البَهِجُ الغضيض في تحليل المُسمَّى (تقويض): مُرَاجعة فيلم Demolition

– مدخل إلى فيلم Demolition
ديفيس (جيك جِلِنْهَل) رجلٌ غني، يعملُ في شركة استثمارية، حماه فِل (كريس كوبر) شريك مؤسِّس فيها،- عملًا “ليس فيه من الحقيقيَّة شيء، محضُ أرقام وشفرات حاسوبية تتطاير في الجو”. متزوج بجوليا (هيثر لِند) “الطيبةِ اللطيفة، التي تعمل في رعاية الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، التي تنخِر إذا ضحكت، وتبكي في كل مرة يعرضون فيها صورًا لسقوط البرجين”. “عرفها في حفلة من الحفلات، أخبره صديق لكليهما بأنها تجده جذابًا، وبعد ثلاث ساعاتٍ فقط، تباشَرا”. ثم كان يومًا أن تعرَّضَ وزوجتُه لحادث سيارة، فماتت هي ونجا هو، لكنه ما لبث أن دخل بغير وعي في معضلة وجودية، هي أشبه ما تكون بالجنون.

– ما لُباب فيلم Demolition؟

ما هذا الفيلم في لُبه إلا قصة اغترابٍ عن المعنى، ثم تقرُّبٍ منه وتعرُّفٍ له، ثم التحامٍ به. وتلك المسالك التي أسرت بديفيس إلى أنوار المعنى، كانت -مع حُزُونتها وعِظَمِها على النفس- بحرًا من العذوبة، وسماءً من الرهافة.

*تنبيه: في القادم تحريق.

-1- اغتراب ديفيس عن المعنى

كان ديفيس عميًّا عن الدقائق، ما كانت نفسه ولا بصره لترى أبعد من المادة شيئًا. لقد أحاله تطرفه إلى القِنْيَات الحسيَّة([1])، واغترابُه عن القِنْيَات المعنويَّة، آلةً لا تعرف ممَّ رُكِّبت، وكيف رُكِّبت؛ فها هو ذا في عزاء زوجته، يتصنَّع منفردًا بنفسه أمام المرآة البكاء، كأنه ممثلٌ يستكشف ما يمكن لوجهه أن يؤديَ من تعبيرات. وها هو ذا لا يتجاهل كلَّ يوم مدةَ خمسِ سنين، الرجلَ الذي يركب ذاتَ القطار الذي يركبه، والذي حاول التقرُّب منه،- إلا لأنه لم يطقْ إذ ذاك رائحةَ القهوة الساخنةِ من فمه!.

وها هو ذا يعيش اغترابًا عن العمل ذي القيمة المعنوية أيضًا؛ فهو ذو عمل لا اتصال عميقًا فيه مع البشر، لا سبيلَ فيه إلى تداول التأثير والتأثُّر، لا وجهَ فيه من وجوه القبض على المعنى؛ أفليس هو الذي قال: “لا شيءَ في عملي حقيقيٌ، لا شيء فيه أقدر أن أقبض عليه بيدي، هو محض أرقام وشفرات حاسوبية، تتطاير أمامنا في الجو”، وقال: “كل العمل ملقًى على عاتق من هم دوني، لكنَّ الفضلَ كلَّه يُنسب في النهاية إلي”.

إعلان

ومن المَوَاطن التي أحسَبُ أن فيها سخريَّةً في الفيلم -وفي الفيلم كثيرٌ من مواطن السخرية اللذيذة-، تَمَثُّلُ فِلْ، رئيسِ الشركة، وحما ديفيس، في اجتماع عمل، بقول للشاعر الفرنسي بول فاليري: “المستقبل ليس كما كان عليه من قبل”. ووجه السخريَّة في هذا المشهد، أنَّ فيه رئيسًا لشركة كبيرة من شركات وول ستريت، يتمثَّل في اجتماع عمل مع موظفيه، بقول ليس صاحبه شاعرًا فحسب، بل هو معَ ذلك من أعلام مذهب الرمزية([2]) في الأدب!.

وأجدر حال لديفيس بالرقة والرثاء، هو حاله مع زوجته جوليا؛ فقد قال بعد أن وصفها الوصف اللطيف الذي أوردته في مدخل الحكاية: “مع ذلك -أي مع معرفتي بهذه الحقائق اللطيفة عنها- لم أكن أعرف حقيقتها، كانت تقول لي دائمًا إنني لا أعير انتباهًا”.

