن تحاكي المقالات في كتاب “أشياء مثيرة للذكريات”، لدى القارئ شيئًا بعينه، لكنها بالمُحصّلة، تجارب إنسانية تشير إلى عادية الأشياء ظاهريًا وتفرّدها كتجربة خاصة حيث يسمح الخيال لكل منَّا بإجراء تواصل شخصي مع شيء ما بما يتجاوز معناه الأولي، بل بما يتجاوز فرديّة التجربة، فكثيرًا ما نستشعر خصوصيَّة وسحر هذه الأشياء العادية في ممتلكات الآخرين كالبيوت القديمة أو الأثريّة، كبيت جدّي الذي كلَّما دخلته أخرجُ غيري، أخرج وروحي مُحمّلة بأشياء تفوق قدرتي على تجاهلها لأيام أتساءل إن كان هذا ماقد يستشعره البعض عند دخول متحف يعود لفترة زمنية فائتة! حالة من تضخم الشعور ثم الذوبان مع تجارب إنسانيَّة خاصّة اتخذت شكل إناء أو حجر أو حليّ.

تذكرني تجربة المتاحف برواية “متحف البراءة“، فأكثر ما جذبني فيها، أن كاتبها التركي (أورهان باموق) قام بإنشاء متحف في اسطنبول مكوّن من كل ما كان يربطه بتفاصيل الرواية، لا تُحف ثمينة فيه بل أدوات يوميّة تلامس الواقع المُعاش مرتبطة جميعها ب”فوسون” حبيبة بطله، بحيث تحوّلت لتفاصيل حميميّة بالنسبة للقارئ بعدما عرف كم تعني تلك الأشياء لأصحابها، وكم كانت تفصح عن جانب وجداني خاص بهم، بدءً من أعقاب السجائر، مرورًا بكلاب السيراميك الصغيرة التي كانت تعلو تلفاز بيت العائلة وانتهاءً بالسرير الذي وهبه القدر للحظاتهم المسروقة معًا، لم أستطع حينها إيجاد الرابط بين الرواية وعنوانها البديع “متحف البراءة” إلا بعد اطِّلاعي لاحقًا على كتاب “أشياء مثيرة للذكريات”، فمتحف البراءة يشي بأشياءنا الأكثر براءة وبساطة بأنها الأشياء التي تحمل أكثر المعاني رهافة.

فالأشياء المثيرة للعواطف والذكريات هي أشياء تحكي عنا أكثر بكثير مما نحكي عنها، هي أشياء تدعو لفلسفة وفهم هذه الحياة من مدخلاتها الصغيرة، وعلى الرغم من اختلاف حكاياتنا واهتماماتنا إلا أننا جميعًا لدينا أرضيَّة مشتركة في التجربة الإنسانيَّة اليومية وشهود رمزيون يقبعون على الرُّفوف أو في الصناديق يروون عنَّا قصصًا لا تنتهي.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: دانا جودة

تدقيق لغوي: سارة جحجاح

اترك تعليقا