المساومة التاريخية بوصفها شرطاً وحيداً لوقف الحرب وتلافي مآل الانهيار الكلي في السودان
يتَّسم الفضاء العموميُّ في السودان والحقل السياسي والفكري بشكل خاص بافتقاره للمعرفة سواء عبر الانفتاح عليها أو عبر إنتاجها، إذ لا تُمارَس مهمة إزعاج السُّلطة ورَفْض الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المعطوب وفقاً لأسس منهجية متينة.
ولا تُمارَس عملية نَقْد خِطابها السائد وأيديولوجيا الحكم الخاصة بها وفقاً للهوية المعرفية لمفهوم النَّقْد التي تكاد أن تُطابق وتُحاكي هوية الفلسفة كمشروع نَقْدي يتميز بالكلية، ويحرص على ألا يَضيعَ الإنسان في واقع مُزيَّف أو يستسلم لحقيقة باطلة أو يتوهَّم بقدسيَّتها وأنها مُطلَقة وأبديَّة.
وعوضاً عن هذا يُمارَس النَّقْد في المجال السياسي والفكري السوداني على أنه لحظة رفض لمُعطى ما، إما لتعارضه مع مصلحة وامتيازات المؤسسة أو الفاعل السياسي، أو لدوافع نفسية وذاتية، وفي جميع الأحوال الجوهر المعرفي للنَّقْد غائب تماماً كما المعرفة، والعمل على تغييبه يعني الانغلاق في زَيْف الواقع والأيدولوجيا وقَطْع الطريق أمام التغيير والحرية والازدهار.
كما يتَّسم أغلب الفاعلِين السياسيين في هذا الفضاء إما بأزمة الاغتراب عن الواقع بكافة شروطه الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والعوامل التاريخية، والتفكير من داخل مشاريع لا تُوائِم ولا تتوافق مع هذه الشروط، وإما باللامنطق. فالفئة الأولى تُمثِّلها عدة فئات أبرزها اليسار الشيوعي في السودان بوصفه فاعلاً سياسياً يعيش في عالَم مُتَخيَّل خاص به لا يمتُّ لواقع القضية السودانية بِصِلَة، قوام هذا الواقع المُتَخيَّل هو المنظومة الرأسمالية بتفاوتاتها الطبقية بوصفها مصدراً للأزمة والصراع في السودان.
ويكمن الحل في إحلال النظام الاشتراكي الماركسي مكانها وتذويب التفاوتات الطبقية، وما يجعل هذه الرؤية مُتَخيِّلة ومَحضُ خُرافة أن الواقع الاقتصادي والتطوُّر التاريخي لأنماط الإنتاج في السودان يروي عكس هذا تماماً، فالمجتمع السوداني أحد نماذج المجتمعات التي تنطبق عليها رؤية الفيلسوف ما بعد الماركسي جورج لوكاتش القائلة بأن ثمَّة مجتمعات لا يمكن أن تُقرأ حالتها الاقتصادية عبر المنهج الماركسي، وتحتاج إلى مزيد من التنقيب والتحليل لفهم علاقات القوى والإنتاج بداخلها. وأيضاً هو مجتمع تنطبق عليه معايير مفهوم “المجتمعات ما قبل الرأسمالية” من غياب التمايزات الطبقية، غياب نمط الإنتاج الرأسمالي وتوجيه الصراعات وفقاً لشروط الانتماءات البسيطة مثل علاقات الدَّم والطائفة والقبيلة.