كان ديفيس لاستغراقه في القِنْيَات الحسية، قد استحالَ شيئًا أشبهَ من أي شيء بعمله، شيئًا مصطنعًا ليس فيه من الحقيقيَّة شيء، معقدًا تعقيدَ الآلة التي سيولع بتفكيكها عما قريب. فلا عجب أنه أجاب على سؤال: “لم تزوجتها”، بقوله: “لا أعرف. لأنه كان سهلًا!”.

-2- تقربُ ديفيس من المعنى وتعرفُه له

لعل أولَ سؤال سيرد ذهن المشاهد هو: علام ذهب ديفيس بعيد علمه بوفاة زوجته، وبعيد رؤيته لبقايا دمها على فراشها في المشفى، وكأن اللامبالاة قد غشيته،- إلى آلة بيع الحلوى ليشتري (M&M)؟!. ثم كان فوق ذلك أن أخذ يكتب رسالة شكوى إلى الشركة المالكة للآلة، بعد أن علقت الحلوى فيها فلم تخرج وضاع عليه ماله.

الحق أن التي غشيته ليست اللامبالاة، بل الصدمة، وعلى قدر عِظَمِ الصدمة، كانت الغرابة في الاستجابة. والحق كذلك أنه لم يرد أن يشكوَ ما في الآلة من عَطَل ليردوا عليه ماله، فهذا ظاهر الأمر، أما باطنه فأنه أراد أن يشتكي إلى أي إنسان ما في داخله من خراب واضطراب، وارتياع والتياع، وهَيَمان وهَذَيان، بعد الذي نزل به، وذلك ما كان.

– لم الورق؟

لعل بعضَ المشاهدين، لاحظ أن ديفيس اختار أن يكتب على الورق، حين أراد أن يبعث برسائلَ إلى الشركة المالكة للآلة، معَ أنه كان قادرًا أن يبعثها بالبريد الإلكتروني مثلًا.

كان اختيار ديفيس للكتابة على الورق -فيما أرى- اختيارًا بَدَهيًّا، ذلك بأنه جزء من حال الوحشةِ الفُجائيَّةِ، التي تملكته بعد صدمته، من كل تعقيد ومُعقَّد، فما كان مثلُه حينئذٍ ليختارَ الآلة رسولًا يُحمِّله مشاعرَه وأحاسيسه. سوى أنَّ ذلك لم يكن عن وعي منه وإدراك، إذ لم يكن بعدُ قد مارس ضروب التقويض التي مارس، والتحم بالمعنى.

 

وهو -أعني خِيارَه الذي اختار- مما توجبه رغبته الملحة بعد الصدمة، في التعبير عن مكنوناته تعبيرًا صادقًا نقيًّا، وهذا الضرب من التعبير، لا يؤويه حقَّ الإيواء إلا الورق، إذ هو الذي صحب الإنسان في أزمان البساطة وغياب التكلف، فمباشَرة الكتابة به، مباشَرةٌ لتلك البساطة وذلك الغياب.

– متلقية الرسائل

اتفق أن كان العاملُ المتلقي لرسائل الإفضاء من ديفيس، امرأةً اسمُها كارِن (نِيومي وَتْس). أثر في كارن إفضاءُ ديفيس المجنون أيَّما تأثير، حتى إنها اتصلت به في ساعة متأخرة من الليل، لتخبره بحجم الأثر الذي تركه كلامه فيها. ونشأت بينهما صداقة عميقة مجنونة بعد ذلك، ولا غرابة، إذ كان في كارن شيء مما في ديفيس؛ كانت مع حبيب “لا تحبه مع أنه إنسان طيب ويحبها”، كذا قالت لديفيس إذ كانا مستلقيين {معًا بانفصال!}، وكان لها ابنٌ اسمُه كْريس (جوده لُويس)، مراهقٌ نزِق متمرِّد، يعيش كلٌّ منهما غربةً عن الآخر.

– ولع ديفيس المفاجئ ب (التقويض)

تملَّك ديفيس بعد وفاة زوجته من حيث لا يدري، ولعٌ شديد بالتقويض، فحاول تحطيم ثلاجة بيته وتفكيكَها، وفكَّك حاسوب مكتبه في العمل، وبلغ الأمر به غايةَ أن فكَّكَ أجهزة الإضاءة والأبواب في مرحاض الشركة العمومي.

