“مدخل إلى علم السياسة” لمحمد الرضواني..سفر في عوالم السلطة وصناعة القرار

قد تكون السياسة “سلوكًا سياسيًا من نوعٍ ما” تتجلّى بأبسط صورة في “الاهتمام العابر بالشأن العام” وفي أقصاها في “الانخراط في الأحزاب والمشاركة في الانتخابات وممارسة السلطة” كما عرّفها الاتجاه السلوكي في علم السياسة ، وقد تتمثل ببساطة “فيمن يحصل على ماذا وكيف” وفقًا لأستاذ علم السياسة والتواصل الأمريكي هارولد لاسويل، لكن وراء مثل هذين التعريفين نجد عالمًا أكبر يضم تعاريف أخرى ودراسات حول صناعة النخب وممارسة النفوذ والسلطة، واتخاذ القرارات وميلاد المشروعيات السياسية أو فنائها.

وهذا العالم هو ما يحاول تقريبك منه كتاب “مدخل إلى علم السياسة” لأستاذ علم السياسة والقانون الدستوري بالكلية المتعددة التخصصات بالناظور (شرق المغرب) محمد الرضواني.

يتتبع الكتاب -الصادر عن سلسلة بدائل قانونية وسياسية الواقع في 285 صفحة من الحجم الصغير- تطور مفهوم علم السياسة فلسفيًا وتاريخيًا وتحوّله إلى علم مستقل بذاته وتخصص جامعي معترف به له أساتذته وروّاده.

وإذا كان علم السياسة اقترن في التعريف الفلسفي بالغايات النبيلة والجمهوريات الفاضلة وفي التعريف الواقعي الذي أسس له مكيافيلي بالبقاء في الحكم باستعمال شتّى الوسائل فقد تقلّب في تعريفات أخرى على مر التاريخ، قبل أن يلج مرحلة التأسيس العلمي كفرع أكاديمي يدرس الظواهر السياسية بأواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مع تأسيس كليات وجمعيات أكاديمية متخصصة في هذا الميدان.

وستزيد مكانة علم السياسة كـاختصاص جديد وواعد وضوحًا بعد الحرب العالمية الثانية وبصفة خاصة بأمريكا مع “نجاح علماء السياسة في تحديد موضوع علم السياسة وبلورة مناهجه وتجديد مفاهيمه”، حسب المؤلف.

إعلان

فبعد الحرب العالمية الثانية وارتباطًا بالسياقات الدولية التي تليها مثل الحرب الباردة، سيحقق هذا المجال العلمي زخمًا جديدًا في بنياته المفهومية نتيجة عوامل متعددة “من قبيل سعي الولايات المتحدة الأمريكية إلى بناء أطروحات نظرية منافسة لتلك التي تبناها الاتحاد السوفياتي من أجل مواجهة الماركسية، وبحثها عن أطر وكفاءات متخصصة قادرة على مدّها بخلاصات ومعرفة دقيقة وتنبؤية حول أنماط السلوك السياسي بمختلف دول العالم ومسارات الأحداث في المستقبل”.

وفي هذا السياق، نقرأ في الكتاب أنه سيحصل علماء السياسة بالولايات المتحدة على تمويلات مهمة من جهات متعددة من بينها “الكونغرس والمخابرات الأمريكية وصناديق الدعم الخاصة”. وستركز الأبحاث على التحليل السلوكي وتتخلى عن التحليلات الفلسفية والتاريخية، وسيقود هذا الجهد البحثي رواد الثورة السلوكية، مركزين على قضايا “السلوك التصويتي للناخبين وتفاعلات الجماعة والقيم والرسائل المؤثرة في سلوك الناخبين والجماعة السياسية بشكل عام”.

ويؤكد الأستاذ الرضواني أنه بعدما أبان منهج المدرسة السلوكية في علم السياسة عن محدودية قدرته التوقعية لعدة أحداث كبرى (انهيار الاتحاد السوفيتي، الثورة الإيرانية، حرب فيتنام..)، سيبدأ علماء السياسة في الاتجاه إلى الأخذ بمناهج ومقتربات متعددة في تحليل الظواهر السياسية سيصير المنهج السلوكي جزءًا منها فقط.

السلطة : ما السلطة؟

في فصل آخر من الكتاب، يعرّج الكاتب على أحد المفاهيم الأكثر تشعبًا في حقل علم السياسة وهو مفهوم السلطة. ويقدم مجموعة تعاريف سنأخذ منها اثنين بارزين، فإذا كان عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر يعرّف السلطة بأنها “الإمكانية المتاحة لأحد العناصر داخل علاقة اجتماعية معينة والتي تجعله قادرًا على توجيهها (أي العلاقة) حسب مشيئته”، فإن عالم السياسة الأمريكي روبرت دال يعرّف السلطة انطلاقًا من فكرة النفوذ، أي “علاقة بين فاعلين يتمكن بواسطتها أحدهم من دفع الآخرين إلى التصرف بطريف مختلفة عما كانوا قد يفعلونه دون هذه العلاقة”.