هذا الوعي البسيط من عوامل إثنيَّة وطائفية هو ما يحرِّك صراعاتها وليس الوعي الطبقي والمصالح الطبقية، وليس هذا وحسب، فبجانب المشروع السياسي المُتخيَّل ثمَّة مُفارقة وتناقُض مع الأيدولوجيا التي تُحرِّكه، فاليوم يُكمل هذا الحزب 77 عاماً من الاغتراب عن الواقع والعيش في آخر مُتخيَّل، ويأتي الاحتفاء في صورة تأكيد على موقفه الرافض للحرب. وهنا يأتي التناقُض الذي يدفعني للتساؤل؛ لماذا يرفض اليسار الشيوعي السوداني مبدأ العنف السياسي سواء في صورة حربٍ أو غيرها وللعنف موقع أصيل وضروري داخل الأيدولوجيا الماركسية فهو الشرط الذي يُحقِّق عملية الانتقال والتحوُّل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الشامل؟
والإجابة هي أن صورة العنف السياسي الحالية التي تمرُّ بها السودان لا تُوافِق رؤيته الطبقية للعنف، والتي تتمثَّل في صورة ثورة البروليتاريا العنيفة وهذه الصورة لن تتحقَّقَ أبداً، وهذا ليس تكهُّناً بحركة التاريخ، وإنما موقف محدَّد بواسطة معطيات الواقع القائلة بأنه لا وجود لنظام طبقي بالمعنى الماركسي في السودان، وبشكل عام اختفت البروليتاريا على مستوى المجتمعات الرأسمالية الناضجة والمتوحِّشة، فبِحدِّ تعبير فيلسوف مدرسة فرانكفورت النَّقْدي هربرت ماركيوز أن البروليتاريا لم تَعُدْ موجودة، وقد نَسَت أنها بروليتاريا بفضل التحسينات والتطوُّر الذي طرأ على الرأسمالية. لقد صادرَت ذاكرتها وأنسَتْها دورها التاريخي الذي افترضَتْه لها الماركسية.
لذلك، أتمنَّى أن يمتهنَ اليسار الشيوعي في السودان مهنة أخرى غير السياسة أو يَضمَحِلَّ ويختفي، فطبيعة علاقته بطبيعة الصراع السوداني المبنيَّة على خيالات تجعل منه مهزلة سياسية، وينطبق الأمر نفسه على الأحزاب الليبرالية التي تتصوَّر أن النموذج البرجوازي الليبرالي للدولة يمكن أن يُفرَض ويُصنَع بواسطة الرأس التنفيذي للدولة. أما الفئة الثانية من الفاعلِين، والتي تتَّسم باللامنطق، هم جماعات الإسلام السياسي بشكلَيهم؛ القُدامى من أحزاب على شاكلة المؤتمر الوطني، والمؤتمر الشعبي، وحزب الأمة، والأحزاب الاتحادية الأصل، والتجمُّع الاتحادي وغيرهم، أو الجدد أمثال الحركة الوطنية للبناء والتنمية، وجماعة الأحياء والتجديد، وحزب تيار المستقبل…إلخ.
يكمنُ اللامنطق هنا في أنَّ هذه الأحزاب التي يُدير الإسلام السياسي عقلها وتَوجُّهها مهما تجدَّدت تسمياتها ومقولاتها؛ تظلُّ ترفض شَرْطَي العلمانية والديمقراطية في بنية وتركيب الدولة الحديثة بوصفه نموذجاً فرضَتْه علينا في السودان وعلى العالم أجمع ظرفيَّةُ حركة الاستعمار وليس حركة تاريخنا.
وفي الوقت الذي يرفضون فيه العمل على تَبيئَة واقعنا داخل هذا النموذج؛ لا يملكون أدنى فلسفة سياسية لبناء الدولة وتقديم نموذج سياسي وهيكلي لها، ومُبرِّرات الرفض تأتي كمقاومة لأيِّ محاولة لمصادرة جملة من الامتيازات الأبوية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والنفسية منهم.
