طبيبات أندلسيات
في كل مرة يثار الحديث عن ” عالمات أندلسيات ” تقفز إلى أذهاننا أسماء شهيرات برزن في الشعر والأدب وكل ما يمت له بصلة، رغم أن العديد منهن كن عالمات موسوعات؛ بمعنى أنهن أجدن أكثر من مجال، فكن بارعات في الشعر كما الطب وعلوم أخرى، المعلوم أن الأندلسيين نالوا تقدما ملحوظا في علوم الطب واعتبر هذا العلم في مقدمة العلوم التطبيقية من حيث الاهتمام و العناية ووفرة الإنتاج العلمي في الأندلس.
لم يقتصر التميز في هذا المجال على الرجال فقط، فقد نبغ عدد غير قليل من النساء الأندلسيات فيه، حتى أن نساء الملوك كن في غنى عن الأطباء بالطبيبات [1]، ويذكر أن أخت الحفيد ابن زهر الأندلسي وابنتها كانتا تطببان نساء الحاجب المنصور بن أبي عامر [2]وأهله، وكان المنصور لا يقبل بأحد سواهما [3].
طب التوليد نموذجًا
عملت نساء المغرب و الأندلس في صناعة التوليد الذي يتمثل في استخراج المولود الآدمي من بطن أمه من الرفق في إخراجه من رحمها و تهيئة أسباب ذلك ” ، و قد عرفن باسم القابلات. [4]
وقد حرص الأطباء على تعليم القابلات طرق فحص النساء ومعالجتهن، ويستشف هذا من عبارة الرازي ” إذا رأيت احتباس الطمث، فقل للقابلة أن تجس عنق الرحم”. [5]
كما يذكر الونشريسي صاحب المعيار أن العجائز تحكمت في الطب التقليدي بواسطة وسائل الخاصة في تحديد النسل وتكاثره وقد أجاز لها الشرع الإسلامي ذلك في ” أن تجعل المرأة وقاية في رحمها تبطل الإنجاب عند الضرورة”، وأضاف: ” أن التجار كانوا يسقون الخدم عن إمساك الضمأ بالأدوية التي ترخيه فيبطل الحمل ” كما وجدت بمدن المغرب و الأندلس عارفات من النساء بهذه الأمور كن بمنزلة طبيبات بالتجربة و الممارسة، وكن يداوين العاقرات فينجبن ويلدن بفضل الله تعالى، وهكذا برهنت المرأة في المغرب و الأندلس على نجاحها في طب التوليد. [6]
ونذكر من بين الطبيبات الشهيرات اللواتي تركن صدى حتى بعد وفاتهن :
أم الحسن بنت أحمد بن عبد الله بن عبد المنعم أبي جعفر الطنجالي
تشير كتب التراجم إلى أن أم الحسن تلقت عن والدها حظا وافرا من تكوينها العلمي و خاصة صناعة الطب، فيما لا يعرف تاريخ مولدها أو وفاتها، عدا أنها عاشت خلال القرن الثامن الهجري.
وتنتمي أم الحسن لعائلة عريقة في مجال العلم و المعرفة اشتهرت بالجلسات العلمية في مختلف الميادين العلمية والأدبية ، فأبوها هو العالم المشهور أحمد بن عبد الله بن عبد المنعم أبي جعفر الطنجالي الذي يعتبر من أحد شيوخ لسان الدين بن الخطيب، وقد جاء إلى الأندلس قادما من المغرب، و ولي القضاء بلوشة [7]؛ المدينة العريقة التي أنجبت عددا من العلماء البارزين في مختلف المجالات، كما عُرف عن أبي جعفر إلمامه و اعتناؤه بصناعة الطب.
