شاعرات أندلسيات (2) حفصة بنت الحاج الركونية

حفصة الاندلسية تعد إحدى شواعر النساء الأندلسيات الشهيرات في القرن السادس الهجري، بل هي شاعرة غرناطة في وقتها على الإطلاق حباها الله مالا وجمالا، وشرفا ومكانة ” [1] ، يقول عنها المؤرخ الأندلسي الفذّ لسان الدين بن الخطيب ” أديبة أوانها، وشاعرة زمانها، فريدة الزمان في الحسن والظرف، والأدب واللوذعية “[2]

نسبها ومولدها

تنتسب حفصة إلى “ركانة” أو “ركونة” Requena وهي بلدة اندلسية تقع إلى الشرق من بلنسية [3] فيقال حفصة الركونية، وقد اختلف الباحثون في تحديد تاريخ ولادتها، فيرى “لويس دي جياكومو ” Louis Di Giocomo أنها ربما ولدت في حدود 530هـ / 1135م، ويشاركه الرأي د. الطاهر أحمد مكي أيضا.

يقول ابن دحية في كتابه ” المطرب من أشعار أهل المغرب؛ ” إنها من بشرات غرناطة ” كما ترجح المصادر على أن أسرة حفصة انتقلت إلى غرناطة قبل ولادتها، نظرا لاضطراب الأحوال الأمنية شرق الأندلس في أواخر عهد المرابطين. وتصنف من بين الأسر المعروفة ” بالحسب والأدب والمال”[4].

نشأتها وشبابها

عاصرت حفصة حقبة حرجة من تاريخ مدينة غرناطة، وهي فترة انتقال السلطة من المرابطين إلى الموحدين وما صاحبها من حروب وتوتر، ولم تستقر الأحوال فيها إلى في حدود سنة 566هـ، إثر تمكن الموحدين بسط سلطتهم عليها.[5] كانت حفصة في هذه الأثناء تبلغ حوالي العشرين من عمرها وبدأت شاعريتها بالتفتق والظهور في هذه الفترة، حيث تعرفت على شاب من من أسرة عريقة تقيم في قلعة بني يحصُب بالقرب من غرناطة، يدعى أحمد بن عبد الملك بن سعيد ويكنّى ” أبو جعفر”.

لم تذكر لنا المصادر كيف التقت شاعرتنا بأبي جعفر ولا تاريخ لقائهما، ويعلق الدكتور الطاهر المكي عن هذا قائلا ” ما أسهل أن يلتقي شاعر وشاعرة في مجتمع يطرب للشعر، ويجل الشعراء، ويهزه الإنشاد الجميل ” [6]

إعلان

نشأت بين أبي جعفر وحفصة علاقة حميمة أشبه بعلاقة ابن زيدون وولادة، واشتهرا بذلك حتى أصبحا حديث الناس في شوارع غرناطة ، وفي هذا الصدد يرى الريسوني أن حب حفصة لأبي جعفر كان من العوامل الفعالة في إبراز عملها الشعري إلى الوجود الأدبي إذ أن جانبه الأكبر تعبير عن حياتها العاطفية، وقد جاء معظمه في شكل مراسلات تبادلها الحبيبان.[7]

شعرها

المعلوم أن أبا جعفر كان شاعرا لبيبا، ووزيرا لحاكم غرناطة الموحدي؛ عثمان بن عبد المؤمن[8]، فلما تولى مهمته كتبت إليه تهنؤه بقولها :

رأستَ فَما زالَ العداة بظُلمهم……..وَعلمهم النامي يقولونَ لم رَأَس

وَهل منكرٌ أَن سادَ أهل زمانهِ………جموح إِلى العليا حرون عن الدَنَس

وتمضي الأيام ليتطور حبهما وتكثر اللقاءات بينهما، فيحكى أنها التقيا يوما في بستان ” حور مؤمل” بغرناطة، فلما  حان وقت انصراف كل منهما إلى حيث يقيم، أنشد  الوزير الشاعر هذه الأبيات وبعثها لحفصة- ذلك أن التراسل شعرا كان من عادتهما- :

رعى اللَه ليلا لم يُرع بمذمّم……..عشية وارانا بحور مؤمل

وقد خفقت من نحو نجد أريجةُ…..إذا نفحتُ جاءت بريا القرنفل

وغرد قمري على الدوح وانثنى…. قضيب من الريحان من فوق جدول

فأرسلت إليه مجيبة بأبيات تحمل في طياتها قلقا وخوفا جاء فيها:

لعمركَ ما سرّ الرياض بوصلنا…….ولكنّه أَبدى لنا الغلّ والحسَد

وَلا صفّق النهرُ اِرتياحاً لقربنا…..وَلا غرّد القمريّ إلّا لما وجد

فَلا تحسن الظنّ الّذي أنت أهله……فَما هو في كلّ المواطنِ بالرشَد

ما خلت هذا الأفق أبدى نجومهُ……لأمرٍ سوى كيما تكون لَنا رصَد

الجدير بالذكر أن حفصة في جرأتها في الهجوم على معاني الشوق والعشق فاقت أية شاعرة أخرى، وهي بذلك فاق غزلها بالرجل غزل الرجل بالنساء[9]، فكانت تزور أبا جعفر بغير موعد، والشاهد على هذا قول أبي جعفر[10]

