ما تدينُ به أمريكا لفريدريك دوغلاس

بقلم ديفيد ويليام بلايت

إن لدى السودِ ثلاثُ أدوات: صوتهم وقلمهم وتصويتهم، ولكن هذه الأدوات تقبع اليوم تحت التهديد.

– فريدريك دوغلاس

ديفيد ويليام بلايت هو أستاذ التاريخ في جامعة ييل ومؤلف كتاب “فريدريك دوغلاس” : نبيُّ الحرية”. وفي مقدمة السيرة الذاتية الثانية لفريدريك دوغلاس تحت عنوان “عبوديتي وحريتي” المنشورة في عام 1855م، كتب صديقُه جيمس ماكون سميث أنّه إذا حلّ غريبٌ على أرض الولايات المتحدة وسعى وراء أبرز رجالها من خلال الصحف ورسائل التلغراف، سوف يكتشف دوغلاس.

وُلد فريدريك دوغلاسُ عبدًا في ولاية ماريلاند، وفرَّ متجهًا إلى الشمال ليصبحَ كاتبًا وخطيبًا مشهورًا بتأييده لمبدأ إلغاء العبودية. وقال سميث إنّ دوغلاس كان من الأشخاص الذين إذا سُئل عمّا يدور في خاطره وأجاب، “فقد أشعل ثورةً من بعده”.

تجنّب دوغلاس الانخراط في الحياة السياسية في مستهل مسيرته المهنية مُكرِّسًا جهده في السعي إلى تغيير القلوب والعقول من خلال الإقناع القائم على أساسٍ أخلاقيٍّ، ولكن سرعان ما انقلبت الأمور في العقد الذي سبق الحرب الأهلية؛ إذ أصبح دوغلاس سياسيًّا مناديًا بإلغاء العبودية والاسترقاق انطلاقًا من إيمانه بأنَّ إنهاء العبودية لن يتحقق إلا بالقوة. وفي نهاية السيرة الذاتية أقرّ دوغلاس بأنّه حتى ذلك الوقت قد حارب بقلمه ولسانه.

نرشح لك: قانون الحقوق المدنية خطوة نحو المساواة العرقية بموجب القانون

ولكن الآن في الخمسينيات من القرن التاسع عشر، وفي ظل الأزمات المتصاعدة بشأن العبودية، وعمليات إنقاذ العبيد الهاربين وحمايتهم، والمواجهات العنيفة في ولاية كانساس؛ بسبب شيوع العبودية وبسبب الفتنة التي أصابت الأمة متأثرةً برواية محاربة الرق “كوخ العم توم”.

وقد أعلن المؤلف عن تبنيه لاتجاهٍ جديد، وذلك لاكتشافه قوة السياسة في نطاق دولة تهيمن عليها العبودية. وقد تمنّى لو كان بإمكانه أن يضيف قصته الخاصة إلى تاريخ هذه البلاد المخطوط بالدم التي يحوم فوقها الرغدُ الغاضب والبرق.

إعلان

وبعد ذلك أطلق العنان لحياته العملية، فطالما أنّ الله قد منَّ عليه بالقدرة علي التعبير عن رأيه سواء بالحديث أو بالكتابة فسيظل يحارب ويدافع عن مبدئه بالمساواة و إبطال العبودية بالصوت والقلم والتصويت.

لطالما كانت حياة فريدريك دوغلاس محطَ اهتمامٍ وتقديٍر في التاريخ الأمريكيّ ولكن في ذلك الأسبوع تحديدًا تكاد لا تسمع عن أي شيءٍ سوى دوغلاس وحياته.

إنَّ كل الأمريكيين الذين يدلون بأصواتهم في أنحاء البلاد في هذا الوقت الراهن وخاصةً أولئك الذين أُحبِطت أصواتُهم وخُيِّبت آمالُهم من قِبَلِ أشخاصٍ ما زالوا يرفضون قبولَ الأحكام التاريخية التي تعود إلى قرن ونصف قرن من الزمان مدينون لدوغلاس بالإشادة والإقرار.

لم يكن للولايات المتحدة الامريكية نهجٌ واضحٌ للمضي قدمًا إثر الحرب الأهلية في الفترة الزمنية ما بين 1866-1867م، ولا زال الناسُ أجمعون سواء بيضًا كانوا أم سودًا، ومن الشمال أو من الجنوب في حداد على أرواح 700.000 قتيل، يواجهون انتخابات دون قواعد محددة وواضحة حول من يمكنه التصويت. ويعاني في الجنوب ما يقارب الأربعة ملايين ممن كانوا عبيدًا في السابق من الأذى الجسدي والعنف والتهديد من قِبل الإرهاب. فلم يعرف هؤلاء الناس معنىً للحرية ولا لأيٍّ من الحقوق السياسية والمدنية التي قد يمارسونها.

