تنجيز أبولادز: فَنَّان الشَّعب
اكتسبت جورجيا، أقدم دولة مسيحيَّة أرثوذكسيَّة في التاريخ، المجد الشَّائِن لمنح البشريَّة أحد أكثر طغاتها شراسةً، الثَّائر الجورجيّ جوزيف ستالين. على الرَّغم أنها كانت واحدة من أولى البؤر الاستيطانيَّة، وأكثرها قتاليَّة ضِدّ الشيوعيَّة والسُّوفييت في العَالَم الثاني. أعلنت جورجيا استقلالها (1918–1921)؛ مستفيدة من الوضع الفوضويّ للحَرْب الأهليَّة الروسيَّة (1917 – 1922). لكن الاستقلال كان بالكاد يتِمّ الحفاظ عليه ولفترٍة قصيرة، بسبب غزو الجيوش البلشفيَّة في عام 1920.
كانت الشهادات المُنَاهِضة للشيوعيَّة أكثر تماسكًا والتعرُّف عليها كان ممكنًا، كما هو الحال في سينما أوروبا الشرقيَّة. فمُنذ البداية، اتَّسمت السينما الجورجيَّة بلمسةٍ خاصة، تميَّزت عن غيرها ببعض السهولة والبساطة وعدم الامتثال، سمات تنتمي إلى التراث الجينيّ للأُمَّة الجبليَّة الصغيرة والشجاعة. روحانيَّة الجورجيين العميقة، وتعلّقهم بقيم الأجداد، ووطنيَّتهم القوية وحبهم للحُرِّيَّة والجَمَال، الناشئة عن الثقافات الهيلينيَّة والبيزنطيَّة (التي غذت جورجيا نفسها من جوهرها لعِدَّة قرون)، أعطتها المزيد من الفرادة والتميُّز.
بعد ذوبان الجليد الثقافيّ السُّوفيتيّ، نجح واحدٌ من صانعي الأفلام القوقازيين العظماء، الجورجيّ “تنجيز أبولادز”، من خلال اعترافه الشجاع، في كسر الشَّرائع الآيديولوجيَّة.
وُلِدَ “تنجيز أبولادز” (Tenguiz Abouladzé) في 31 يناير 1924، في مدينة كوتايسي بجورجيا، درس الإخراج المسرحيّ (1943-1946) في معهد شوتا روستافيلي، وبعد التخرُّج التحق لدراسة السينما في معهد موسكو السينمائيّ وأصبح مدرسًا جامعيًّا بها (منذ عام 1974). وهو منصب لا يمكن شغله في نظامٍ شُمُوليٍّ دون الحَدّ الأدنى من الامتثال الآيديولوجيّ للنظام السياسيّ. لذلك كان عضوًا بارزًا في الحزب الشيوعيّ (منذ عام 1978). في بدايته أنجز عِدَّة أفلام وثائقيَّة، وكان فيلم الدبلوم الذي حصل عليه عن السيرة الذَّاتيَّة للملحن الجورجيّ Dimitri Arakishvili، لكن مسيرته الفعليَّة بدأت مع فيلمه الروائيّ الأوَّل (Magdana’s Donkey, 1955)، الذي أخرجه بالشراكة مع مواطنه الأرميني Rezo Chkheidze، وتوالت أفلامه الروائيَّة الأخرى، التي بلغت ستة أعمالٍ في الفترة ما بين عامي 1958 و1984، ودائمًا ما كان يُشَارِك في كتابة السيناريو. تُوُفِّي في 6 مارس 1994، في مسقط رأس مواطنه الأرمنيّ وصديقه المُقرَّب المخرج سيرجي باراجانوف.
عند مقارنة فيلمه الأوَّل (Magdana’s Donkey) بأفلام الواقعيَّة الإيطاليَّة الجديدة، فإن العديد من أوجه التشابه والتفاصيل العامة المُميَّزة لتلك الحركة نلمح بحضورها على الفور. مثال ذلك، في فيلم Magdana’s Donkey، يحمل الحمار المعنى نفسه بالنسبة إلى “ماجدانا” كما تحمله الدرَّاجة بالنسبة إلى “أنطونيو ريتشي” في فيلم Bicycle Thieve، يمثِّل كلٌ من الحمار والدرَّاجة معنى البقاء والأمل في رفاهية الأسرة في المستقبل. فقدان إحداها يُعني الهزيمة والانْكِسَار ويُنذر بمأساةٍ فاجعة لكل أسرةٍ.