وفي هذا الاتجاه، يرى الأستاذ الرضواني أنه يمكن التمييز بين سلطة الإيعاز وسلطة التأثير، فالأولى تحيل على “علاقة تتضمن الجزاء والعقاب والقوة”، فيما تحيل الثانية (أي التأثير) على “تعبئة موارد غير عقابية لتحقيق السيطرة”.
وإذا كان الكاتب يتحدث عن “طرق” (بالجمع) غير ديمقراطية في تولي السلطة السياسية (التعيين، الانقلاب، التوريث..)، فبالمقابل لا يتحدث إلا عن طريق ديمقراطي واحد في توليها وهو طريق الانتخابات الحرة والنزيهة حتى وإن جرت ضمن نظام وراثي أو نظام آخر بشرط أن تكون الانتخابات آلية فعلية للوصول إلى السلطة وتكوين مؤسسات سياسية قوية وتحقيق التداول على السلطة.

المشروعية السياسية: من سلطة التقاليد إلى سلطة العقل

وفي فصل آخر يتناول الكاتب مسألة المشروعية السياسية، ولا يفوته أبدًا التوقف عند أحد أبرز النظريات التي فسرّت المشروعية انطلاقًا من تصنيف ثلاثي لايزال ذا راهنية إلى اليوم. ويتعلق الأمر بتقسيم عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر للمشروعية السياسية إلى ثلاثة أصناف تقليدية وكاريزمية وعقلانية.

وتستند المشروعية التقليدية إلى الطاعة والولاء إلى الحاكم باعتباره يمثل عادات وقيم مشتركة تعود للماضي، ويسود هذا الصنف من المشروعية في المجتمعات الأبيسية والإقطاعية والعشائرية-الرعوية.
أما المشروعية الكاريزمية فتقوم على الاعتقاد بتمتع الزعيم أو القائد بخصائص متفردة وأحيانًا خارقة للعادة وصفات قيادية آسرة تضمن له الولاء والخضوع.

ومقابل هذين النوعين من المشروعية أي التقليدية والكارزمية، يعتبر ماكس فيبر النوع الثالث أي المشروعية العقلانية أرقى أنواع المشروعيات. ويرجع ذلك وفقًا له، إلى كون المشروعية العقلانية تتأسس على القواعد القانونية والدستورية وحكم المؤسسات وفقًا لضوابط حديثة ومنطقية وغير مشخصنة .

وفي هذا السياق، يقارن المؤلف بين محدّدات المشروعية في الدول الغربية الحديثة ومحددات المشروعية في الدول العربية. وتتمثل محددات المشروعية في الدول الغربية في خمسة أساسيات هي العلمانية والحق العقلي والقيم الرأسمالية والسيادة والأمة.
بالمقابل، تتمثل محددات المشروعية في الدول العربية في ثلاثة محددات كبرى هي الدين والشخصانية (اختزال الدولة في شخص الحاكم) وتأثير القوى الخارجية.
ويتطرق الكتاب إلى مواضيع أخرى لاتقل أهمية من قبيل “نظرية النخبة” و”الأحزاب السياسية” و”الجماعات الضاغطة” و”التنشئة السياسية” و”الثقافة السياسية” .

ونحد بين ثنايا هذه المواضيع حديثًا عن العوامل المفسرة لصناعات الزعامات داخل التنظيمات، والتأثيرات النفسية لممارسة السلطة وحدود آليات الحد من التسلط، والتركيبات السوسيولوجية والطبقية للزعماء، والنخب الإدارية الجديدة.

وعلى طول الكتاب يظل المؤلف وفيًّا لمنهج تحليلي محايد يعمل على تقريب القارئ من كل هذه الموضوعات مقدما أكبر قدر من الآراء والآراء المضادة التي تناولت كل قضية متوقفًا عند التباينات القائمة بين المدارس الفكرية ونقاط الالتقاء وحدود تطبيقها على حالات دراسية.
والكتاب موزع على عشرة فصول ومقدمة ومحرر بأسلوب سلسل ويقدم لائحة مراجع بنهاية كل فصل لمن أراد البحث بشكل أكبر في قضية من القضايا.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عصام واعيس

تدقيق لغوي: سدرة الأصبحي

اترك تعليقا