لقد كان ديفيس في ذلك كلِّه، يحاول مجاوزة المادة والخلوصَ إلى المعنى. لقد كان يقوِّض ويُفكِّك نفسه وحياته، فهمَه للدنيا. قالت له زوجته في السيارة قبل دقيقة من الحادث: “ما زالت الثلاجة تُسرِّب، هل فحصتها؟”، والحق أن ما كان يتسرَّب من حياته إنما هو المعنى لا غير، وأن ما كان يتلاشى هو أخصُّ خواصِّ إنسانيته، انتباهُه للمفاهيم للمعاني للمشاعر، لكل ما لا تستطيع اليد أن تقبض عليه، ولكنه يستطيع القلب!.

لقد كان قلبه يتآكل، كما كانت ستتآكل الشجيرة أمام منزله {بالعَثِّ الغجري}([3])، لولا أن أباه أنقذها. ولذا خُيِّل إليه وهو عند الطبيب، أن الطبيب أتاه يخبره بأن جزءًا من قلبه مفقود، وأن ما أكله هو العث الغجري. ليس العث الغجري إلا ما هو خلافٌ للمعنى، وليست الشجيرة إلا قلبَ الإنسان، الذي إن يجتمعْ عليه ما هو خلاف للمعنى، ويستبدَّ به، يُحِلْه هباءً منثورًا.

ولقد أحس ديفيس في قرارة نفسه، من حيث لا يدري، أن على الحياة أن تقفَ وتتجمَّد، ليتأمَّلَها ويحلِّلَها ويفكِّكَها. ولعل هذا هو {الطارئُ المنطقي}، الذي حمله فجاءةً -بعد أن سأله الرجل في القطار: “بم تشعر الآن؟”- على سحب عُقلة الأمان في القطار، ليتجمَّدَ القطار في لحظة واحدة، ويُرعَبَ الناس، ويُساقَ ديفيس إلى مركز الشرطة.

– ولع ديفيس بالدقائق

تملَّك ديفيس أيضًا ولعٌ شديد بدقائق الأمور والأشياء، ففي إحدى رسائله التي أرسلها إلى الشركة المالكة لآلة بيع الحلوى -وذلك قبل أن يعرف أن المتلقِّي لرسائله هو كارن- قال:

“بعد أن أوصلت أمي وأبي إلى المطار، ظللت قاعدًا فيه مدةَ ساعتين، أراقب الناس وأحس بالفضول ينمو بداخلي ويغمرني، أريد أن أعرف ما في حقائب هؤلاء الناس، أريد أن أعرف ما الأشياء التي لا يستطيع الناس أن يستغنوا عنها مدةَ أربعة أيام في (بَفِلو)!([4])، أريد أن أفتح كل واحدة من هذه الحقائب، وأرمي ما فيها من الزبالة في أكبر مزبلة. أريد أن أحملَ سلاح رجل الأمن القومي في المطار، أريد أن أحميَ بلدي!”، وأخذ يتصوَّر نفسه وهو يحمل السلاح فيصوبه على الناس، ويطلق النار وسَطَ هروبهم ورعبهم!.

ثم قال بعد ذلك أيضًا: “بدأتُ ألاحظ أشياءَ ما رأيتها من قبل (نراه حينئذٍ وهو يلاحظ خيوط الشمس المنبثقةَ من بين أوراق الشجر، وشَعَرَاتِه المشتبكةَ في مشطه)، أو…. لعلني رأيتها، كل ما في الأمر أني لم أكن أعير انتباهًا!”.

وقال أيضًا: “لسببٍ ما، كل شيءٍ تحوَّل إلى مجاز…. (ردد كلمة مجاز في اندهاش)، أنا الشجرة المُقتلَعَةُ الجذور، أنا ال…. لا، انتظر، أنا العاصفة التي اقتلعت جذور الأشجار، أنا الجبهة الباردة التي اصطدمت بنظام ضغط منخفض…. لا، مبالغة”، ومزَّق الصفحة، فانتبه فجأةً لكونه جالسًا في محطة قطار بين الناس!.

