تاريخ النص.. دراسة في معرفة تاريخ القرآن الكريم
المقال الثالث
ذكرنا في المقال السابق أنه نشأت لدينا صعوبة في معرفة النص الأصلي للقرآن، ولذلك لا يمكننا تخمين شكل النص الأصلي للقرآن؛ إذ أن مسألة القراءات المختلفة المذكورة في تراثنا الإسلامي تدفعنا إلى القول أنها وُجِدَت في مصاحف وُجِدَت قبل مصحف عثمان بن عفان. وهذه الأمور وغيرها تدفعنا إلى البحث عن شكل النص الأصلي للقرآن. ومن ثم، حريٌّ بنا معرفة حظ الوحي من التدوين في العهد النبوي.
يرى عموم المسلمين أن الآيات المنفردة المختلفة المتباينة التي يتألّف منها شكل النص القرآني الحالي تعود – بناءً على إشاراتٍ كثيرةٍ متضمِّنة فيها – إلى كتاب محفوظ في السماء، وذلك في مطابقة دقيقة له، في حين أن كتب اليهود والمسيحيين المقدّسة تنبثق من النموذج الأعلى ذاته، غير أنها تعرّضت لتشويهٍ كبيرٍ. وكذلك الأسماء المختلفة التي أُطلقت على هذه الآيات كالقرآن، والكتاب، والوحي، توحي بخلفية تدوينية لها. ومن ثم، يصعُب التصوُّر أن النبي ﷺ لم يكن ينوي – منذ البداية – أن ينجز وثيقة للوحي أو أن يثبته كتابةً؛ وذلك يرجع في غالب الظن إلى أن قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَٰؤُلَاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ * وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾، يعطينا إلماحًا إلى تدوين الوحي.
وبالرغم أن الروايات الحديثية تورد في صراحة أسماء الأشخاص الذين كان النبي ﷺ يملي عليهم الآيات ليدوّنوها، إلا أننا لا نملك أية أخبارٍ وثيقةٍ عن تفاصيل هذه العملية، أو عن حفظ المادة النصية للقرآن وترتيبها. غير أن المستشرق البلجيكي هنري لامنس H. Lammens يرى أن ثمة دعوى من الله إلى النبي ﷺ في قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ لئلا يستعجل تدوين الوحي، بل يترك المجال لنفسه؛ لعله يريد تغيير النص. ولكن أغلب الظن عندي أن هذا التفسير مخطئٌ؛ فالعجالة في السياق متصلةٌ بقرارٍ ذاتيٍّ يأخذه النبي ﷺ بالحفظ أو بالتدوين، فيُدعى إلى التمهُّل حتى ينزل عليه الوحي المناسب كاملًا؛ وذلك يرجع إلى الآية التي تليها في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾، وكذلك في قوله تعالى في سورة طه: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾. مع هذا يوحي التحليل الأدبي للسور الواردة أن النبي ﷺ كان يجمع أحيانًا آياتٍ متفرقاتٍ في مجموعاتٍ أكبر، وأنه كان ينظر إلى بِنًى أدبية مصطنعة كنتيجة لفعلٍ إيحائيٍّ واحدٍ.
هذا والبِنَى الوعظية لغالبية السور تجعل الولوج في سر التأليف في غاية الصعوبة، كما تحول دون القدرة على الحكم إلى أي مدى يعود جمع هذه الآيات المتفرقة المنزَّلة على فترات متباعدةٍ في سورةٍ واحدةٍ أهي ترجع إلى الله عز وجل أم إلى النبي ﷺ أم إلى محرّرين لاحقين؟! يمكن القول بما يشبه التأكيد أن الوحدة الأدبية في بعض السور الكبيرة محتملة فقط حين نجد تشابهًا وتوافقًا في المضمون، وذلك في سورتي يوسف والكهف، أو حين تتكرّر لازمة ما فتربط أجزاء مختلفة ببعضها البعض، كما في سورة الشعراء والواقعة والمرسلات والمعارج، أو حين يتطابق الأسلوب والوزن المسجوع بما يشبه الرجز في الشعر تطابقًا ملفتًا، كما في سورة الرحمن والصافات. أما عن سورة البقرة وآل عمران والنساء وغيرهن – بشكل خاص – من المستحيل اتخاذ أي قرارٍ بهذا الشأن؛ ففي جميع الأحوال، ولولا اللجوء إلى التدوين، لما جاءت أيٌّ من هذه السور على ما هي عليه في المصحف بشكله الحالي. من جهة أخرى، تحتاج الآيات العديدة المتأرجحة، التي تفصل سياق بعض السور عن بعضها، أو الآيات والسور ذات الطابع الشذري، التي وجدت طريقها إلى الجزء الأخير من المصحف بشكله الحالي إلى توضيح؛ لكونها ذات اعتبارات خاصة يضيق المقام عن ذكرها.
