تجربة علميّة رائدة: العلماء ينجحون في توليد مادة من اللّا مادة عبر محاكاة الفيزياء الكونيّة
◾أعلن فريقٌ من علماء الفيزياء أنهم نجحوا في إثبات صحّة إحدى نظريات الفيزياء الكمية التي ظهرت منذ سبعين عامًا حول إمكانية توليد «مادة» من «اللا مادة».
حيث نجحت التجربة التي أجراها فريق بحثيّ من جامعة «مانشيستر – Manchester» في يناير الماضي لدراسة تدفق الإلكترونات «منخفضة التكافؤ»، عن طريق الصدفة، في إنتاج أزواج من «الجسيمات والجسيمات المضادة» من الفراغ الكمي، أي من اللا مادة، فقط باستخدام مجال كهربائيّ والخصائص المذهلة لمادة «الجرافين-Graphene»* ثنائية الأبعاد.
وكانت النظريات السابقة تؤكد أن مثل هذه العملية لا يمكن أن تحدث إلا في بيئات فائقة الطاقة مثل محيط الثقب الأسود أو مركز نجم نيوتروني.
ومع ذلك فقد تمكن علماء «مانشيستر» من إجراء تلك التجربة الرائدة باستخدام المعدّات العادية في المختبرات.
نظرية «تأثير شوينجر – SCHWINGER Effect»منذ أكثر من خمسين عامًا:
في الفيزياء، توجد حالات بعينها يمكن فيها التلاعب بالجسيمات الفردية لخلق جسيمات إضافية تبدو وكأنها انبثقت من لا شيء، فعلى سبيل المثال، إذا أخذت الجسيم الكمومي المعروف ب«ميزون-Meson»** وحاولت انتزاع «الكوارك-Quark»*** الخاص به، فسوف يؤدي ذلك إلى ظهور مجموعة جديدة من أزواج الجسيمات والجسيمات المضادة تنبعث من الفراغ. ومع ذلك فإن تلك الحالة تتضمن البدء من «شيء» ألا وهو الميزون، ومن خلالهِ يتم خلق المزيد من «الأشياء».
بالعودة إلى عام 1951، اقترح عالم الفيزياء «جوليان شوينجر—Julian Schwinger» (أحد مؤسسي علم الكهروديناميكا الكمية، والحائز على جائزة نوبل عام 1964) أن خلق المادة من الفراغ قد يكون ممكنًا، حتى لو لم تكن ثمّة مادة موجودة للبدء منها، طالما كان بإمكانك إحداث اضطراب في ذلك الفراغ بواسطة مجال كهربائيّ قويّ بما يكفي لذلك. ومنذ ذلك الحين، عُرف هذا المفهوم النظري باسم «تأثير شوينجر-SCHWINGER Effect». والآن، استطاع فريق من الباحثين إثبات أن هذا التأثير حقيقي من خلال خلق «شيء» من «لا شيء محض» (أي توليد مادة من الفراغ المحض دون وجود أي مادة).
لا شيء من اللا شيء يعني لا شيء، ما لم يكن لديك مجال كهربائي قوي:
يقول «إيثان سيجل-Ethan Siegel» من «Big Think»، شارحًا ذلك السبق الفيزيائي الأخير: «في هذا الكون الذي نحيا فيه، من المستحيل حقا أن تخلق لا شيء بأي طريقة. فكل شيء موجود، في أبسط مستوياته الأساسية، يمكن تفكيكه حتى تصل به إلى أصغر جسيماته الكميّة بحيث لا يمكن تفكيكه أو تقسيمه إلى ما هو أصغر من ذلك. تلك الجسيمات تتضمن الكوارك والإلكترونات ، و«الميون» و«التوس»، والنيوترونات، وكذلك جميع نظائرها من «المادة المضادة- Antimatter»، بالإضافة إلى «الفوتونات والجلوونات والبوزونات الثقيلة: W + و W- و Z0 و الهيجز» ومع ذلك ، إذا قمت بحذفهم جميعًا، فإن المساحة الفارغة أو الفراغ المتبقي ليس فارغًا تماما».