إن انكشاف الدقائق المفاجئ الذي عاشه ديفيس، لهو أشبه الأمور بالإبصار بعد طول عمى. تلك الدهشة والغضب اللذان تملكاه في المطار مع عمق تأمُّله، كانا دهشة وغضبًا من نفسه أولًا، لكونه على عِلْمٍ بأنه نسخة من الكثير ممن رآهم، وأن هذا الاستنساخ، هو جالب العمى لعينيه ومُقرُّه. إن ديفيس لم يكن حاقدًا على الناس حين تصوَّر نفسه يُصوِّب السلاح عليهم، بل كان حاقدًا على ما آلت إليه الحياة التي شكَّلته وشكَّلتهم. كان يريد أن يقوِّضَ -ولو في خياله- ذلك الاصطناع، وتلك الحركةَ الجامدة، إذ ليس في حقيقتها شيءٌ إلا الجمود؛ حركةٌ لا إلى إحياء معنى، ولا إلى إعمار قلب، ولا إلى تسكين نفس، حركةٌ إلى تحصيل مصلحة فقط. ولعل هذا ما أراد أن يحمي بلده منه حين قال: أريد أن أحمي بلدي!.

 تتابعت على ديفيس ملاحظاته لمَوَاطن المعنى والجمال، ومنها ملاحظته للمجاز، وكأنه لم ينطق به يومًا قط، ولا عرف كُنهَه، ولا التفت ذهنه إلى شيءٍ منه. لقد كان حين ردَّد لفظه، كالطفل أولَ معرفته بلذة المجاز، ودهشتِه وطربِه، لقد اختطفته رغبة جامحة في تذوقه وممارسته. وملاحظة ديفيس للمجاز، قربٌ حقُّ قربٍ من المعنى؛ فالمجاز مَرْعَى المعاني ومُستَكَنُّها، وما هو إن لم يكن كذلك؟.

وانتباه ديفيس فجأةً للمكان الذي انتهى إليه بعد غرق في الكتابة، يشبه الانتباه من نومة، لكنها نومةٌ لا غفلةَ فيها بل حضور، حضورٌ بكامل الجوارح والأجزاء، ولأن ديفيس لم يعهد مثل هذا زمنَ اغترابه عن المعنى،- استغربه.

ومن ألطفِ ما أحسَّه ديفيس في رحلة تقرُّبه من المعنى، ما كتبه إلى كارن: “عزيزتي كارن، أظل أفكر في طفولتي، كنت إذا مرضت ألقيت برأسي في حِجْرِ أمي، فتمرر أصابعها خلال شعري، وتُقبِّل جفوني، فيصبح كل شيءٍ أفضل. أتظنين أوانَ هذا قد فات؟!”.

ديفيس في كلامه هذا يستذكر أيامًا له، كانت فيها القِنْيَات المعنوية كلَّ حياته، أيامًا كان دواؤه فيها القُبلةَ والحِضن، كانت فيها حساسِيَتُه في ذروة الكمال والعذوبة، قبل أن تغيبها طبقات من الهَيَمان خلف كل نقيض للمعنى.

– سِرّ أغنية (Crazy on you)

قالت كارن لديفيس: “شغَّلتُ أغنية (Crazy on you) لفرقة (Heart) في المطعم، واستمعتُ إليها قبل مجيئك، لكن أحسست بحزن مفاجئ، لا أدري من أين أتى، فأوقفتها وذهبت”.

ظل ديفيس طوال اليوم التالي يفكر في الأغنية، أمحزنة هي أم مفرحة؟ وإن كانت محزنة فما السبب؟،حتى إنه سأل فجأة زملاءه في اجتماع عمل في الشركة: “هل يعد أحدكم (Crazy on you) أغنيةً محزنة؟!.

الحق أن اختيار المؤلف لهذه الأغنية لم يكن عشوائيًّا، وكذلك كان حزنُ كارن المفاجئُ المبهم، لأن في الأغنية -معَ كونها ذاتَ لحن متسارعٍ نَشِط جامحٍ فَرِح- كلماتٍ تأخذ معَ مجامع القلب، بمجامع الذهن، وتغري بفرط التأمل، فتقول مثلًا في مقطع:

Wild man’s world is cryin’ in pain

What you gonna do when

?everybody’s insane

So afraid of one who’s so afraid of you

?What you gonna do

  عالم الإنسان المتوحشِ، يبكي في ألم!

ماذا ستفعل إذا ما كان الكل مجنونًا؟!

خائفٌ كلَّ الخوف، ممن هو خائف منك كلَّ الخوف!

ماذا ستفعل؟!

-3- الالتحام بالمعنى

جاوز ديفيس حدود التقويض التي سبقت، إلى حد أعظمَ وأجمح، وهو التقويض الشامل بالمطارق!. وهذا الحد -مع أن ظاهره تقويض هائج أعمى عنيف، لا عملَ فيه للمعنى بل للجسد وحدَه- مشتملٌ في حقيقته بطريق التعريض والمجاز، على ما ليس فيه عمل للجسد، بل للمعنى وحدَه!.