ولولا ضيق المقام والوقت الآن أثناء كتابة هذا المقال، وحرصنا على الإيضاح بشكلٍ موجزٍ دون الاستطراد لعرضنا الاختلافات الكبيرة الواقعة في السور وترتيبها حسب ما جاء في كتب الحديث والتفسير. ولكنني أود أن أفترض إلى أن السور والآيات المجمع على أنها نزلت في المدينة احتاجت إلى إضافات أو شروح واستطرادات، أو أضافت على النص المكي، أو حتى حين تُستبدل بنصٍّ جديدٍ ذي مضمون مختلف أو يلغيها.
ومن ثم كان العصر النبوي مقيَّدًا بعدة اعتبارات تحول دون تدوين النص القرآني؛ فالفترة المكية تكاد تخلو من وجود دلائل قطعية على تدوين النبي ﷺ للقرآن أو أنه ﷺ أمره بتدوينه؛ فقد كان صراع النبي ﷺ في مكة لكسب اعتراف الناس به رسولًا صراع حياة أو موت. وما يروونه أن عمر بن الخطاب حين دخل الإسلام كانت هناك مقاطع مكتوبة من القرآن، هو أمر لا يمكننا الارتكان إليه؛ فهذا أمرٌ يُعزى في غالب الظن للمؤمنين المناصرين للنبي ﷺ الذين أرادوا تعليم أنفسهم. وأما عن الفترة المدنية، ورغم الأهمية التي يعطيها القرآن للتدوين، وبسبب الضغوط الخارجية وانشغال النبي ﷺ بالحروب ظلَّ التدوين – حتى ولو كان في نية النبي ﷺ منذ البداية – مجرّد مشروعٍ لم يكتمل لأكثر من مرّة. ولا يمكننا الاستدلال بقول حسان بن ثابت:
عرفتُ ديارَ زينب بالكثيبِ … كخطِّ الوحي في الورقِ القشيبِ
على أنه وُجِدت سورٌ مكتوبة أو أن ثمة تدوينٍ فعليٍّ للنصِّ القرآني؛ إذا ما عرفنا أن من معاني لفظة «الوحي»: «الكتابة»، إذ أن هناك تفسيران لهذه الكلمة، أحدهما الوحي الذي يعني القرآن، والآخر هو الكتابة. ومن ثم، اقتصر حفظ النبي ﷺ للقرآن على الذاكرة التي ربما خانته كما ذكر مسلم (المتوفى سنة 261هـ/ 875م) في صحيحه عن عائشة قالت: «كان النبي ﷺ يستمع قراءة رجلٍ في المسجد، فقال: رحمه الله لقد أذكرني آيةً كنتُ أنسيتها». ومن ثم جاء قوله تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ تعزية للمؤمنين.
وعلى كل حال، وإن اقتضت الضرورة للتسليم بما جاء في بعض المرويات أنه كان للنبي ﷺ كتبة يكتبون له الوحي، وُكِّلت إليهم هذه المهمة، إلا أن الحفظ في الذاكرة كان هو المعوّل عليه في وقتٍ كانت القراءة والكتابة من المعارف النادرة، إضافة إلى العدد غير القليل من الصحابة الذين حفظوا مقاطع قصيرة من القرآن، بقدر ما كان ضروريًّا للتلاوة في الصلوات، كان هناك أفراد استطاعوا شحن ذاكرتهم بمقاطع أطول من القرآن، وبهذا استطاعوا أن يحفظوا جزءًا من الوحي، لم يدوّن نصُّه أبدًا أو ضاع في ظروفٍ معيّنة، من الفقدان.
وإن اقتضت الضرورة أيضًا للتسليم برأي العلماء المسلمين أن النبي ﷺ لم يأمر بجمع القرآن في مصحف، لأن الوحي كان مستمرًّا، ولمّا انقطع الوحي بموته فجأة، كان لا بُد أن تنشأ – عاجلًا أم آجلًا – الحاجة داخل الجماعة المسلمة إلى جمع مادة القرآن كلها في إهابٍ يعوَّل عليه. ومن ثمَّ ظهرت هذه الحاجة بموت عددٍ كبيرٍ من الذين حفظوا مقاطع أطول من القرآن، وتنسب الروايات الفضل في جمع القرآن هذا للخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل، حتى ولو اتفق كثير من هذه الروايات في الخطوط الأساسية، إلا أنها تختلف في تفاصيل مهمة؛ فالمصادر ملوّنة منذ البداية بنزعات ذاتية غير موضوعية في كثير منها.
* تنبيه…
هذا المقال هو الثالث والأخير؛ فقد دعت الضرورة إلى توقف هذه المقالات، نظرًا لأن ما يأتي من أمورٍ لا تحتمله المقالات القصيرة، ويحتاج إلى كثير من الإحالات بالإضافة إلى ذكر المصادر والمراجع التي تذكر الآراء أثناء عرض المادة العلمية، ومن ثمَّ سأحاول إخراج «تاريخ النص – دراسة في معرفة تاريخ القرآن الكريم» ككتابٍ جامعٍ.