تونس: بين النموذج الأتاتوركي والعلمانية الأوروبية

هل تصير تونس علمانية؟

في الآونة الأخيرة، تكاثرت الأحاديث عن تونس وقوانينها في الأحوال المدنية بعد أن أقرّ البرلمان التونسي قانونًا جديدًا ينص على مساواة المرأة في المواريث مع الرجل، وهذا ما يتخالف مع ما أقرته الشريعة الإسلامية التي تنص على أن “للرّجل مثل حظ الأنثيين”، وتبع هذا الإعلان بعض الوقفات الاحتجاجية في الشارع التونسي من الحركات الإسلامية الرافضة للقوانين المدنية والمتمسكة بالشريعة الإسلامية كمرجعية أساسية لسن القوانين، ولكن هل هذا التحول في القوانين المدنية يُعدّ بداية إشعال شرارة تحول تونس إلى دولة علمانية؟

ما هي العلمانية؟

كثيرًا ما تؤخذ العلمانية بمفهومها الشعبوي على نحو خاطئ باعتبارها دعوة للانحلال والفساد الاجتماعي وتغييب سلطة الأسرة وقيمها، ولكن العلمانية بمفهومها العميق تُعدّ أكثر بكثير من مجرد بعض المصطلحات الرنانة مثل المساواة والعدالة الاجتماعية والإخاء.. الخ من القيم المرتبطة ظاهريًا بالعلمانية.

ولكن من أجل أن نُعرّف العلمانية، علينا أن نقوم بتعريف المنشأ وهو بالطبع الليبرالية؛ الليبرالية هي نظرة شاملة للإنسان وللتحديات والأزمات التي يواجهها داخل إطار المجتمع الذي عليه أن يحتك به، نظرة ترى الإنسان على أنه كيان مستقل بذاته متمايز عن محيطه، بالإضافه لكونه كيانًا مسؤولًا أتمّ المسؤولية عن قراراته وأفعاله وكل ما يخص تعاملاته مع الآخرين داخل إطار مجتمعه، لذلك تعطي الليبرالية الأحقية للإنسان لفعل ما يراه مناسبًا له طالما لن ينتج عن هذا الفعل ضررًا مباشرًا على أفراد المجتمع المحيط دون النظر إلى مدى رضى أفراد المجتمع عن هذا الفعل استنادًا إلى خلفياتهم العقائدية أو المعرفية.

إجمالًا، العلمانية هي فكر حداثي يرى المجتمع بشكل ديالكتيكي بكونه مجموعة من المتناقضات المتصارعة وعليه أن ينظّمهم في إطار مجتمع يحترم الجميع ويعطي الجميع حقوقه على أساس معياري واحد ثابت لا يتغير وهو رؤية الإنسان كإنسان فقط دون النظر لأي ارتباطات أخرى.

النموذج الأتاتوركي:

إعلان

قبل صعود مصطفى كمال أتاتورك ( 1883 – 1938 )، الذي يلقب بأبو الأتراك، إلى سُدّة الحكم في تركيا كان النظام الحاكم آنذاك هو نظام الخلافة. كانت عائلة آل عثمان هي التي تتوارث مقاليد السلطة في تركيا، وكان النظام السائد هو نظام الحكم الديني طبقًا لما تقرّه الشريعة الإسلامية.

إبان الحرب العالمية الأولى ( 1914 – 1918 ) والتي انتهت بهزيمة جيوش الإمبراطوية العثمانية على يد قوات الحلفاء ودخول القوات الفرنسية والبريطانية إلى مدينة اسطنبول -عاصمة الخلافة العثمانية- وإعلان احتلالهما لها، قامت حركة التحرير التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك والتي استطاعت أن تعقد اتفاقية “لوزان” مع الدول المحتلة والتي تقرّ على انسحاب القوات الفرنسية والبريطانية من الأراضي العثمانية.

تبع ذلك تولّي مصطفى كمال أتاتورك مقاليد الحكم في تركيا، وإعلانه حل نظام الخلافة وقيام تركيا الحديثة وسنّ القوانين على مرجعيات مدنية، فقام بإلغاء القوانين القديمة ذات المرجعية الإسلامية وسنّ دستور جديد مستوحى بشكل كبير من الدستور السويسري، وقام بإغلاق المدارس الدينية وإلغاء الألقاب والأزياء التي ترمز للثقافة الإسلامية وقام أيضًا بإلغاء استخدام اللغة العربية واستبدالها باللاتينية في خطوة لعزل تركيا عن كل ما يربطها بالشرق العربي، ثم اتجه للمرأة وقام بثورة تصحيح لوضع المرأة في المجتمع التركي فأخرجها من الوسط الذي اعتادت أن تتواجد فيه وهو النطاق الأسري والعائلي وأشركها في الحياة المجتمعية وسوق العمل.