وليس هذا وحسب، فمنهم من يمضي أبعد ويُجسِّدُ سذاجة وفضيحة أخرى في الفضاء السياسي السوداني عبر محاولته لتوليف مشروع سياسي عبر الجَمْع بين مفهوم الديمقراطية وعلاقات الانتماء البسيط، مثل الأحزاب الاتحادية سواء الأصل أو التجمُّع الاتحادي التي تتبنَّى الديمقراطية بشكل زائف؛ وهي ذات بنية طائفية وعنصرية معقَّدة، وحزب الأمة أيضاً كحزب يدافع عن التُّراث السياسي والاجتماعي لمؤسسة الرِّق في تاريخ السودان الحديث وما خلَّفهُ من امتيازات اقتصادية واجتماعية للأسرة المالكة للحزب. آل المهدي الذين امتهَنُوا عارَ تجارة الرَّقيق واستعباد الناس وما صاحَبَهُ من ممارسات أخرى شنيعة غير إنسانية وغير أخلاقية، ومنهم من نمَّقَ توجُّه الإسلام السياسي خاصَّتهُ وعقله السياسي الإسلاموعروبي بتبنِّي مسألة تحيُّز الدولة لصالح كياناتٍ مع تضافُر عوامل تاريخية مثل الاستعمار؛ ممَّا رسَّخ لنظامٍ من التفاوتات الاجتماعية من خطاب التحليل الثقافي وجَدليَّة المركز والهامش مثل تيار المستقبل، وهو تبنٍّ تكتيكيٌّ قوامُه الإقرار بنَسَقِ التمركُز والتهميش كحقيقة واقعية قائمة، من جهة لتوخِّي فخِّ الاغتراب عن الواقع والعمل على إعادة إنتاج هذا النَّسَقِ العنصري عبر رَفْض الديمقراطية والعلمانية، والافتقار لفلسفة سياسية واضحة لبناء نموذج بديل للدولة الحديثة والعَجْزِ التام واستحالة إنتاج واحدة من جهة أخرى.
وأيديولوجيا الإسلام السياسي بشكلٍ عام هي أيديولوجيا مُحمَّلة بجملة من التَّناقُضات، ففي الوقت الذي تُلغي فيه التفكير والرغبة في مُواءَمة الحالة الديناميكية والمتطوِّرة والمتغيرة للمجتمع؛ تحاول أن تتبنَّى سؤال الدولة وتقتحم مجال الفلسفة السياسية تطفُّلاً وعَنوة، القائلة بأن لا مجال لما هو مقدَّس وثابت في حقل الإجابة عن ماهو مُتغيِّر ومتطوِّر مثل قضية الدولة. ولذلك هي قضية تَدرُسُها وتُحدِّد نظرياتها ومدارسها مناهج محدَّدة وفقاً لهذا المعيار وهي السوسيولوجيا، والفلسفة، والتاريخ، والقانون.
وتتعدَّد المنظومات السياسية والفاعلون في الحقل السياسي السوداني، وتتعدَّد معهم أزماتُهم، ولكن مهما اختلفت المسميَّات والمقولات والشعارات ظاهرياً، ثمَّة قاسم مشترك بين هؤلاء وجوهر موحَّد يدير ويوجِّه فِعلَهم السياسي؛ وهو أنهم حُرَّاس وضعية تاريخية مُختلَّة، أي حُرَّاس ومدافعون عن ماضٍ وحاضر معطوب وخرب للدولة في السودان. معاييره تقسيم الناس عنصرياً بداخلها إلى مجموعات أدنى وأخرى أرفَع وفقاً لشروط إثنية وعرقية وثقافية وجندرية، ووفقاً لمواقعهم داخل منظومة الرِّق في تاريخ السودان الحديث. لقد اختفت هذه المنظومة من ناحية ممارسة تقليدية، إلَّا أنها لا تزال تُمارَس سياسياً واجتماعياً بواسطة الدولة وثقافة سُلْطتها.
وأيضاً، قوامُ هذا الماضي والحاضر الخرب عدم التَّكافؤ في تقسيم فُرص السُّلطة، والوصول إلى مصادر الثورة وتأسيس الموانع الهيكلية التي تَحُولُ دون استفادة بعض المجموعات من فُرص وموارد الدولة، وقوامه أيضاً الانفصالات السياسية والحروبات التي تُشَنُّ بواسطة جهاز الدولة على بعض المجموعات والجغرافيَّات دون الأخرى، والإفقارُ للشعب ورَداءة خدمات المؤسسات والأنظمة الصحيَّة، وتعريبُ التعليم وهويَّة البلاد قسراً، واستبعاد وتهميش النساء سياسياً واجتماعياً واقتصادياً.