و هكذا ترعرعت بنت أحمد في أحضان الكتب و الحلقات العلمية، فأجادت قراءة القرآن بقواعده بصوت حسن رخيم، وشاركت أباها البحث في قضايا الطب، فكان لا يذخر عنها تدريجيا ولا سهما حتى نهض إدراكها وظهر في المعرفة حراكها ودرسها الطب ففهمت أغراضه وعلمت أسبابه وأعراضه. [8]
لم تكن أم الحسن بارعة في الطب وحده بل برزت في الشعر أيضا، فيصفها لنا ابن الخطيب بقوله ؛ هي ” ثالثة حمدة[9] وولادة[10] وفاضلة الأدب والمجاهدة تقلدت المحاسن من قبل ولادة. وولدت أبكار الأفكار قبل سن الولادة ” ثم يضيف عنها ” لما قدم أبوها من المغرب وحدَّثَ بخبرها المُغْرِب، توجَّه بعض الصُّدور إلى اختبارها، ومطالعة أخبارها، فاسْتَنْبل أغراضها واستحسنها، واستظرف واستطربَ لَسِنَهَا وسألها عن الخطِّ، وهو أكْسَدُ بضاعة جُلِبتْ وأشحُ درَّةٍ حُلِبَتْ فأنشدتْه من نظمها:
الخط ليس له في العلم فائدة وإنما هو تزين بقرطاس
والدرس سؤلي لا أبغي به بذلا بقدر علم الفتى يسمو على الناس” [11]
و من شعرها في غرض المدح :
إن قيل من الناس رب فضيلة حاز العلا والمجد منه أصيل
فأقول رضوان وحيد زمانه إن الزمان بمثله لبخيل
وصفها ابن الخطيب بأنها كانت ” نبيلة حسيبة ” وقد تركت وفاتها فراغا نظرا لمكانتها الكبيرة لدى الجميع.
أسرة بن زهر
رأينا فيما سبق، الدور البارز الذي لعبته الأندلسيات في مجال الطب ونبوغهن فيه، حتى أن نساء الملوك كن في غنى عن الأطباء بالطبيبات، والمعروف أن عدة عوائل أندلسية كانت تتوارث التخصص العلمي وظلت بارزة فيه لفترة طويلة من الزمن، نذكر منها عائلة ابن زهر التي تنتمي إليها شخصياتنا لهذه المقالة.
وعائلة ابن زهر، هي إحدى العائلات المخضرمة التي اشتهرت بالطب في مدينة إشبيلية بالأندلس، وعرف رجالها ونساؤها بصناع الطب في الفترة بين القرن الحادي عشر والثالث عشر ميلادي، وقد خدمت الدولتين المرابطية والموحدية، ولم تميز هذه العائلة بين ذكورها وإناثها، وتتلمذ أفراد هذه العائلة إناثا وذكورا على يد الطبيب المشهور ابن زهر، الذي استفاد أيضا من تجاربه ثلة من الأطباء الآخرين. فلا يمكن فصل الطب خلال ثلاثة قرون عن هذه العائلة بذكورها وإناثها، كمـا لا يمكن فصل المغرب عن الأندلس.
و إليكم بعضًا من أفراد العائلة الذين لمعت أسماؤهم في مجال الطب :
أبو مروان عبد الملك بن محمد بن زهر؛
كعادة علماء الأندلس في السعي لنيل العلوم والاستزادة من المعارف فقد شد رحاله إلى المشرق، فدخل القيروان ثم مصر وغيرها من أقطار المشرق، وتولى رئاسة الطب في بغداد[12] قبل أن يعود إلى وطنه ومسقط رأسه دانية، بلغت أخبار مهارته وسعة علمه مسامع الأمير مجاهد العامري ملك دانية، فسر لقدوم أبي مروان واستدعاه إلى بلاطه وبالغ في الاحتفاء به وإكرامه، وأحله مكانة عالية.
اشتهر عبد الملك بصناعة الطب في دانية ومنها انتشر ذكره إلى أقطار الأندلس، وبعد مدة رحل إلى مدينة إشبيلية وظل يعمل هناك حتى توفي سنة (470 هـ/ 1078م) [13]
أبو العلاء بن زهر
– المشهور عند الغربيين باسم (Avenzoar)-
هو أبو العلاء بن أبي مروان عبد الملك بن محمد بن مروان، فيلسوف طبيب أندلسي من أهل إشبيلية، نشأ في شرق الأندلس وسكن قرطبة. يعد ثالث سلالة الأطباء الإشبيليين المنحدرين من القبيلة العربية إياد[14] .