” أقسم ما رأيت ولا سمعت مثل حفصة، ومن بعض ما أجعله دليلا على تصديق عزمي وبّر قسمي أني كنت يوما في منزلي مع من يجب أن يّحلى معه من الأجواد الكرام على راحة سمحت بها غفلات الأيام، فلم نشعر إلا بالباب يضرب، فخرجت جارية تنظر من الضارب، فوجدت امرأة، فقالت لها : ماذا تريدين، فقالت ادفعي إلى سيدك هذه الرقعة، فجاءت برقعة فيها :

زائر قد أتى بجيد غزال … طامع من محبه بالوصال

أتراكم بإذنكم مسعفيه … أم لكم شاغلٌ من الأشغال

ويكمل لنا صاحب الإحاطة ما حدث بعد هذا فيقول[11] :

” فلما وصلت الرقعة إليه، قال ورب الكعبة، ما صاحب هذه الرقعة إلا الرقيعة حفصة، ثم طلبت فلم توجد. فكتب إليها راغباً في الوصال والأنس الموصول:

أي شغل عن الحبيب يعوق … يا صاحباً قد آن منه الشروق

صل وواصل فأنت أشهى إلينا … من جميع المنى فكم ذا تشوق

بحياة الرضى يطيب صبوحٌ … عرفاً إن جفوتنا أو غبوق

لا وذل الهوى وعز التلاقي … واجتماع إليه عز الطريق

 

لم تكن خاتمة هذه العلاقة نهاية سعيدة، ذلك أن أمير غرناطة غار من أبي جعفر وحاول التقرب من حفصة لكن دون جدوى، فقد كان حاد الطباع ولم يكن يملك مؤهلات قد تبهر قلب شاعرة ثقيلة الوزن كحفصة، هكذا بدأت تتوتر علاقة الأمير مع وزيره وصارا يتحينان الفرصة ضد بعض. فمما يحكى أن أبا جعفر خرج ذات يوم في رحلة صيد مع أصدقائه، فكان مما أنشده تعريضًا بالأمير الموحدي:

 

فقُل لحريصٍ أن يراني مقيَّدًا … بخدمته لا يُجعلُ البازُ في القفص

وما كنتُ إلا طوع نفسي فهل أُرى … مُطيعا لمن عن شأو فخري قد نقص!

انتهى الأمر بأبى جعفر أن ائتمر مع أخيه وبعض أقاربه على الانضمام إلى أحد المتمردين شرق الأندلس يُسمى محمد بن مردنيش، ولحق أخوه وأقاربه بقلعتهم في بني يحصب. ولكنه جبن وتأخّر، ثم فرّ إلى مالقة، ليركب منها البحر إلى بلنسية، ولكن عمال السيد الموحدي اكتشفوا أمره وقبضوا عليه، فأمر بقتله، وكان مصرعه في جمادى الأولى سنة (559هـ/1164 م ) [12]

الرحيل من غرناطة

تأثرت حفصة بوفاة أبي جعفر ظا مقتله يشكل غصة لديها، فلبست السواد، وأعلنت الحداد، وشاع ذلك في غرناطة، حتى جاءها التهديد الصريح بالقتل إن هي استمرت على هذا النوح والبكاء، فقالت:

هدّدوني من أجل لبس الحدادِ … لحبيبٍ لي أردوْه بالحدادِ

رحم الله من يجودُ بدمعٍ … أو ينوحُ على قتيل الأعادِ

وسقته بمثلِ جودِ يديْه … حيث أضحى من البلادِ الغوادِ!

وعليه فقد رحلت إلى مراكش عاصمة الموحدين آنذاك، وقد تقدم بها العمر، فحظيت عند الأمراء هناك حتى استخدمها المنصور الموحدي لتعليم نسائهم، وظلت هناك حتى وفاتها 581 هـ[13]

المصادر

[1]   المقري، نفح الطيب، 5/310

[2]  الإحاطة في أخبار غرناطة 1/491

[3]  ياقوت الحموي، معجم البلدان، 3/63

[4]  المصدر السابق

[5]  ابن عذارى، البيان المغرب، قسم الموحدين، ص 111

[6]  دراسات أندلسية ص 93- 94

[7]  نبيلة عبد الشكور، شهيرات الأندلس، ص49

[8]  ابن الخطيب، الإحاطة في أخبار غرناطة 1/214

[9]  د. جاسم ياسين الدرويش، أعلام نساء الأندلس، نقلا عن الشعر النسوي الأندلسي ص164

[10]  د. مصطفى الشكعة، الأدب الأندلسي، موضوعاته وفنونه (بتصرف)

[11]  ابن الخطيب، الإحاطة في أخبار غرناطة 1/121

[12]  عبد الله عنان، دولة الإسلام في الأندلس 3/452

[13]  الإحاطة 1/494

في حالة أعجبك المقال، ربما ستعجبك مقالات أخرى، نرشح لك

حجر سليمان … تزيف التاريخ صناعة يهوديه

 

إعلان

اترك تعليقا