إن ذلك النزوع من ديفيس إلى التقويض بالمطرقة مع عمال البناء، نزوع إلى (إنسان الكهف) في أعماقه، الحُرِّ من أغلال الجمادات والأعمال الجامدة، نقيضِ الآلة، تجسيدِ البساطة والتبسُّط، ابنِ الغابات والفَلَوات والفضاءات، رفيقِ ذوات الأرواح من الحيوانات والنباتات، -والنباتات تشبه لكونها مادةَ الحياة للإنسان والحيوان، أن تكون ذاتَ روح-، الساكنِ للحجارة التي ليس بينها وبين حجارة اليوم المسكونةِ وجهُ مناسبة، لأن تلك من تفضُّل الطبيعة، أما هذه فمن تصنُّع الإنسان.

تَشَارك ديفيس وكريس (ابنُ كارن المراهق) إطلاقَ النار بمسدس في الغابة. ولمَّا طلب كريس هدفًا يصوبون عليه، تدرع ديفيس، وانتصب مقابلَه غيرَ بعيد، فأطلق كريس عليه النارَ مرتين، وهما في ذلك كلِّه في نشوة عجيبة!.

غيرَ أن تلك النشوة وذلك الجنون من ديفيس، لم يكونا لمخدرٍ تعاطاه، بل لتحرُّرٍ سكنه. وذلك التحرُّر بلغ عنده مبلغَ انعدام الخوف من فقدان الحياة، ولكنه انعدام لا لكرهٍ ونفورٍ منها، بل لحُبٍّ وإقبالٍ عليها!.

(Let me go crazy on you)، أليس هذا ما صار إليه ديفيس مع الحياة؟. ولقد صار أغنية تجمع بين الرقة والجموح، تترنَّم ترنُّمَ الورقاء حالًا، وتهدِر هديرَ البحار أخرى، تفيض -على ما فيها من عدم الاكتراث- بالمعنى، وتسطع -على ما فيها من الهَيَمَان- تعقلًا. أليس هذا ما صار إليه ديفيس، إذ أخذ يهيم بين الناس في الطرقات، ينصت إلى الموسيقى، ويرقص كالطفل؟.

انكشف لديفيس صدفة، أن زوجته كانت حُبلى قبل مدة من وفاتها، ثم أخبرته أمها أنها لم تكن حبلى منه، لأنها كانت في علاقة مع رجلٍ غيره، ولذا أخذتها أمها لتجهض.

لم يبد على ديفيس أي نوع من أنواع الانفعال إذ علم ما علم، كان في غاية الجمود، لكن هل كان ذلك جمود اللامبالاة؟، مطلقًا، لم يكن عدم انفعال ديفيس لتحجُّر شَعُوريّ فيه، بل لفرط شعور توصَّل إليه؛ فقد بلغ بأنواع التقويض التي مارسها، حالة عظيمة من التفهُّم والتقبُّل، والشعورِ بالذَّات وبالآخر، صار لاقتداره على احتضان خطاياه، مقتدرًا على احتضان خطايا غيره، وإن بلغت ما بلغت. ولذا لم يكن منه بعد ذلك عند قبر زوجته، إلا احتضانُ وتسكينُ سائق السيارة التي صدمته وزوجتَه!.

بعد أن أنهى ديفيس زيارة قبر زوجته، عاد إلى سيارته، ليجد صدفةً تحت مقعد السيارة، رسالة صغيرة بخطها كتبت فيها: “إذا كان الجو ممطرًا، فلن تستطيع أن تراني، أما إذا كان مشمسًا، فإنك ستفكر فيَّ”. انفجر ديفيس بكاءً إذ قرأها، ولم يكن قد بكى منذ توفيت زوجته ولو لمرة واحدة.

كان ذرف الدموع من ديفيس، هو كمالَ الالتحام بالمعنى، بعد طول اغتراب عنه؛ فأي حال تستبين فيها إنسانية الإنسان أكثرَ من هذه الحال؟، حالِ انطلاقِ الدمع على غير إرادة من صاحبه. إن ذلك الدمع لفي غاية العذوبة، وإنِ انذرف من عينٍ صاحبُها في غاية الكُدُورة.

بعد ذلك يذهب ديفيس إلى حماه فِل، فيخبره وكأنه دمعة توشك أن تنذرف، أن مشروع المنحة الدراسية الذي أنشأه تكريمًا لروح جوليا فكرةٌ عظيمة، وأنه مع ذلك، يريد أن يكرِّمَ روحها بطريقته الخاصة.