وهكذا، بين ليلة وضحاها، وجد المجتمع التركي نفسه أمام قوانين جديدة سنتها الدولة بقوة السلطة المعطاة لها دول تدخل الشعب أو اشتراكه في حركة التغيير تلك من أي نوع، فكان صعبًا على الوعي المجتمعي أن يتقبل كل تلك التغييرات وأن يتعامل معها بشكل طبيعي، فبالرغم من تقبل المواطنين الأتراك للقوانين الجديدة ولاتجاهات الدولة الجديدة التي فُرضت عليهم بشكل ظاهري، لم يتقبلوها بشكل عميق داخل وعيهم، كانت دائمًا تُشكّل قوانين لم يختاروها بأنفسهم، لم يشعروا بالحاجة الماسة لها، لم يعلموا قيمتها الحقيقية ولم يختبروا عواقب نقيضاتها.

هذا ما نراه مُتجليًا في ما حدث بعد تولي حزب العدالة والتنمية التركي ذو المرجعية الإسلامية مقاليد السلطة في تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان، أي أنّ بعد ما يقارب من مائة عام على قيام دولة تركيا العلمانية أعاد الشعب التركي مرة أخرى انتخاب سلطة ذات مرجعية دينية، وهذا إن دل ّعلى شيء فإنه يدل على عدم قدرة نموذج “التغير الفوقي” الأتاتوركي على تغيير ثقافة المجتمع التركي ولا التأثير في وعيه الجمعي، ولن أكون متحاملًا على النموذج الأتاتوركي لأنه نجح على الأقل في تحريك المياه الراكدة وإعمال العقل التركي وإحياء المجتمع المدني بشكل يتفوق على كل الدول الإسلامية الأخرى، وهذا ما يجعل ذلك النوع من التغيير له بعض الفوائد ولكن من نتائجه التي نراها إلى نرى يمكننا أن نقول أنه لم ينجح فيما سعى إليه من البداية أي مبتغاه النهائي وهو تحويل تركيا لدولة علمانية، ولن أقول فشل، يكفي استخدام عبارة “لم ينجح”.

العلمانية الأوروبية:

على نحو مغاير تمامًا، نرى العلمانية في أوروبا وكيفية تطورها وصعودها وجلوسها على عرش العقل الأوروبي وليس فقط كمجرد قانون تسنّه السلطة وعلى المواطنين السمع والطاعة، فكانت العلمانية في أوروبا نتيجة لحروب ونزاعات طويلة استمرّت ربما لقرون بين السلطة الدينية الحاكمة وبين حركات التنوير التي نشأت في أوروبا بداية من القرن السادس عشر الميلادي، والتي وصلت إلى أوجها مع اندلاع الثورة الفرنسية (1789 – 1799) التي تُعدّ من أهم الأحداث في تاريخ الإنسانية، إن لم تكن أهمها على الإطلاق، والتي ثارت على سلطة بوابات الكنيسة المدعومة من الملوك والأباطرة فكان شعار الثورة الفرنسية:

“اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر رجل دين”

وعلينا أيضًا ألا نغفل دور حركة النهضة الصناعية في أوروبا التي أسهمت بشكل كبير في عملية أفول العقل الديني للمواطن الأوروبي بشكل غير مباشر من خلال إظهار أن الإنسان باستطاعته خلق معدات وآلات تعمل بالنيابة عنه، ومن خلال فتح آفاق جديدة لحدود وإمكانيات العقل، فبعد أن كانت حركة التنوير تعمل من خلال الأفكار والفلسفات التي يصعب على المواطن العادي الالتحاق بها، بدأت تظهر نتائجها بشكل عملي أمام العيان، فظهرت نتائج إعمال العقل وشعر المواطن الأوروبي بتأثيرها المباشر على حياته اليومية.. ومن هنا كان تأثير حركة النهضة الصناعية على حركة التنوير الأوروبية.

من خلال كلّ هذا ترسخت مبادئ العلمانية في العقل الأوروبي كجزء لا يتجزأ من هويته كإنسان قبل هويته كأوروبي. برؤية هيجلية، يمكننا أن نقول أنّ مرور المجتمعات الأوروبية بكل تلك الأحداث في صراع جدلي بين متناقضات هو ما مهّد الطريق إلى وصول أوروبا لما هي عليه الآن من مجتمعات تقبل التعددية وتتقبل الآخر في جوهر فهمها للحقوق والحريات، وهذا ما جعل من الصعب تغيير تلك التركيبة المجتمعية حتى من خلال مرورها بأزمات تدفعها إلى اللجوء إلى النقيض.