فماجدانا سيدة فقيرة وأرملة، تعيش مع أطفالها الثلاثة في قريةٍ صغيرةٍ، وتذهب إلى المدينة كل يومٍ لبيع “الزبادي” الذي تصنعه بنفسها. بمجرَّد أن وجد ابنها حمارًا مُنْهَكًا سقط على جانب الطريق، سحبه إلى منزله حتى يستعيد وعيه. الحمار، المُسَمَّى “Lurdzha” “الأزرق”، يصبح نوعًا من الهدية الإلَهيَّة، إذ يساعد ماجدانا في نقل أوعية الزبادي الخاصة بها. لكن سُرعان ما ادَّعى بائع الفحم أن الحمار ملكه، وأخذ ماجدانا إلى المحكمة، لكن المحكمة في النهاية لم تُقرِّر الحُكم لصالح مُقدِّم الالتماس. وهذا معناه، أن مجدانا ستحتفظ به، أما أنطونيو ريتشي فهو رجلٌ فقير أيضًا وعاطلٌ عن العمل، يبحث عن فرصةٍ للعمل كأجيرٍ في إحدى الشركات، بمقابل زهيدٍ للغاية، ويُشْتَرط لحصوله على الوظيفة أن يمتلك درَّاجته الخاصة، فيؤكِّد للمسئولين بأن لديه واحدة، لكن الحقيقة تقول ان درَّاجته محبوسة الآن في محلٍ للرهونات، ولن يُفَكّ أسرها إلا بعد دفع مبلغٍ معين، فيستنجد بزوجته من أجل أن يبيع أثاث المنزل ويُسدد -من ثم- ما عليه من ديون ويُطْلَق سراح الدرَّاجة. وهكذا يتِمّ الأمر.. وفي أوَّل يومٍ له في عمله الجديد تُسْرَق درَّاجته فيبدأ في رحلة بحثٍ عسيرة عن هذه الدرَّاجة المسروقة.
حصل فيلم Magdana’s Donkey على العديد من الجوائز في المهرجانات السينمائيَّة الدوليَّة، أبرزها جائزة “أفضل فيلم روائيّ- قصير” في مهرجان “كان”، والجائزة الخاصة في مهرجان “أدنبرة” السينمائيّ الدوليّ. لم يُحقِّق أي فيلمٍ آخر في الخمسين عامًا الماضية من تاريخ السينما الجورجيَّة نجاحًا دوليًّا مثلما حقَّقه ذلك فيلم.
في فيلمه الثاني (1958 , Somebody Else’s Children)، المُسْتَوحى من عملٍ أدبيٍّ يحمل نفس العُنْوَان. أكمل تنجيز أبولادز سيره على نفس خُطى الواقعيين الإيطاليين الجُدُد، وبنى فيلمه على الميلودراما الواقعيَّة، وصمَّم حبكة تأخذ اتِّجاهًا جديدًا تمامًا، بعيدة عن السَبك المبتذل لسرد الفيلم السُّوفيتيّ في تلك الحقبة. تحكي قصة فيلمه عن فتاةٍ طالبةٍ تُدعَى “ناتو”، تُقابِل طفلين في الشَّارع، أخ وأخت (نفس أطفال فيلم Magdana’s Donkey). لا تعلم أن والدهما انفصل عن زوجته على أساسٍ أنها لم تكن قادرة على إيجاد لُغةٍ مشتركة معهم. بمجرَّد أن يلتقي الأب بالفتاة، يقعان في الحُبّ، لكن عَلاقتهما لا تدوم طويلًا، لأنه في يومٍ من الأيام يلتقي الرَّجُل بزوجته المُنْفَصِلة عن طريق الصدفة ويذهب ليبقى معها، ويتخلَّى عن ناتو والأطفال. ترغب ناتو في الإقلاع بشكلٍ يائس، لكنها تدرك أنها لا تستطيع ترك الأطفال وحدهم. يدعو السَّرد السينمائيّ للفيلم المشاهدين إلى الحكم على المسائل الملغزة حول العَلاقات الإنسانيَّة والواجبات الأخلاقيَّة والمدنيَّة، ومحاولة الفرد لحَلّ مشكلات الحياة وما إلى ذلك، من خلال التحقيق في الأبعاد الأخلاقيَّة للتجربة الإنسانيَّة بتلك الطريقة.
