حساء القطة: تساؤلات وصور عن العالم الآخر

السريالية ليست موضوعًا غريبًا عن عالم الأنمي والمانغا، فهناك الكثير من الأعمال التي تحمل طابعًا سرياليًا غير مألوفٍ في أحداثها وموضوعاتها، وعند الحديث عن السريالية في عالم الأنمي والمانغا فإن السؤال الدائم الذي يطرحه المشاهد أو القارئ على نفسه بعد الانتهاء من مشاهدة الأنمي أو قراءة المانغا هو “هل فهمت ما حدث فعلًا؟”
من بين الكثير من أفلام ومسلسلات الأنمي التي يمكن القول عنها أنها “عميقة”، بحسب التعبير الذي يحب الكثير من متابعي الفنون البصرية إطلاقه على أفلامهم ومسلسلاتهم المفضلة، فإن “حساء القطة” لا يمتلك شهرةً كأحد تلك الأفلام، رغم أنه بلا شك يستحق شهرة أكبر بكثير مما يمتلك، على الأقل بين محبي الأفلام “العميقة”.

بدايةً فإن حساء القطة ليس فيلمًا بالمعنى التقني للمصطلح، فهو في الواقع مجرد “OVA” صدرت في عام 2001، مقتبسة عن سلسلة مانغا بنفس الاسم كتبتها الرسامة وكاتبة المانغا اليابانية “تشيومي هاشيغوتشي” والتي اشتهرت باسمها الفني “القطة”، ومصطلح “OVA” هو اختصار لـ Original Video Animation، وهي عبارة عن حلقات أو أفلام الأنمي التي تصدر على صيغة أقراص DVD أو بلوراي أو غيرها دون أن يتم عرضها عبر شاشات التلفزيون أو السينما، ولعل ذلك أحد الأسباب المساهمة في عدم حصول حساء القطة على شهرة كبيرة في مجتمع الأنمي.

الفيلم الذي يمتد لمدة 30 دقيقة يحكي -كما هو الحال في المصدر الأصلي- قصة القطة الصغيرة “نياكو” وشقيقها الأصغر “نياتا”، وللوهلة الأولى يبدو وكأن حساء القطة ليس سوى فيلمًا لطيفًا عن مشاكسة القطط التي تعيش حياة شبيهة بحياة البشر، لكنه سرعان ما يدفع بمشاهده إلى الحافة، إلى العالم الآخر!

ما الذي يحصل حقًا في حساء القطة ؟

أحد أهم ميزات الأفلام التي تشبه حساء القطة أنها أفلام لا يمكن حرق أحداثها، وهو ما يجعل النقاش أو الحديث عنها بعيدًا عن فوبيا “السبويلرز” التي نعيشها اليوم، فالأهم عند مشاهدة هذا الفيلم ليس تتبع أحداثه ومجرياتها بل محاولة فهم الفكرة والإسقاطات والرسائل التي يحاول إيصالها لك.

هل فهمت حساء القطة فعلًا؟ لا أعلم!

لكن في نهاية الأمر فإن الفن وتفسيره هو أمرٌ خاضعٌ لكل متلقٍ على حدى، وكما هو الحال في كل لوحة فنية أو مقطوعة موسيقية أو فيلم سينمائي فقد تجد عشرة تفسيرات مختلفة لعشرة متلقين، وهو أجمل ما يصنعه الفن بمختلف أشكاله؛ إيصال المشاعر المختلفة لمن يتلقونه.

إعلان

الموت هو محور فيلم حساء القطة، فأحد القطتين تموت في بداية الفيلم، الأخ الأصغر غرقًا، أو الأخت الكبرى جراء الحمى والمرض، أو كلاهما، أو لا أحد! الأمر يعود لتفسيرك أنت لأحداث الفيلم، فالأخ الصغير يخرج من حوض الماء فيما بعد، والأخت تنهض من فراشها كذلك، لكنها لا تحمل سوى نصف روح انتشلها شقيقها الحي أو الميت من ملك الموت، ونصف وعي يجعلها شبه مخدرة طوال أحداث الفيلم ويرمي بعاتق كل شيء على القط الصغير، بشكل أو آخر ستذهب الشخصيتان في رحلة سريالية مرعبة ومذهلة عبر العالم الآخر، حيث ستشاهدان الحياة والموت والزمن وتبحثان عن نصف الروح الأخرى، ووردة تحدث عنها ملك الموت قائلًا إنها تحمل نصف الروح تلك.