على سبيل المثال، نرى في السنوات القليلة الماضية العديد من الهجمات الإرهابية التي اجتاحت أهم العواصم والمدن الأوروبية، فبدأت الأحزاب اليمينية المتطرفة في استغلال تلك الأحداث في القيام ببروبجاندا لأيديولوجيتها، ولكن مع ذلك لم تلقَ تلك الأحزاب قبولًا من الشارع الأوروبي، وإن كانت صعدت قليلًا في بعض البرلمانات الأوروبية ولكن كان صعودًا ضئيلًا مقارنة بحجم البروبجاندا التي قاموا بها، ومن خلال هذا يمكننا أن نرى موقف العقل الأوروبي من قيم العلمانية باعتبارها جزءًا من الهوية لا يمكن التنازل عنه بأي حال من الأحوال حتى وإن تم استغلال العلمانية في الإضرار بمبادئ العلمانية ذاتها، وهذا ما دفع الفيلسوف الفرنسي الذي يحسب على اليمين “ميشيل أونفري” إلى القول أن الحضارة الأوروبية وصلت إلى حالة من العدمية لأنها أصبحت تقدس مبادئها بشكل يرفع الأيديولجية على الإنسان وهذا ما ندّد به أونفري بمنتهى القسوة حتى أنه ذهب إلى أن الحضارة الأوروبية تتجه إلى الزوال إذا استمرت على ذلك المنوال.

تونس كنموذج عربي:

تلك القرارات الأخيرة لم تكن بالجديدة على المجتمع التونسي، فتونس هي الدولة ذات الأغلبية الإسلامية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط التي قطعت شوطًا كبيرًا في مجالات حقوق الإنسان ومدنية المجتمع، فهي الدولة ذات الأغلبية الإسلامية الوحيدة التي منعت تعدد الزوجات في وقت مبكر جدًا عام 1956 متفوقة حتى على تركيا -الدولة التي تعرّف نفسها على أنها دولة علمانية بشكل صريح- ولكن هل ساعدت تلك القوانين على تحويل مسار تونس إلى مسار الدول العلمانية؟

لا يمكننا استحضار النموذج التركي في تلك الحالة لأن هناك اختلافات عديدة بين الحالتين أهمها طول المدة التي تمت فيها عملية سن القوانين: ففي الحالة التركية سُنّت القوانين فورًا بمجرد صعود أتاتورك إلى سُدّة الحكم بشكل منفصل عن الشعب، ولكن في تونس بدأ سن القوانين على مرجعية مدنية من خمسينيات القرن الماضي، وإلى الآن لم تتوقف تلك الحركة المدنية في التغيير رويدًا رويدًا وباشتراك البرلمان في أحيان كثيرة.. آخرها موافقة البرلمان التونسي بأغلبية الأصوات على قانون الأحوال المدنية. إذًا هناك اختلاف بين الحالتين.

وأيضًا لا يمكننا استحضار النموذج الأوروبي لأن الشعب التونسي لم يمر بكل تلك الصراعات على مدار قرون مثل نظيره الأوروبي. ولكن هل يجب أصلًا على المواطن العربي أن يمرّ بتلك الصراعات حتى يصل إلى العلمانية كنتيجة ضرورية لصراع المتناقضات؟ يمكنني القول إنه كما عرفنا دائمًا أن التاريخ يعيد نفسه، ولكن ليس من الإنصاف أن ننتظر أن يمرّ المجتمع العربي بتلك الصراعات على نفس الهيئة التي مر بها نظيره الأوروبي. التاريخ يعيد إنتاج نفسه ولكن عن طريق آليات جديدة. حركة التاريخ الديالكتيكية تلك كما صاغها هيجل هي حركة ميكانيكية تنتج أفكارًا جديدة دائمًا ولكن ليس من خلال نفس الآليات في كل مرة، فإن كان المجتمع الأوروبي مرّ بعصور ظلامية بين الفقر والخرافة وهو عالق بين مطرقة الأباطرة الطغاة وسندان البابوات المرائين، ليس من المنتظر أن يمرّ المجتمع العربي بمثل تلك الظروف لاختلاف المعطيات التي تغيرت بالطبع بسبب تغير الزمن، ولكن تلك الصراعات هي تدور بالفعل بشكل مغاير وبصورة أسرع مما سبق بسبب العولمة والأساليب التكنولوجية الحديثة.

الصراعات التي تتمثل في الثورات المسماة بالربيع العربي التي اجتاحت العديد من الدول العربية في السنوات الأخيرة، حتى وإن لم تلقَ تلك الثورات نجاحًا فيما رمت إليه بل وذهبت بعض الآراء إلى فشلها، ولكن ما أراه أن تلك الثورات كانت محركًا أساسيًا للكثير من الحركات السياسية والثقافية في البلدان العربية والتي كانت في غياب تام وفي حالة شلل عقلي قبل قيام تلك الثورات، تلك الثورات ستمثل مستقبلًا نقطة البداية التي تبدأ من عندها حقبة جديدة في تاريخ الشرق الأوسط. ربما بالغت في التفاؤل، وربما لا، هذا في النهاية سيتضح مع الوقت، الوقت يكشف كل شيء.
وفي الختام أود أن أذكر مقولة للأديب الألماني الشهير “يوهان جوته” الذي قال:

“مَن لا يتعلم من دروس الثلاثة آلاف سنة الأخيرة، يبقى في العتمة”

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: مايكل ماهر

اترك تعليقا