في خطاباته العامة ومقابلاته الإعلاميَّة وكتاباته، غالبًا ما أشار تنجيز أبولادز إلى الانطباع العميق الذي أحدثته الواقعيَّة الجديدة على وجهة نظره، فيقول: “لقد تميَّز فيلمي بتأثُّره الشديد بالواقعيَّة الإيطاليَّة. إذا فهمناه على أنه الرَّغْبة والتطلُّع لبلوغ الصدق والأصالة الضروريين للسينما، فيجب الاعْتِرَاف بهذا التَّأثير. ومع ذلك إذا تذكَّرنا أفضل أفلام المخرجين الجورجيين، فيمكننا أن نؤكِّد لأنفسنا أنها صُنِعَت بنفس روح فيلمي”. ومن المؤكَّد أيضًا أن الواقعيَّة الجديدة لاحقت وامتد تأثيرها في الأفلام الجورجيَّة الأخرى في الخمسينيَّات وما بعدها. كما أن مُعلِّمه المخرج السينمائيّ السُّوفيتيّ الشهير ميخائيل روم، يصفها بأنها “فَنٌّ رائع”: “علينا نحن السينمائيون أن نخلع قُبَّعتنا، تكريمًا لأولئك الذين صنعوها”. ولطالما أعرب جمهور السينما الجورجيَّة عن حماسهم لمُشَاهَدة أعمال صانعي الأفلام الإيطاليين الجُدُد، أمثال فيتوريو دي سيكا، وروبرتو روسيليني، وألبرتو لاتوادا، وجوزيبي دي سانتيس، ولوتشينو فيسكونتي، وكارلو ليزاني.
أثار الفيلم بعد صدوره جَدَلًا واسعًا، وتضارب آراء النُقَّاد حوله، فمنهم من رأى أنه ليس إلا مجرَّد خضوعٍ ذليلٍ وأعمى للواقعيَّة الإيطاليَّة، ومنهم من امتدح أوجه المُقَارَبة والمغزى المُشترك بينهم. وفي هذا الصَدَّد يكتب الناقد السينمائيّ البولنديّ جيرزي جيتسكي: “إلى حَدٍّ ما يمكن للمرء أن يُميِّز تأثير الواقعيَّة الإيطاليَّة الجديدة في فيلم (Someone Else’s Children)، لكن هذا ليس تقليدًا ولا طرحًا. بل يمكن أن يُعزى إلى التشابه في رؤيتهم الفَنيَّة – لقاء على طول الطريق المشترك للفَنّ السينمائيّ المُعَاصِر”.
شَعَرَ أبولادز بأنه شقيق معاناة مع شعبه، فمنذ البداية، بحث فيلمه السينمائيّ في أزمات الحُرِّيَّة الاجتماعيَّة، التي تُرى في العَلاقة بين الفرد والجماعة، بين صوت الروح وصوت المدينة. هذة العَلاقة الرَّائجة والمُوغِلة في المجتمعات الأبويَّة التقليديَّة، التي يُنظَر إلى عدم تسامحها مع التغيير، من عدم تسامح النظام الشيوعيّ نفسه. تكوَّن هذا الموقف بشكلٍ واضحٍ في ثلاثيَّته:
“The Georgian Historical Trilogy”
-The Plea (1967)/ -The Tree of Desire (1976)/ -Repentance (1984)
في الجزء الأوَّل من ثلاثيَّته (The Plea, 1967)، المُقْتَبَس من قصائد الشَّاعِر السُّوفيتيّ Vazha Pshavela، تبدأ القصة بنشوب صراعٍ مُحْتَدم بين قبيلتين تحت مظلَّة الدِّين، الكل ينفرد بالحق، ويُحَارِب باسم الإلَه، فتغيب العدالة، وتُزْهَق أرواح الأبرياء بلا داعٍ، وتضيع في غياهب الشَرّ. في هذا الفيلم يطرح أبولادز جدليَّة الخير والشَرّ: هل يُولَد الإنسان مجبولًا على الخير أم الشَرّ؟ هل الإنسان شرير بطبعه؟ ماذا لو توقَّف الجميع عن مُحَاربة الشَرّ؟ إلى أي مدى نمضي لنعيش حياتنا ببساطةٍ دون الاهتمام بأي شخصٍ آخر غير أنفسنا؟