ولقد عانى الأمريكيون في سبيل توحيدهم مرة أخرى بطريقة جديدة، فقد هرب مئات الآلاف من بيوتهم في الحرب. ومزقت السياسة الأمة إلى أشلاء من الكراهية المولودة بالدم، وأصبحت فكرة الوحدة والاستقطاب ميؤوسًا منها. فكان من الضروري إعادة تشكيل الحكومات الوطنية وحكومات الولايات. وتجمهرت العنصرية والخوف وكذلك الأمل معًا في الوقت ذاته الذي كان فيه الجنود المصابون بالصدمة من كلا الجانبين في طريقهم نحو مزارعهم في الشمال المزدهر اقتصاديًا بينما كان الجنوب مُدمَّرًا تمامًا.

و كان الحزب الحاكم في واشنطن تحت قيادة مجموعة من الرؤساء الجمهوريين الراديكاليين الذين دافعوا عن قضية التحرير والعتق خلال الحرب، وقد كانوا يؤمنون بحكومةٍ اتحادية تدخُّليّة (من أنصار سياسة التدَخُّل) كوسيلة لتشكيل دولة أمريكية ثانية لتخطي الخراب الأول من الحرب و تصوروا -على الأقل في بدية الثورة- أنّ إمكانية تحقيق المساواة العرقية قد تحدث بالفعل.

و انتهت الحرب لكن يبدو أنّ كلَ شيء لا زال على المحك في عملية التجديد وإعادة الإعمار في حال كانت ممارسةُ الحق المجانية في إبداء الرأي والكتابة والتصويت محميةً للجميع.

كان الرئيس انديريو جونسون_وهو من ولاية تينيسين_ الذي دعي إلى بطاقة إبراهام لنكولن في عام 1864 وذلك لأنه كان السيناتور الوحيد من ولاية كونفدرالية الذي لم يستغنِ وينفصلْ عنها. و على الرغم من دعم جونسون للاتحاد فقد كان مؤيدًا قويًا لحقوق الولايات وداعمًا لفكرة تفوق البيض على الملونين ومؤمنًا بالحكومة الاتحادية الفيدرالية المحدودة.

وافق جونسون على نهاية الرق و العبودية كارهًا ذلك ومستنكرًا توسيع الحرية المدنية والسياسية لتشمل الأمريكيين السود. وما زالت روحه حية حتى الآن ولكن بطرق مريبة في ممارسات قمع الناخبين للحزب الجمهوري والرغبة في إبطال الجنسية المكتسبة بحكم الولادة.

و عند احتجاز جونسون والجمهورين المتطرفين قرونًا بسبب رؤىً مختلفة تمامًا عن إعادة الإعمار في شتاء عام 1866 قاد دوغلاس وفدًا مكونًا من 12 قائدًا من السود إلى البيت الأبيض. وعلى أمل الاستماع بصدق إلى آمالهم وتظلماتهم، تلقوا وابلًا من الانتقادات اللاذعة من عنصريّ غاضب كان يأمل في إحباط أي مراجعة للدستور تضمن حقوق السود.

أراد جونسون وأتباعه المحافظون القلقون أمريكا كما كانت من قبل في عام 1861، مجتمعًا يعتقد الكثير من الشماليين أنه قد دُفن بسبب التضحيات في أنتيتام وفورت واجنر وجيتيسبيرغ.

قاد فريدريك دوغلاس المواجهة بإخبار الرئيس بكل احترام بأنهم قد جاؤوا للمطالبة بـ “المساواة أمام القانون” وأن يكونوا “أحرارًا كليًّا يمارسون حقهم في التصويت في هذا البلد”. وقال دوغلاس متضرعًا “امنحونا حق الاقتراع حتى نحمي فيه أنفسنا”. فقاطع جونسون حديثه وألقى خطابًا قاسيًا وأهانَ فيه ضيوفه لمدة 40 دقيقة. و قد أعلن أنه كان على استعداد لأن يكون لهم بمثابة موسى، وأنَّه لطالما كانت “مشاعره” مع السود. وقال للوفد مؤكدًا “لقد امتلكتُ عبيدًا و اشتريتُ عبيدًا ولكنني لم أبع واحدًا منهم”.

