آليات الفهم والتفسير للمقروء النصي
ليس منَّا من لم يقرأ في حياته -مرغمًا كان في مدرسته أو جامعته، أو مندفعًا بحب المطالعة والشغف-، وليس منَّا من لم يستحسن أو يستنكر ما قرأ، وهو ما بين الاستحسانِ أو الاستنكارِ يقف متأثرًا بالنص.
وهذا النص تكوَّن من أحرفٍ صارت كلمات، ثم الكلماتِ صِيغت عبارات، ثم العباراتِ صرْنَ جملًا تحمل أفكارًا، وتلك الأفكار تحمل في طياتِها مغزىً يقصدُه كاتبُ النص، فيتفاعل معه القارئُ الذي قرأ كلامه وتلقاه فيَصدُرُ حُكمًا على النص بِناءً على ما قرء.
والنص هذا شعرًا كان أم قصةً، أو مقالًا مكتوبًا أو تحليلًا لموقف ما فقد يُكتب بطريقةٍ سهلة مفهومة ومباشرة، أو بلغةٍ صعبة تحتاج إلى تأنٍ ومراجعة ثانية وربما ثالثةِ لفَهمِ المحتوى النصيِّ.
إذًا ماذا حدث للكاتب المرسِل ليحكم القارئ على نصه من عندياته؟ الكاتب هذا يختلف بأُسلوبه عن ذلك الأُسلوب اللغويِّ الذي انتهجَه طريقًا لزرع أفكاره أو رأيه في الموضوع متناوَل النص. فهذا شعرُ فخريِّ البارودي، يقول فيه:
بلاد العُرب أوطاني من الشامِ لبغدانِ
ومن نجدٍ إلى يمنٍ إلى مصرَ فتَطوانِ
وشعرُُ آخر لمحمود درويش من قصيدة “عابرون في كلام عابر” فيقول:
أيُّها المارون بين الكلماتِ العابرة
احملوا أسماءَكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتَكم من وقتنا وانصرفوا
فهذين النصين الشعريين نجدهما بين سهولة الفَهم والتفسير في النص الأول، وبعضٍ من الصعوبة في تفسير النص الثاني؛ ففي الأول نجد كلماتٍ شاعريِّةِ سَهلةَ الفهمِ واللحن المُغنَّى، وفي الثاني تركيبًا في الصورة ومجازًا ودَلالةً عن المقصود وهو العدوُ الصهيونيِّ العابر في كلامٍ عابر والمحتل فلسطين غصبًا.
وفي الشكل السرديِّ لنص الروايات نجد -مثلًا- عبد الكريم غلاب في روايته “دفنا الماضي” التي يتحدث فيها عن فترة الاستعمار الفرنسيِّ للمغرب يخبرنا بأنَّ عنوان الرواية قاله جُملةً على لسان أحد أبطال الرواية، وهو شقيق البطل الانتهازيِّ الذي عمل مستخدَمًا مع الاستعمار ولم يشارك في ثورة الاستقلال بعكس أخيه الذي سقط شهيدًا للوطن. فأين مغزى هذه الرواية؟ هل هو في سرد أحداثِها؟ أم في اسمها؟ ربما يقول البعض أن سرديةَ الرواية ممتعة جدًا؛ فهي تجذب القارئ المتلقي لإكمالها دون ملل، بينما آخر يقول أن اسمها “دفنا الماضي” هو الفكرة من فلسفة الرواية، بمعنى هل من حق أحدٍ أن يَدفن الماضي؟ وهل يستطيع أي شخصٍ أن يعيش بلا ماضيه؟ وهل القطيعة مع الماضي تفيد الحاضر؟ وغير ذلك من الأسئلة.
وهذا نهجُُ مختلف عمن كتبوا قَصص الحبِ والغرامِ المتعددةِ في الأدبِ المصريِّ، والتي وجدت طريقَها إلى السينما المصرية وعُممت في الوطن العربيِّ.
حقيقةً إنَّ الشعرَ له مقدرةُُ على تحمل الرمزِ والدَلالةِ والغموضِ أكثر من سرديِّةِ القصةِ أو الرواية، لكن الأمرَ لا يختلف عما أسلفت الإشارةَ إليه.
ويتضح الأمرُ أكثر في تحليلات الموضوعاتِ ذات الحساسيَّةِ عند المفكرين، أمثال: الجابري، والطيب تزيني، ومهدي عامل، وقائمةُُ لا تُعد ولا تحصى من الذين كتبوا في الحضارةِ والفكرِ العربيِّ، ومشكلات العقل وإشكالياته، وفلسفة ومشكلات الهُويةِ العربيَّة، والأصالةِ والمعاصرة وغيرها من الموضوعات ذات التوجهات الفلسفيَّة.
إن منهجيةَ الكاتبِ أو المفكر وثقافته تحددان أسلوبَ كتابةِ موضوعاتِه المدروسة، فلسفيَّةً كانت أم سياسيَّة، نقديَّةً وتحليلية. فمن الكُتاب من يكتب للعامة، ومنهم ن يكتب للنخبةِ المثقفة، ومنهم من يكتب لنخبة النخبة، ولهذا تجد لبعض الكتاب قراءً ومتابعين لا جماهيرَ تحبهم أو تتابعُهم وتقلدهم.
وعند هذا الحد يأتي دورُ القارئِ أو المتلقي الذي لا يكتفي بدور المفعول به، بل يسهم في إضفاء شيءٍ من ثقافتِه على ما تم هضمُه من أفكارٍ ويعيد إنتاجَه إما بسلوكٍ أو بفكرٍ آخر مضافٍ إليه من عندياتِه.
وذلك من خلال إعادة تأويل النص أو الخطاب وذلك ما يُسمى بعلم تأويل النص وهو “الهرمينوطيقا“، فالقارئ بعد تلقيه النصِ ويظن به فَهمَه للقصدِ والمغزى، يُعيدُ سردَه أو الحديثَ عنه بلغتِه وحسبما فهم مسبقًا. فمثلًا قصيدة “ريتا” لمحمودِ درويش والتي بعنوان “بين ريتا وعيوني بندقية” يقول فيها:
والذي يعرفُ رِيتا
ينحني ويصلي لإلهٍ في العيون العسليَّة
بين ريتا وعيوني بندقية
فمن القراءِ من يفهم أنَّ ريتا هي حبيبةُ الشاعرِ فقط، ومنهم من يظنها فتاةً يهوديةَ جميلةَ أحبَّت الشاعرَ لكن صهيونيَّتها وقفت حاجزًا في استمراريَّةِ علاقةِ الحبِ تلك.
وتأويلُ روايةِ “دفنا الماضي” وكثرةُ قراءاتِ تلك الرواية دفعت الكاتبَ عبد الكريم غلاب ليكتبَ روايةً أُخرى بعنوانِ “لم ندفن الماضي” وكذلك رواية “المتشائل” لإميل حبيبي وما صاحبها من ردود وتأويلات، وهي من الأدب الفلسطينيِّ.
لذلك فالقارئُ المتلقي ليس سلبيًّا في مقابلةِ النصِ الذي خرجَ من يد مؤلفِه للعامة أو لفئةٍ خاصة، بل هو فاعلُُ فيه ومعيدُُ نتاجه ضمن قالبِه اللغويِّ والمعرفيِّ. فالنقدُ ليس حكرًا على فئةٍ معينةِ من النقادِ بل هو حقُُ للقارئ أيضًا.