اشتغل أبو العلاء وهو صغير بصناعة الطب في أيام المعتضد بالله أبي عمرو عباد بن عباد صاحب إشبيلية، كما اشتغل بعلم الأدب .
كان ابن زهر في دولة المرابطين، فحظي في أيامهم ونال المنزلة الرفيعة والذكر الجميل، وقد عرف بعلاجاته المختارة التي دلت على قوته في صناعة الطب، واطلاعه على دقائقها، وكانت له نوادر في مداواة المرضى ومعرفة أحوالهم وما يجدون من ألم عندما يجس نبضهم.[15]
توفي سنة (525هـ/ 1131م) في قرطبة ثم حُمل إلى إشبيلية.
كان حافظا للقرآن، وسمع الحديث واشتغل بالأدب، وله موشحات مشهورة تغنى. لم يكن في زمانه أعلم منه في معرفة اللغة وصناعة الطب.
خدم الحفيد ابن زهر دولتين، ذلك أنه لحق بدولة المرابطين، واستمر في الخدمة في آخر دولتهم، ثم خدم دولة الموحدين.
ومنها:
أيها الساقي إليك المشتكى قد دعوناك وإن لم تسمع
وتجدر الإشارة إلى أنه توفي مسموما سنة 595هـ/1199م ، وأورد ابن أصيبعة في “عيون الأنباء” ؛ أن ” أبو زيد عبد الرحمن بن يوجان كان يعادي الحفيد ويحسده لما يرى من عظم حاله، وعلو منزلته وعلمه فاحتال عليه في سم صيره مع أحد العاملين عند الحفيد بن زهر ، فقدمه إلى الحفيد في بيض، وكانت معه بنت أخته، فلما أكلا منه ماتا، ولم ينفع علاج..” [16]
وقد أخبر الأستاذ عبد الهادي التازي: بأن الطبيب ابن زهر الحفيد دفن في روضة الأمراء، في حين لم يذكر أين دفنت الطبيبة ابن أخته، بل تعجب لعدم معرفة قبرها إلى الآن، وأضاف ” كنت أتصور أني سأقف على الأبيات الشعرية التي أوصى الحفيد أن تنقش على قبره ” والتي يقول فيها على ما يرويه ابن خلكان :[17]
تأمل بحقك يا واقفا ولاحظ مكانا دفعنا إليه
تراب الضريح على وجنتي كأني لم أمش يوما عليه
أدواي الأنام حذار المنون وها أنا ذا قد صرت رهنا لديه
طبيبات ابن زهر
لم تقتصر نوابغ هذه الأسرة وما قدموا للطب من إسهامات جليلة على الرجال فحسب، بل كان لنسائها أيضا دور فعال، فلقد خرّجت هذه العائلة طبيبتين ذاع صيتهما في الأرجاء..
أم عمر
أشهر طبيبة للقصر الموحدي، لا يُعلم اسمها، ولقبها ” أم عمر بنت الطبيب عبد الملك المعروف بأبي مروان”، وأخت الطبيب أبي بكر الملقب بالحفيدات .
ترعرعت أم عمر بين صفحات كتب أبيها، ونشأت بين أحضان الأسرة التي توارثت و تشعبت في الأمور الطبية في البيت بحضور الجد والأب والابن، فلا عجب أن تتعلم المهنة من أبيها كما تعلمها ابنه أبوبكر الطبيب الحفيد.
حظيت بمكانة متميزة عند أمراء الموحدين، فكانت تزور قصورهم وتنظر في علاج مرضى نسائهم وأطفالهم، وقد تستفتى في الطب لرجالهم، و قد عملت إلى جانب أخيها في دار المنصور أبي يوسف يعقوب بن يوسف الموحدي، وكانت عالمة بصناعة الطب والمداواة، ولها خبرة جيدة بما يتعلق بمداواة النساء كما سلف ذكره، فكانت تداوي نساء القصر وأطفاله، ولم يكن يقبل بقابلة غيرها لنسائه..
لم نستطع إيجاد معلومات أكثر عن حياتها مع الأسف غير كونها طبيبة البلاط الموحدي ولها بنت تدعى فاطمة وابن يدعى عمرو، كما أن تاريخ وفاتها مجهول أيضا.