ويحرسُ هؤلاء الفاعِلون السياسيِّون ثقافة عنصريَّة للسُّلطة في السودان، ظلَّت تُدير الدولة منذ الاستقلال مهما تعدَّدت الانقلابات العسكرية والأحزاب التي توالَت على كُرسيّ الحكم عبرها، تُساندها وتُعبِّد لها الطريق عوامل تاريخية عدَّة ارتبطت بكيفية تَشَكُّل جهاز الدولة في 1821م.
هذه الأيديولوجيا العنصرية للدولة والمحروسة بواسطة الجيوش وأنظمة الحكم، والمعارضة التي تُقاسِم أنظمة الحكم ذات العقل السياسي، ولا يتجاوز خلافها معها دائرة استبعادها من مواقع اتِّخاذ القرار، ظلَّت تدير جهاز الدولة بشكل خرب وعنصري ومُستبِد أفضى لتعميم ظاهرة الحرب كوسيلة بقيَت تُمنهِج عبرها نسقاً من التَّمركُز والتهميش لتطالَ جُلَّ جغرافيات البلاد في 15 أبريل المُنصرم سنة 2023.
فالحرب ليست ظاهرة جديدة اندلعت مؤخراً في السودان، بل هي أحد أهم أدوات السُّلطة في نَفِي وإلغاء بعض الكيانات داخل الدولة، فهناك حرب الدولة مع جنوب السودان التي استمرَّت 17 عاماً وخَلَّفَت أكثر من نصف مليون ضحية، والحرب في دارفور عبر ذراع السُّلطة المُتمثِّل في مليشيا الدعم السريع ذات الـ 21 عاماً ولا تزال مستمرَّة إلى اليوم. والحروبات المتقطِّعة في إقليم جنوب كردفان وغربه والنيل الأزرق وشرق السودان، وتأجيج جهاز الدولة للاقتتالات القبَليَّة إما بالانحياز لأحد الأطراف، وإما عبر تهيئة ظروف اشتعال القتال وعدم التَّدخل بعدها.
والحرب اليوم انتقلت من كونها أداة تحصرها السُّلطة في جغرافيات محدَّدة، وأصبحت مُهدِّداً حقيقياً وجادَّاً لاستمرار دولة في السودان، ومَدخَل نحو انتحار شامل لجهاز الدولة وتَفكُّكه. وما يثيرُ القلق ويضاعف مؤشِّرات التحوُّل نحو مآل انهيار وتفكُّك الدولة هو الكيفيَّة التي تتفاعل بها الأحزاب والتكتُّلات السياسية مع حالة الحرب الحالية، ومسألة تأسيس حلول لها من جهة، والكيفيَّة التي يتفاعل بها طَرَفَا الحرب عسكرياً وسياسياً من جهة أخرى، وهي كيفيَّة قوامُها الاختباء والهرب من الجذور التي أفضت إلى تدهور الصراع السياسي الثقافي في السودان وقَفزِه نحو عتبات التفكُّك، وهو تجنُّب متعمَّد الغرض منه المحافظة على النموذج العنصري للدولة، والمُنحاز لمصلحة كيانات محدَّدة، والمُحقِّق لمصالح أجنبية حليفة ونصيرة ومُدبِّرة للانقلابات العسكرية في السودان، وحريصة على قَطْعِ الطريق أمام التَّغيير والتحوُّل السياسي نحو الأفضل، ولكن من دون أن تُزاحِم الجيش في السودان قوى أخرى في الحكم فيضطَّر إلى اللُّجوء لخيارات مثل العنف السياسي لاستبعادها .
وما بصدَدِه مقالي هذا هو الحديث عن طبيعة الصراع وجوهر الأزمة التي وصلت إلى تعميم ظاهرة الحرب، وأيضاً تقديم رؤية وقف التدهور الشامل من داخل خطاب التحليل الثقافي، بوصفه المدرسة الفكرية والسياسية الوحيدة التي فهمت حقيقة الصراع في السودان دون مفارقة للواقع واغتراب عنه وبموضوعية عالية.