فلم يرق له أن يُستدعى لهذه المواجهة وخصوصًا من قبل دوغلاس الذي يمكنه أن يبلغ مقصده بحنكة ويمكنه التعامل مع الناس عن طريق الإقناع بالخطابات البليغة. فعلم جونسون أن تحقيق مطلب ضيوفه (وفد دوغلاس) بتحقيق الحرية و المساواة سيؤدي في النهاية إلى حرب عِرقية، ولذلك أصّر على أنَّ الحل الوحيد النافع هو أن يغادر السودُ البلادَ.

نظر إليه دوغلاس بكل قرف و اشمئزاز. و أكدَّ جونسون في علاقته بالسود أنَّه كان عبدًا لهم بدلًا من كونهم عبيدًا ومِلكًا له.

وبعد ذلك دافع جونسون بقوة عن حقوق الولايات، كما أن الرئيس قد ادّعى أن الحكومة الفيدرالية لم تستطع إجبار الدولة على اتباع إملاءاتها. وبأنّه يجب أن يُطاع القانون وتُطاع الأغلبية.

وكما لو أن جونسون لم يُسئ إلى دوغلاس وزملائه بما فيه الكفاية، فقد أكّد على أنَّ الفقراء والبيض الذين لا يملكون عبيدًا هم الضحية الحقيقية للعبودية. وقال: “إن الرجل الزنجي وسيده متضامنان لإبقائه في العبودية”.

و مع انتهاء هذا اللقاء الكارثي، احتج فريدريك دوغلاس مباشرة في وجه جونسون، وقال له:

إن الحرب العرقية هي أكثر ما تتجنبه فخامتك: كما أنه في الولايات الجنوبية لا يمكن تجنب هذا النزاع إلا من خلال تطبيق ما قد اقترحناه ألا وهو السماح للسود بممارسة حقهم بالتصويت.

قد يعجبك أيضًا

ومع خروج وفد دوغلاس من ضيافة جونسون، سُمِعَ الرئيس قائلاً: “إن هؤلاء الملاعين يعتقدون أنهم قد وضعوني في مصيدة. وأنا على يقين تام بأن دوغلاس اللّعين مثله مثل أي زنجي آخر، سيقطعُ عنق أي رجل أبيض ما إن سنحت له الفرصة.

في أعقاب هذا الاجتماع الأسوأ على الإطلاق بين القادة السود والرئيس الأمريكي، فعل دوغلاس ما فعله كثير من القادة من قبل في خضم الأزمات فقد ذهب إلى مكتبه وكتب خطابًا مميزًا وألقاه على الملأ.

من بروكلين إلى سانت لويس، وجّه دوغلاس -الذي أطلق على خطابه “مصادر الخطر إلى الجمهورية“- انتقادًا لاذعًا وشديدًا لجونسون باعتباره “نكبة تامة للأمة” من كونه الرئيس الذي يتعين على الأمة الآن أن تتبعه وتطيعه.

وما بين الامتناع المستمر عن هذا الخطاب وغيره من خطابات ما بعد الحرب كان ادعاؤه قائمًا وينص على أن “العبودية لا تُلغى حتى يحصل الرجل الأسود على فرصته في الاقتراع“.

وقد ترك دوغلاس حكمةً لا حدود لها للجمهوريات في أوقات الأزمات التي تنص على أنَّه “قد تكون حكومتنا في وقت ما بين يديّ رجل فاسد ولكن كل شيء سيكون على ما يرام عندما تكون بين يدي رجل صالح. ولكن من واجبنا أيضًا أن نحافظ على أمن بلادنا حتى وإن كانت تحت حكم فاسد. وأكّدَ دوغلاس على أهمية السياسة وكادت أن تكون بمثابة الهواء الذي نتنفس.

و لا ينفك صدى كلمات فريدريك دوغلاس عن التردد إلى يومنا هذا.

فهل تعد مؤسساتنا كافية لمجابهة التحديات الناشئة من قِبَل رئيسٍ يعيش على مزيج من الحكم الاستبدادي المتسلط و الجهل؟ وهل يعد حق التصويت مجانيًّا و آمنًا تمامًا؟ وهل أحزابنا السياسية مفككة؟

وهل تعدّ صحافتنا الحرة قوية بما يكفي لتحمُّل الهجمات عليها والتكنولوجيا التي تُحدثُ ثورةً في نشر المعلومات؟

ونحن أيضًا في هذه الحظة من تاريخنا نُختبرُ بالسؤال نفسه الذي طرحه فريدريك دوغلاس عن الأشخاص الفاسدين والحكومة.

اقرأ أيضًا: وسائل التواصل الاجتماعي ما بين تنحية السلطة والوصول لها

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أحمد المسيري

ترجمة: دانيا قنديل

اترك تعليقا