وبالتالي فإن ما يتبقى هو المجال الكميّ والطاقة العامة التي تتخلّل الكون بأكمله. فإذا قمنا، -وفقًا لنظرية شوينجر-، بتطبيق مجالٍ كهربائيٍّ ضخمٍ بما يكفي على منطقة الفراغ التام، فإن المجال الكمي للفراغ سوف يستولي على بعض من هذه الطاقة الكهربائية مولِّدًا أزواجًا من الجسيمات والجسيمات المضادة من الفراغ.
بالعودة إلى تجربة جامعة مانشيستر في يناير الماضي، كان العلماء يعكفون على تجربة تدفق الإلكترونات منخفضة التكافؤ، محاولين دمج كافة فئات الإلكترونات في عملية التدفق باستخدام مادة الجرافين -وهي عبارة عن مادة ثنائية الأبعاد بطبيعتها- حيث يساعد تكوينها الفريد على الحد من المسارات التي قد تتّخذها الجسيمات الأولية مثل الإلكترون، على أمل أن يؤدي ذلك إلى إحداث تدفق منتظم للإلكترونات في حال تم ضخ الكمية الصحيحة من الطاقة الكهربائية إلى النظام.
ومع ذلك، وبمجرد أن شرع الفريق في إجراء تجاربه، حدث شيء غير متوقع.
وفقًا لما ورد في إصدار حديث عن جامعة مانشيستر: « قام العلماء بملء الفراغ المحاكى بالإلكترونات، وقاموا بتسريعها إلى أقصى سرعة يسمح بها فراغ الجرافين، وتبلغ 1/300 من سرعة الضوء. وعند هذه النقطة، حدث شيء يبدو مستحيلًا، حيث بدت الإلكترونات وكأنها قد باتت فائقة الضياء بما يوفر تيارًا كهربائيًا أعلى مما تسمح به القواعد العامة لفيزياء المادة الكمية المكثفة. وقد تم تفسير أصل هذا التأثير بأنه توليد تلقائي لحاملات شحنات إضافية (ثقوب).»وقد جاءت هذه النتيجة غير متوقعة نوعاً ما: إنتاج نظير من أزواج «الإلكترون-Electron» و«البوزيترون-Positron»**** من الفراغ. في الواقع ، كان هذا المجال الكهربائي على المستوى المعمليّ قويًا بما يكفي لإنشاء شيء فعلي من اللا شيء المحض.
وقد كتب الباحثون في ورقتهم العلمية المنشورة: «إن الخصائص الأساسية لحالة الخروج عن التوازن تتمثل في خصائص التيار-الجهد، والتي تشبه خصائص الموصلات الفائقة والقمم الحادة في المقاومة التفاضلية، وعكس «تأثير هول- Hall Effect»*****، والشذوذ الملحوظ الناجم عن بلازما ثقب شوينجر».
وبناءً عليه، فإن بلازما ثقب الإلكترون الشاذة تمثل نظيرًا مثاليًّا لزوج الجسيم والجسيم المضاد الذي تنبأ به شوينجر. ولهذا، فحتى باستخدام مجال كهربائي منخفض الطاقة (على الأقل مقارنة بمركز ثقب أسود أو نجم نيوتروني)، أثبت الفريق البحثي بالمصادفة تأثير شوينجر.
«حين رأينا الخصائص المذهلة لأجهزة الشبكة الفائقة لدينا.. » يقول الدكتور «روشان كريشنا كومار-Roshan Krishna Kumar»، أحد الباحثين المشاركين في البحث، موضحا « أخذتنا المفاجأة، وحسبنا أن هذا قد يكون نوعًا من الموصلات الفائقة الجديدة، ومع أن الاستجابة كانت تشبه كثيرًا تلك التي نلاحظها عادةً في الموصلات الفائقة، إلا أننا سرعان ما اكتشفنا أن النتاج المحيّر لم يكن بسبب الموصلات الفائقة بل شيئًا في مجال الفيزياء الفلكية وفيزياء الجسيمات».
وبالفعل، كان هذا الشيء، في هذه الحالة، ناتج عن تأثير شوينجر.