كما أنَّ التحليل الثقافي هو منهجٌ قد أَحدثَ تحوَّلاً وثورةً في مجال الكتابة الفكرية السياسية في الفضاء العُمومي السوداني عبر انفتاحه على العلوم الإنسانية من سوسيولوجيا وأنثروبولوجيا، وعلى الفلسفة والدراسات الثقافية والتحليل النفسي في فهمه لأسئلة الصراع، دون أن يُلغي خصوصية السياق السوداني وعوامله التاريخية والحضارية، وقد صَدَّرَ شكلاً معرفياً رصيناً لممارسة النَّقْد في هذا الفضاء، سواء كان نقداً لمختلف خطابات السلطة أو مشاريع الفاعلين السياسيين، أو نَقْداً ذاتياً للمنهج نفسه.
وبالتأكيد هذا الانقلاب المعرفي والسياسي لم يَسلَم من حملات التشويه الممنهجة والمُنظَّمة بواسطة حرَّاس الوضعية المأزومة وبواسطة السُّلطة نفسها، فالعمل على تصديره بشكل مشوَّه وإفراغ مقولاته من مضامينها الأصلية؛ هو أسلوب مقاومة لعملية تهديد امتيازاتهم وزعزعة وجود نَسَق التمركُز والتهميش بواسطة هذا المنهج، ومستقبل مشروع الأسلمة والاستعراب القسري في السودان.
ويأتي توضيح هذه الرؤية عبر محورَين، يتمثَّل الأوَّل في تحديد طبيعة الصراع من وجهة نظرِنا في مَنهج التحليل الثقافي، والثاني طَرْحُ وسيلة مخاطبة الأزمة الحالية بشكلٍ جذريٍّ ومُهدِّدات تَحقُّقِها.
أولاً: الصِّراع في السُّودان بوصفه ثقافياً بامتياز
نحن نفهم في مدرسة التحليل الثقافي الصراع في السودان عبر الاستعانة بعدد من الأدوات المعرفية المُستلهَمة من فلسفة التاريخ عند هيغل، بُنيويَّة كلود ليفي شتراوس، التحليل النفسي الفرويدي، أنثروبولوجيا الثقافة، إسهامات أنطونيو غرامشي، النَّقْد الثقافي عند محمد عابد الجابري، ومقولات نَقْدية ثقافية لعبد الله عبد الدائم وغيرها من المصادر.
وظِّفت لإعادة قراءة تاريخ السودان الحديث لمحمد سعيد القدال ولكن من داخل شروط منهجنا، وهي شروط تتعارض مع قراءة القدال الماركسية له، وبالرغم من اختلاف منهجنا جَدليَّة المركز والهامش مع هذه القراءة، إلَّا أنَّ اختيار القدال حدَّدَتْه خلفيَّتُه الماركسية القريبة من المفهوم الأكاديمي للتاريخ وليس المفهوم السياسي.
فإن أردنا أن نفهم حاضرنا على مستوياته الثلاث، لابُدَّ أن نقرأ العوامل التاريخية التي شكَّلت حياة الناس اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، ولابُدَّ أن تعكس كيف تعاملَ الناس في المجتمع السوداني مع بعضهم البعض في مختلف مراحل تشكُّله وكيف أداروا أنظمة الحكم وعلاقات إنتاجهم، ولابُدَّ أن نفهم وضعية جميع مكوِّنات المجتمع في مختلف مراحل تاريخ البلاد كانت على أيِّ شاكلة، وأن نرفض الكتابة غير الموضوعية التي تخدم أغراضاً سُلطوية والمُجزِّأة للتاريخ التي تركِّز على تأريخ التحوُّلات السياسية والعسكرية فقط، وهو المَنحى السَّائد في مجال كتابة التاريخ في السودان.