رحلةٌ تبدأ بلا مقدمات داخل سيرك، العالم والخلق في حساء القطة يبدو كالسيرك تمامًا، فالله أو الخالق هو الساحر والصانع والمبدع، والبشر والقطط هم مجرد متفرجون مشدوهون بروعة ما يصنعه، كل ما يحتاجه هي كلمة تخرج من فمه ليخلق كائناتٍ وبحارًا وجبالًا، وأمام القطتين الصغيرتين سيأتي الساحر بمُساعِدة جميلة ويقطّع جسدها ليتناثر الدم في كل مكان، ثم بلمسة سحرية سيعيدها للحياة بكل جمالها السابق، أليست أحداث السيرك هي نفسها الروايات الدينية عن الولادة والموت ومن ثم الإحياء من جديد؟

الساحر المبدع سيخلق فيلًا ذهبيًا وسمكة بحسب طلب المتفرجين، في إشارةٍ واضحة للديانتين الهندوسية والمسيحية، لكنه لا يصنع ذلك إلا بطلبٍ من الحضور، فكل منهم يطلب ما يريده، وربما هذا كل ما تريد الكاتبة “القطة” إيصاله من مشهد السيرك، مجرد سؤال بسيط ومشروع؛ هل جاءت الأديان فعلًا من الخالق أم أنها مجرد تجسيد لما أردناه نحن منذ البداية؟

الطوفان وغرق العالم ينال بدوره حيزًا هامًا من الفيلم، فالبشر أنفسهم سيموتون جميعًا بالطوفان، ذلك السيرك الرائع الذي أخذ بألباب البشر سيُدمَّر في لحظةٍ واحدة، ولا أحد سيدمره سوى من صنعه. القطتان تعيشان مغامرة لا مثيل لها داخل سؤال كبير آخر يعصف بذهن كاتبة الفيلم والبشرية منذ زمن طويل؛ لمَ سيُدمِّر الساحر كل الروائع التي خلقها؟

لكن البشر ليسوا شديدي البراءة أيضًا، فخلال المغامرة العاصفة التي تمر بها القطتان، سنشاهد نموذجًا مرعبًا للبشر، أو ربما صورة للبشر على حقيقتهم، وكل ما يحتاج الفيلم فعله هو رسم مشهد يعود فيه الزمن للوراء ليستعرض لنا خلال ثوانٍ كمية الفظائع التي ارتكبها البشر بحق أنفسهم والحياة ككل، ويدعنا أمام تساؤل آخر؛ ألا تبدو الحياة على عدميتها أفضل حينما يختفي البشر من الوجود؟

الفيلم لا يُغرِق في العدمية كذلك، فالأمل موجود دائمًا، حتى لو كان على شكلٍ غريب جدًا، كأن تجد فيلًا مصنوعًا من الماء في قلب الصحراء، القطتان الصغيرتان تتمسّكان بالأمل طوال الطريق القاحل، وتشقّان غمار بحر لا متناهٍ بحثًا عن أملٍ قد لا يكون موجودًا، وعلى الرغم من الطابع السوداوي المخيف الذي يصبغ أحداث وأفكار الفيلم إلا أنه لا يخلو من جمالٍ غريب وغير مفهوم.

القط الصغير سيجد مع الوقت الوردة ويعيد أخته لوعيها الكامل، والطوفان سينحسر لتجلس القطتان مع العائلة على العشاء في مشهدٍ دافئ، هناك ستجدان السلام، سلامٌ يحتاجه الموتى والأحياء على حدٍ سواء، لكن أفراد العائلة سيختفون واحدًا تلو الآخر، لنعود للسؤال الأول منذ بداية الفيلم؛ هل مات القط الصغير وأخته أم لا؟ أم أن الآخرين الذين نحبهم يموتون كذلك بأشكالٍ مختلفة عندما نموت؟ وهل هناك أهمية للأمر أمام حقيقة أننا لا نعلم الحدود بين الموت والحياة والهدف منهما؟

يمكن اعتبار حساء القطة فيلمًا غريبًا بلا معنى، أو فيلمًا مليئًا بالمعاني والرسائل، أو ربما فيلمًا لا يريد فعل شيءٍ سوى طرح الأسئلة حول الموت والحياة والوجود ككل، ليس بالضرورة أن يكون لكل شيءٍ معنى، كما لا يمكن تفسير جميع الأحلام، ويمكنك التعامل مع حساء القطة على أنه حلم سريالي يحكي بصمت عن كل شيء ولا شيء في آن واحد.

مهما كان الهدف من هذا الفيلم فإنه يثبت نقطة واحدة هامة جدًا، وهي أنك لست بحاجة لحوارات طويلة مليئة بالرموز والعمق المصطنع لتصنع فيلمًا عن الحياة والموت والوجود، ولست بحاجة لساعات طويلة من الحلقات لتجبر المشاهد على التفكير لساعات وخلق تفسيراته الخاصة لما رآه، في بعض الأحيان كل ما تحتاجه هو قطتان صغيرتان صامتتان بتعابير وجهٍ بلهاء!

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: وائل قرصيفي

تدقيق لغوي: سلمى الحبشي

الصورة: مريم

اترك تعليقا