في المشهد الافتتاحيّ، يُقدِّم تنجيز أبولادز الشَرّ أو الشَّيطان إلى المُشَاهِد كوجه رجلٍ يختبئ في الظل ولا يظهر إلا عندما يريد أن يبتلع جَمَال ونقاء العَالَم الذي يظهر له. عندما نسمع صوت الفارس، الذي يبدو أنه يتحدَّث مع الله، مدَّعيًا أنه يعرفه جيدًا، ثُمَّ يُركِّز دعاءه ويرجو رَبَّه أن يمحو الشَرّ من الوجود، ويقضي على أثره في النَّفس قضاءً مُبْرَمًا. ثُمَّ يواصل رحلته، وفي الطريق يسمع حُجَج من يريد أن يعرف، إذا مُنِعَ الناس من قِتال الشَرّ، فماذا يفعلون مع من اختطفوا وقتلوا زوجاتهم وأولادهم؟
يُحاول أبولادز بأسلوبه في إظهار كيف أن رغبات الإنسان من المُمكِن أن تصبح كارثيَّة، وأن قرار رجلٍ واحدٍ أكثر من كافٍ لفهم طالما أن الشَرّ موجودٌ، فإن الخير سيكون دائمًا موجودًا لمحاربته. عندما نُشَاهِد الشَرّ الذي كان يختبئ في الظل يدمر كل ما تقدمه الطبيعة البشريَّة من خير. وهذا ما يجعل الفارس يدرك أخيرًا أن السَّبيل الوحيد لوقف حفر المزيد من القبور وموت الأبرياء، هو مواصلة سعيه لأطول فترة ممكنة حتى لا يبتلع الظلام العَالَم.
يواصل تنجيز أبولادز في الجزء الثاني من ثلاثيَّته (1976 ,The Wishing Tree)، عَرْض الصراع بين الخير والشر في الطبيعة الإنسانيَّة. تدور أحداث الفيلم في مطلع القرن العشرين، ما قبل الثَّورة الجورجيَّة، ويستند إلى قصص الكاتب السُّوفيتيّ Giorgi Leonidze. عن فتاة تدُعى “ماريتا”، أنتقلت إلى القرية لتعيش مع خالتها. تلتقي بفتى صغير يُدعى “جيديا” وتقع في حُبِّه. لكن أقاربها مُصمَّمون على زواجها من رجلٍ آخر ثريٍّ.
القرية في The Wishing Tree هي مكان يتسم بالقداسة الرُّوحيَّة والارتباط العميق بالأساطير التي تُدَعِّم الإنسانيَّة. هناك العرَّافة، التي كانت ذات يومٍ جميلة وتنتظر بلا نهاية حُبّها الضائع، بعد أن تركت شبابها يفلت من أصابعها وهي تتلهف. يسخر منها باستمرار القرويون الآخرون لفُرَصها الضائعة وتطلُّعاتها النبيلة. هناك الرَّجُل الذي يتجوَّل بحثًا عن شجرةٍ يمكنها أن تمنح له الأمنيَّات، وحكاية الحُبّ الممنوع الذي يربط كل خيوط الحبكة المختلفة معًا. في نص ليونيدز الأصليّ، عند موت ماريتا، يستجيب القرويون باحترام لذكراها. ومع ذلك، تموت وحدها في الوحل وجدتها هي الوحيدة التي تحزن عليها. وهذه إشارة إلى يأس أبولادز العميق من مصير جورجيا. تغيير النهاية إلى واحدةٍ أكثر عُزْلة، وبالاقتران مع رسالة الأفلام الأخرى في الثلاثيَّة، فإن وجهة نظره واضحة. ومما زاد من جرأة الصلة الواضحة بين ماريتا وجورجيا نفسها، باعتبارها رمزًا أنثويًّا للوطن الأُمّ، النابض بالحياة والجَمَال، والمأساة في طريقة معاملتها، العَلاقة المُتأصِّلة بين الناس والطبيعة والرموز التي يعرضها أبولادز هي عَلاقة دوريَّة. يُعبِّر عن هذا، في مشهدٍ واحدٍ: تذهب ماريتا بصُحبة عشيقها “جيديا” في نُزهةٍ بمفردهما، يجلسون على جانب التَّلّ وتقول له: “الندى على العُشْب هو دموع الأرض.. كل شيءٍ على الأرض له روح”.