من جانبه يقول الباحث الرئيس في التجربة دكتور «أليكسي برديجين-Alexey Berduygin»، جامعة مانشيستر: «عادةً ما تتم دراسة الخصائص الإلكترونية باستخدام مجالات كهربائية صغيرة تسمح بتوصيف نظري وتحليل أكثر يسرًا، أما نحن فقد قررنا زيادة قوة الحقول الكهربائية بقدر الإمكان باستخدام طرق تجريبية مختلفة خشية أن تؤدي التجربة لاختراق أجهزتها»
أما الدكتورة «نا شين- Na Xin»، الباحث الرئيس المشارك، فقالت إن النتيجة كانت مفاجأة غير متوقعة لكنها سارة جدًّا، خاصة بالنظر إلى مخاطر استخدام معداتهم بحدود طاقتها القصوى. «فقط كنا نتساءل عما قد يحدث عند تلك الحدود القصوى أو ينتج من استخدامها؛ ولكن-وياللمفاجأة- كان تأثير شوينجر هو ما نتج عنها، وليس دخان احتراق المعدات».
ويبقى شيء أفضل من اللا شيء:
لقد أدرك الباحثون أن تجاربهم التي تجرى باستخدام طاقة منخفضة تجعل إمكانية إنتاج زوج فعلي من الإلكترون-البوزيترون أمرًا بعيد المنال، لكنهم كانوا يرون أن ما توصلوا إليه من إنتاج البلازما التناظرية «الثقب» يعد دليلا كافيًّا على أن تأثير شوينجر حقيقي، وأنه من الممكن خلق جسيمات مادية من الفراغ المحض فقط إذا تم توفير القدر الكافي من الطاقة.
وبناءً عليه كانوا يرون أن الأمر قد يستغرق وقتًا طويلًا إلى أن تتطور معدات المختبرات بما يكفي لخلق مادة من اللا مادة.
أما الآن، وبناءً على التجربة التي أجراها فريق جامعة مانشيستر، فقد تم إثبات إمكانية إنتاج شيء من الفراغ.
يقول «سيجل»: «بعدما تم التوصل بالفعل لإمكانية إنتاج الإلكترون والبوزيترون من اللاشيء حرفيًا، فقط من الفراغ الكمي باستخدام الحقول الكهربائية، فإن الكون يظهر لنا إمكانية تحقق ما قد يبدو مستحيلاً: أننا يمكننا حقآ صنع شيء من لا شيء!».
ملاحظات من المترجم:
*الجرافين Graphene: مادة من الكربون، ثنائية الأبعاد ذات بنية بلورية سداسية، وهي أرفع مادة معروفة على الإطلاق حتى الآن، يعادل سمكها ذرة كربون واحدة فقط، ورغم ذلك تعتبر إحدى أكثر المواد المعروفة متانة. تعتبر من موصلات الكهرباء وكفاءتها نفس كفاءة النحاس، كما أنها أفضل موصل للحرارة على الإطلاق.
**ميزون Meson: جسيمات أولية دون ذرية لها شحنة موجبة أو سالبة أو متعادلة، وتتفق الميزونات في أن كتلتها 200 مثل كتلة الإلكترون.
***الكوارك Quark: هو جسيم أولي وأحد المكونين الأساسيين للمادة في نظرية النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات، إلى جانب المكون الآخر ألا وهو الليبتونات. له كتلة ولكن أبعادها متناهية الصغر صفرية، تُرصَد عند حدوث تصادم شديد بين البروتون والإلكترون.
****الإلكترون والبوزيترون: الإلكترون Electron هو جسيم دون ذري كروي الشكل تقريباً مكون للذرة ويحمل شحنة كهربائية سالبة، كتلته تعادل تقريبًا 1/1836 من كتلة البروتون. أما البوزيترون Positron فهو الجسيم المُضاد للإلكترون، يتطابق مع الإلكترون في الصفات والخصائص الفيزيائية كافةً، فيما عدا الشحنة الكهربائية؛ إذ يحمل البوزيترون شحنة كهربائية موجبة مساوية لشحنة الإلكترون.
*****تأثير هول Hall Effect:هو تأثير اكتشفه الفيزيائي الأمريكي إدوين هول، يتمثل في ميل حاملات الشحنة سواء كانت موجبة أو سالبة للانزياح نحو الأطراف في الموصلات الكهربائية بسبب المجال المغناطيسي المطبق أو المتعرض له.