أبو العلاء المعري ومشكلة الشر الفلسفية/ لـ محمد الخباز
لنبدأ بكلام طه حسين في بداية حياته الأكاديمية عن أبي العلاء المعري في مقدمة رسالته عن فلسفة ابن خلدون والتي كتبها بالفرنسية ونال بها شهادة الدكتوراة في جامعة السربون عام 1917م، وتُرجمت عام 1925م، والذي يقول فيها أن أبا العلاء: “استحدث في آدابنا صنفين لم ينسج على منوالهما أحد منذ عهده، فقد استعرض في مجموعة شعرية اسمها (اللزوميات) فلسفة باهرة تفيض زهدًا وتشاؤمًا حتى قيل إنه لوكريس العرب، وتَخيلَ لنا في شبه قصة اسمها (رسالة الغفران) -التي تُذكرنا قراءتها بالكوميديا الإلهية- رحلةً إلى العالم الآخر، وَصَفَ لنا فيها الجنة والجحيم وصفًا قويا رائعًا”. في هذا الكلام تأثيرٌ واضحٌ لآراء المستشرقين عن أبي العلاء على طه حسين الشاب، إذ يقارن شعر المعري بشعر الشاعر والفيلسوف الإيطالي لوكريس، ورسالة الغفران بالكوميديا الإلهية للشاعر الإيطالي دانتي أليغييري. وهو رأيٌ منقول من دائرة المعارف الإسلامية التي يحيلنا عليها والتي ألفها مجموعة من المستشرقين.
لكن المهم لنا ليس موضوع تأثر طه حسين بالمستشرقين -على أنه موضوع مهم يستحق الدراسة-، بل هذه الصورة التي رُسمت لأبي العلاء على أنه صاحب فلسفة تشاؤمية وشخصية عابسة وجادة، وهي الصورة الراسخة في أذهاننا جميعًا عن أبي العلاء. بل إن العلاقة بين رسالة الغفران والكوميديا الإلهية هي ما يقفز إلى أذهاننا أيضًا عندما يمر ذكر هذه الرسالة أيضًا، فقد كانت هذه العلاقة محل درس من قبل المستشرقين أولاً ثم من قبل النقاد العرب لاحقًا، فهل يمكننا القول إن آراء المستشرقين ما زالت ذات أثر علينا حتى الآن، الجواب هو: نصف نعم. وهل يمكننا القول إن الصورة المرسومة في أذهاننا عن أبي العلاء ليست صحيحة، الجواب هو: نصف نعم أيضًا.
إن شخصية أبي العلاء المعري في اللزوميات شخصية تشاؤمية وعابسة بدون شكٍّ، لكننا لو طالعنا رسائل أبي العلاء سنجد شخصيةً مختلفةً كل الاختلاف عن الشخصية التي نستنتجها من قراءة اللزوميات، ففي رسائله ستجد شخصيةً في غاية الظرفِ والذكاء، وستجدُ ساردًا ممتعًا، وستجدُ الضحك الذي يجعلك تبتسم، بل وتقهقه أحيانًا، كما أنك ستجد أن هذه الرسائل تحلق في فلكٍ بعيدٍ كل البعد عن فلك العلاقة التي ربطت رسالة الغفران بالكوميديا الإلهية. لكن رسائله للأسف الشديد -إذا استثنينا رسالة الغفران- لم تحظ بأي اهتمام، وقليلٌ منا من قرأ شيئًا من هذه الرسائل، وأسباب ذلك كثيرة؛ ومن أهمها اللغة الوعرة التي كتب بها أبو العلاء بعض رسائله متعمدًا، وكمثال على ذلك يمكن الرجوع إلى «رسالة الصاهل والشاحج»، والتي قمتُ بإصدار نسخة ميسِّرة ومختصرة لها عن دار الكتب العلمية عام 2022م.
ويمكننا الجمع بين هاتين الشخصيتين لأبي العلاء: الشخصية الضاحكة والشخصية العابسة، بالقول إن هذه الأعمال كُتبت في فترات مختلفة من حياة أبي العلاء المعري، ولكل فترة ظروفها التي أثَّرت على كل عمل. وأغلبُ الظن أن الفترة التي كتب فيها أبو العلاء اللزوميات كانت بعد رجوعه من رحلته المريرة إلى بغداد، والتي عانى فيها من مجتمع بغداد بفساده الاجتماعي والسياسي. هذا المجتمع الذي كان يأمل فيه أبو العلاء أن يجد تقديرًا لموهبته وعقله، وإذا بهذا المجتمع يرفضه ويحتقره ويتعالى عليه ويُرجِعُهُ بخيبة أمله، وهو كما نظن من أقوى الأسباب التي جعلت أبا العلاء يقرر اعتزال الناس ويقرر حبس نفسه في بيته وتمتلأ نفسه بالتشاؤم ويعتقد عقله بفساد الناس. أضف إلى ذلك فاجعته بأمه التي وصل خبر موتها إليه وهو في طريق رجعته من بغداد إلى المعرة، وهي التي كانت ترعاه رعايةً بالغة، نستشف أثرها من قصيدته التي رثاها بها.
فإذا صدق ظننا من أن كتابة اللزوميات كانت بعد هذه الظروف القاسية، فمن الطبيعي أن تحمل في طياتها فلسفةً تشاؤمية ونقدًا قاسيًا للفساد الاجتماعي، والسياسي، والديني، والفكري. وهذا ما طبعَ صورة المتشائم لأبي العلاء في أذهاننا.
ولكن بعدَ أن هدأت نفسُ أبي العلاء في عزلتها بتطاول السنين، وصفى عقله، خرجت منه هذه الرسائل التي لا أثر فيها للتشاؤم ولا للسوداوية، فكان بعضها من أجَلِّ الأعمال السردية في تاريخ العرب، والتي لا مثيل لها في إبداعها وخيالها وأسلوبها، إلا أنها لم تلقَ الاحتفاء الذي يليق بها لحد الآن كما قلنا، وكأن حظها كان كحظ صاحبها أبي العلاء الذي لم يلق الاحتفاء اللائق به في بغداد رغم عبقريته.
على أننا قد نجد عذرًا لطه حسين الشاب إذ إن رسائل أبي العلاء المعري لم تحقق وتُطبع بعد، ما عدا رسالة الغفران التي صدرت بطبعة أمين هندية عام 1903م بعيوب كثيرة، أي قبل ذهاب طه لفرنسا، وبعد خمسين عام تقريبا صدرت الرسالة بتحقيقها الأتم على يد بنت الشاطئ التي نالت بها درجة الدكتوراة تحت إشراف طه حسين أيضًا.