الصور هي أحد الجوانب الفريدة القوية لأفلام أبولادز. الأساطير والفولكلور تقاليد شفهيَّة في الغالب، وهناك حاجة إلى قدر ٍمعين من الخيال لاستحضارها، ومع ذلك، فإن الأسطورة في يدي أبولادز تنبض بالحياة، يبدأ الفيلم بموت وينتهي بموت. في البداية يموت الحصان الأبيض بعد رعيه على العُشْب على الجانب الآخر من التَّلّ، ويُقال إن هذا بسبب الأرواح الانتقاميَّة لأعداء جورجيا الذين أريقت دماؤهم هناك، وينتهي بموت ماريتا. وفي النهاية، تنمو زهرة الرُّمَّان، “مثل وجه ماريتا”، ربما هذا يُعبِّر عن إمكانات جورجيا للتجديد، والطبيعة الدوريَّة للحياة.
يختتم تنجيز أبولادز ثلاثيَّته، بفيلمه الأخير (The Repentance, 1987)، في اليوم التالي لجنازة فارلام أرافيدزي -عمدة بلدة جورجيَّة صغيرة- ظهرت جثَّته في حديقة ابنه. بعد إعادة دفنها سِرًّا، تستمر الجُثَّة في المُلاحقة وتعاود الظهور مجددًا ثلاث مرَّاتٍ، حتى يُقبَض أخيرًا على مُرتَكِب هذه الجريمة، متلبِّسًا وهو يحفر القبر. ويتضح أنها امرأة تُعرَف باسم كيتو باراتيلي. تعترف بفعلتها أثناء المحاكمة دون تفسير أي دوافع لذلك، بل تُحذِّر بأنها طالما حيَّة فإن فارلام لن يرتاح في قبره للأبد! وخلال الاستجواب تتذكَّر وتعيد سرد ما عاشته عائلتها والمدينة بأكملها قبل عقود، خلال الفترة التي شغل فيها فارلام منصب رئيس البلديَّة. تُمثِّل بداية قصتها اضطرابًا في التدفُّق السَّرديّ للفيلم، إذ يتوقَّف جانبان، التاريخ (الترتيب الزمنيّ للأحداث) والترتيب الذي تُصَوَّر به في هذا الفيلم (إعادة سرد لأحداثٍ من طفولتها).
في الفترة التي تمتَّع خلالها فارلام أرافيدزي بالسَّيطرة الكاملة على سُكَّان المدينة. لم يتِمّ التلميح أو الإشارة إلى الآثار السلبيَّة لفترة حكمه إلا بمناسبة خطابه الافتتاحيّ، عندما ظهر فارلام لأوَّل مرَّة في الفيلم وهو يرتدي قميص موسوليني الأسود، وشارب هتلر الصغير، ونظارات لافرينتي بيريا. فكأنما يبدو مزيجًا بين هؤلاء الطغاة الثلاثة.
مع تَدَفُّق السَّرد، عزَّز فارلام موقفه من خلال قمع المُعَارضة بجميع أشكالها (السياسيَّة والفَنيَّة، والفرديَّة والجماعيَّة)، وسلسلة هجماته الطويلة ضِدّ ناخبيه، التي بلغت ذروتها مع الترحيل الجماعيّ والقتل في نهاية المطاف لعددٍ كبيرٍ من الناس. يُحَافِظ فارلام على هيمنته أولًا، من خلال القضاء على أي نوعٍ من الفرديَّة بين سُكَّان المدينة. هذا الاستئصال للفردانيَّة هو نتيجة لقمعه المنهجيّ للحُرِّيَّة الشَّخصيَّة، فمع اكتساب استبداده زخمًا، لم يَعُد فردًا أو مجموعة صغيرة من الناس، يمكن تمييز هُويَّاتهم بوضوح. فيلقي في السجون من يجرؤ على الاحتجاج أو المُعَارَضة، على سبيل المثال: في أحد المشاهد بعد وصول فارلام إلى السُّلْطة، يعتقل اثنين من كبار السِنّ، لمجرَّد احتجاجهم على استخدامه لكنيسة قديمة كمرفقٍ لإيواء مختبرٍ علميٍّ. ومع تقدُّم أحداث الفيلم، في مشهدٍ آخر يأمر فارلام باعتقال عددٍ كبيرٍ من الأشخاص، الدافع وراء ذلك (إذا كان هناك أي دافعٍ) لا يمكن إرجاعه أيضًا إلى سبب محدَّد.
هذا التدمير العشوائيّ للحياة البشريَّة من قِبَل سُلْطة رسميَّة أعلى، يُذكِّرنا بوجهة نظر ميشيل فوكو حول ما يسميه “السُّلْطة الحيويَّة”، في مقالته “حق الموت والسُّلْطة على الحياة”، يوضِّح فوكو أنه قبل العصر الكلاسيكيّ، كان صاحب السِّيادة يُمَارِس سُلْطته من خلال قدرته على قتل حياة الأشخاص الذين هددوا مركزه. وبعبارةٍ أخرى: فإن قوَّته “كانت في الأساس حق الاستيلاء: على الأشياء، والوقت، والأجساد، وفي النهاية الحياة نفسها”.