فاطمة
هي ابنة الطبيبة السابقة الذكر، وحفيدة ابن زهر، تعلمت الطب من أمها وخالها ابن الحفيد، فصارت لها خبرة جيدة بما يتعلق بمداواة النساء، رافقت أمها منذ صغرها، وكانت تدخل معها إلى نساء المنصور الموحدي، ثم خلفت مكانها بعد وفاتها وقد حظيت الطبيبة بعناية خالها حيث كانت تلازمه في البلاط والمنزل، ولاشك أنها أخذت منه الشيء الكثير، وقرأت كتبه القيمة واتبعت توجيهاته.[18]
و توفيت فاطمة في نفس الوقت مع خالها الحفيد ابن زهر بعد تناولها للسم كما سلف ذكره.
كانت لـ”ابنتي زهر” رئاسة الطب النساء داخل القصر الملكي، وهذا يشير إلى ارتقاء شأن الطب والطبيبات في هذا العصر وما صاحبه من كثرة المؤلفات الطبية. لقد خلد التاريخ اسم ابن زهر، واستمرت عطاءات العائلة في مختلف الأزمنة رغم الصراعات السياسية التي عاصروها، وهذا إن دل على شاء فإنما يدل على أن اهتمام السلاطين بالعلم والعلماء لم يكن يتوقف تحت أي ظرف كان.
========================================
هوامش:
[1] سهى بعيون، إسهام العلماء المسلمين في العلوم في الأندلس، عصر ملوك الطوائف، ص 491
[2] أبو عامر محمد بن أبي عامر (327 – 392 هـ / 938 – 1002 م)، المشهور بلقب الحاجب المنصور حاجب الخلافة والحاكم الفعلي للخلافة الأموية في الأندلس في عهد الخليفة هشام المؤيد بالله
[3] الإنجازات العلمية للأطباء في الأندلس ص 303 نقلا عن العلوم الإسلامية ص 165
[5] الإنجازات العلمية للأطباء في الأندلس ، نقلا عن الموجز في تأريخ الطب، ج1 ص 151
[6] ذ. نبيلة عبد الشكور ، شهيرات الأندلس ص 22
[7] لوشة : بلدة تقع في جنوب إسبانيا على الحدود الغربية لمقاطعة غرناطة حاليا.
[8] لسان بن الخطيب، الإحاطة في أخبار غرناطة 1/237
[9] حمدة بنت زياد بن تقي و يقال لها على سبيل التمليح حمدة بنت المؤدب، من شاعرات غرناطة في عصر ملوك الطوائف، من أشهر شاعرات زمانها، وكان لها نصيب كبير من العلوم، لقبت بخنساء المغرب لأنها قالت شعرا في الرثاء وكانت من مجيدة فيه. ت 1204 م / 600 هـ.
[10] ولاّدة بنت المستكفي (994 – 1091م)، أميرة أندلسية وشاعرة عربية من بيت الخلافة الأموية في الأندلس، ابنة الخليفة المستكفي بالله. اشتهرت بالفصاحة والشعر، وكان لها مجلس مشهود في قرطبة يؤمه الأعيان والشعراء ليتحدثوا في شؤون الشعر والأدب بعد زوال الخلافة الأموية في الأندلس.
[11] لسان الدين ابن الخطيب ، الإحاطة في أخبار غرناطة 1/237
[12] المقري، نفح الطيب ج2/244
[13] دة. سهى بعيون، إسهام العلماء المسلمين في العلوم في الأندلس، ص 388
[14] المصدر السابق ص 389 نقلا عن “عيون الأنباء في طبقات الأطباء ” لاين أبي أصيبعة ص 517-518
[15] د. نهاد عباس زينل، الإنجازات العلمية للأطباء في الأندلس وأثرها على التطور الحضاري في أوروبا القرون الوسطى ص 254
[16] ابن أبي أصيبعة عيون الأنباء في طبقات الأطباء ” ص 521 (بتصرف )
[17] نبيلة عبد الشكور، شهيرات الأندلس ص 20
[18] المصدر السابق ص 19