أقام ديفيس على شاطئ البحر -وكانت جوليا تعشق البحر- أُلعوبةً كان رآها عند العجوز اللطيف، الذي ذهب إليه مع كارن من قبل، لتشتري منه الحشيش، وهي ألعوبة الخيل الدوَّارة، كانت في باريس في سبعينيات القرن الماضي. أقام ديفيس هذه الألعوبة، التي تكاد تنقرض، وأخذ يُلعِّب بها أطفالًا من ذوي الاحتياجات الخاصة -وكانت جوليا تعمل في رعاية الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة-. وجرى ذلك المشهد الفتَّان، مع الأغنية الفرنسية البديعة: (La bohème) (البوهيمي).

إن ذلك المشهد العظيم، مِمَّا لا يُشَاهَد بالعيون، بل بالأرواح، ومِمَّا إن كتبتَ عنه أو تكلمت، خِلتَ أنك تسيء إليه، لأن خيرَ ما توفِّيه به حقه، هو الصمت، والتذوقُ بالقلب.

اختار ديفيس أن يكرِّم روح زوجته بضحك الأطفال العِذَاب، على ألعوبة بسيطة، بساطةَ ديفيس نفسِه بعد التحامه بالمعنى، وبساطةَ زوجته جوليا، التي كانت تبحث عن الحب، عن الاهتمام، عن (FOR EVER)([5]).

وأغنية (البوهيمي)، أغنية يكاد يستحيل أن يؤدِّي مُؤدَّاها في هذا الموضع غيرُها؛ فمن عَرَفَ معنى كلماتها، والمناسبةَ التي بين معانيها ومعاني الفيلم، أيقن أن الذي بينهما من القرابة، كالذي بين الأخ والأخت. فما أحسن اختيار من اختارها لهذا الفيلم عمومًا، ولهذا الموضع خصوصًا!.

سألت كارن مرةً ديفيس: “متى كانت آخرُ مرة اهتممت فيها بأمر حقًا؟ مثلًا عندما كنت طفلًا، ما كان أهمُّ أمر لديك؟”، أجاب ديفيس: “الجريُ بسرعة، كنت دائمًا بطيئًا جدًّا، أردت أن أهزم رفاقي جميعًا ولو لمرة واحدة، أن أبهرَهم وأجعلَهم يهتفون باسمي”.

في المشهد الأخير من الفيلم، يرى ديفيس أطفالًا يتراكضون في الشارع، فيركض معهم كأنه قد نبت له جناحا عصفور صغير. هنالك يعود ديفيس، الطفلَ الذي كانه يومًا، العذبَ الحُرَّ، الذي كانت أقصى أمانيه أن يسبق رفاقه ولو لمرة واحدة. هو الآنَ كما قال له كريس في رسالة في آخر الفيلم: “… لكنَّ شعورَ أن تكون ذاتَك، شعورٌ لا يَعدِله شعور!”.


هوامش:

[1]((القِنْيَات: كالمُقتنَيَات: ما يتخذه المرء لنفسه لا للبيع، أو ما يكتسبه. وهذا تعبير للفيلسوف ((أبي إسحاق الكندي))، في رسالته

   المسماة: ((رسالةٌ في الحِيلة لدفع الأحزان)).

[2] ((والرمزية)) في الأدب والفن، على الجهة المقابلة من ((الواقعية)). وجوهرها أنها مهتمة بأغوار النفس، والتعبيرِ عن مكنوناتها من مشاعرَ وأحلامٍ وأَخْيِلَة. كلُّ ذلك بآلتين فنيتين أُسيتين في هذا المذهب، ألا وهما الرمز والتجريد.

[3] العث الغجري: حشرة تشبه الفراشة، من أشهر الحشرات الفتاكة بالأشجار في الولايات المتحدة.

[4]قال كلمة (بفلو) بنبرة سخريَّة، ولعلَّ سببَ ذلك، أن مدينة بفلو هي مركز تجاري وصناعي عظيم في نيويورك، فما الجدير بأن يحرص عليه الإنسان في رحلته إلى مدينة كهذه في رتابتها الناتجة عن فرط حداثتها؟.

[5] ظهرت جوليا أكثرَ من مرة في الفيلم، تهمس بهذه العبارة في أذن ديفيس.

إعلان

اترك تعليقا