بعد عرض الفيلم لأوَّل مرَّة في عام 1987، رُشِّحَ لجائزة السَّعفة الذهبيَّة بمهرجان “كان” السينمائيّ، لكن لم تذهب الجائزة إلى فيلم أبولادز، وأعطت لجنة التحكيم الأفضلية للفيلم الفرنسيّ Sous le solil de Satan (تحت شمس الشيطان)، للمخرج موريس بيالات.
في سينما “تينجيز أبولادز”، دائمًا ما يتدثَّر في أفلامه بالتقاليد القوقازيَّة القديمة؛ راغبًا في المُحَافظة على قيم “الإنسان القديم” من الضياع والانْدِثار، التي كانت التضحية والانعتاق والارتباط بالجَمَال النقي من أبرز مظاهره، تلك القيم التي شهدت قطيعة مع الإنسان العصريّ المُتمرِّد على المألوف دومًا. وشُعُوب القوقاز الجبليَّة تبني على مدى وجودها قانون الشَّرف بشكلٍ خاص، الذي يوجد بين “الشركس” منذ زمن بعيد. وهو ما يشبه قانون الفروسيَّة الذي يُقِرّ باحترام الكبار والضيوف والنساء. كما أن القوقاز هي أرض التناقضات: موطن التصوُّف الأصيل، أرض الأجداد، حافظة آثار نوح، سلف جميع الأُمَم، وهي في الوقت نفسه -في الذَّاكرة الجمعيَّة للبشريَّة- ذات ارتباطٍ وثيقٍ بمذبح عذاب بروميثيوس المُتمرِّد وجوهر التناقضات العرقيَّة والسياسيَّة والدِّينيَّة.
يعترض تنجيز أبولادز على النظام السياسيّ الشُّموليّ أو “الكُليَّانيَّة”، كنظامٍ يلغي الحُرِّيَّة ويسحق الشَّخصيَّة البشريَّة، التي تحاول فيه الدولة فرض سُلْطتها على المجتمع والسَّيطرة على كافة جوانب الحياة الشَّخصيَّة والعامة قدر إمكانها. فمنذ فيلمه “The Plea” تحدَّى أبولادز ثقافة بلاده السُّوفيتيَّة، من خلال لُغَة الفيلم واستحضار أكوان وموضوعات يُفتَرَض أنها رجعيَّة وعفا عليها الزمن.
تتحدَّث أفلامه التي بدأت مع الواقعيَّة الجديدة في Magdana’s Donkey, 1955)) عن تلكؤ الأفراد داخل مجمتعهم، أو عن عدم قدرتهم على تحسين وضعهم الاجتماعيّ. وسواء كان الواقعيّ الجديد (كما في “Magdana’s Donkey”)، أو الرَّمزيّ (كما في “The Plea”)، أو الطليعيّ- ما بعد الحداثيّ (كما في “Repentance”)، فإن لغة أبولادز السينمائيَّة لم تُولَد من السُّخْريَّة، ولكن من المُعَاناة، من التجلّي.. التذليل والتغلُّب على خَطب المُعَاناة، التي يمكن تحمُّلها، التي لا يوجد بعدها سوى الجنون والجحيم والفوضى أو الخَلاص.. الإيمان بالإله هو الشيء الوحيد الذي يضع حدودًا لتجريد الإنسان من إنسانيَّته.
الهوامش: 1 - https://www.academia.edu/38273803/Serge_Parajanov_and_Tengiz_Abuladze_two_Models_of_Anticommunist_Testimony_through_Cinema_in_Soviet_Georgia 2 - https://moviemovesme.com/2015/05/09/discovering-georgian-cinema-molba-vedreba-aka-the-plea-1967/?amp=1 3 - https://www.academia.edu/76696604/Myth_and_Morality_in_Tengiz_Abuladze_s_Pokaianie_Repentance_ 4 - https://acrobat.adobe.com/link/review?uri=urn:aaid:scds:US:4da87259-c900-3e51-a7aa-e430b4d877af 5 - https://www.proquest.com/openview/28f6260c16e24d071d16fdd015d9c5f9/1.pdf?pq-origsite=gscholar&cbl=2049257