ولكي نفهم كيف تؤثِّر العوامل التاريخية على الحاضر ومُعطياته؛ لنتوقَّف قليلاً في المفهوم الجَدَليِّ للتاريخ عند هيغل، فهو يَفترضُ أنّ الجَدَل هو قانون عام لفهم كيفية سَير الفكر والطبيعة والتاريخ، إذ يُمثِّل كل واحد منها حقل كلية وما يحويه من عناصر يُطلَق عليها الوحدات المُتناقضة، وتمرُّ هذه الوحدات بعلاقات جَدليَّة مستمرَّة فيما بينها وفقاً لقوانين يفرضها حقل الكلية تَضمَن استمراريتها داخله أو إنتاج علاقات جديدة. والدولة هي وحدة داخل حقل الكلية المُسمَّى بالتاريخ، وتُمثِّل أيضاً وحدة مُتناقضة فيه ولذاتها تُمثِّل حقل كلية يحوي جملة من النَّقائض سواء أحداث سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية في تاريخها.
هناك لحظتان مفصليَّتان في تاريخ السودان الحديث، حدَّدتا شكل الصِّراع فيه والعلاقات الاجتماعية وشكل العلاقة بالسلطة بداخله، وهما الاستعمار بحقبتَيه التركي المصري والإنجليزي، ومؤسسة الرِّق، وكلتا اللَّحظتَين مترابطتان. فاستعمار محمد علي باشا للسودان عام 1821 هو الظرفيَّة التي ضمَّته بحدوده السياسية قبل انفصال جنوب السودان، ولأول مرَّة في تاريخه وحِّدت جميع جغرافياته تحت قبضة حكم مركزي، وأدارت شؤون البلاد وفقاً لنموذج بيروقراطي قائم على نظام الدواوين.
وهذه المجهودات ليست تنمية للمجتمع، فالاستعمار هو نظام تخلُّف وطَمْس للذَّاكرة الثقافية للشعوب بقدر ما هي تعبيدٌ للطريق نحو تحقيق الاستفادة القصوى من استغلال الدولة ومواردها، ولم يقتصر استعمار محمد علي باشا في استغلاله لموارد البلاد على تهيئة هيكل عملها فحسب، بل حرص على تحقيق استراتيجية أخرى تَخدُم أحد أهم دوافعه الاستعمارية المتمثِّلة في توسيع القاعدة العسكرية لجيوشه عبر ممارسة الرِّق، فأتت هذه الاستراتيجية في صورة تحالُف نُسميِّه في منهجنا جَدَليَّة المركز والهامش بتحالف الهمباتا (تجار الرَّقيق). وهو حِلْف بين محمد علي باشا وعدد من الكيانات الحاملة للثقافة الإسلاموعروبية، وقد كانت المُبرِّرات العامة للحِلْف ثقافية بامتياز تتمثَّل في تعريف فِعل ممارسة الرِّق وجَلْبِه لمحمد علي باشا على أنه خدمة لمصالح الإمبراطورية العثمانية الإسلامية وتَمَدُّد هذه العقيدة.
ولمَّا قام التحالف وامتَهنت هذه الكيانات الرِّق كجريمة غير آدمية وغير أخلاقية؛ لم تتسِّع قاعدة محمد علي باشا العسكرية فحسب، بل توسَّعت حركة تجارة الرَّقيق الإقليمية والعالمية نتيجة لصادرات السودان من الرَّقيق، وأيضاً سَخَّرت هذه الكيانات المُسترِقَّة (بكسر الراء) الرَّقيق لخدمتهم في منازلهم، وفي الزراعة وعمليات الإنتاج.
وتجارة الرَّقيق هي من السرديَّات والحقائق التاريخية المسكوت عنها في تاريخ السودان وفي خِطاب السُّلطة، وقليل ما يُكتَب عنه بشفافية ودِقَّة بِيَد أنه شرط حاسم في تشكيل حاضر الدولة.
يشير د.جوك مادوت أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة بنسلفانيا في أطروحته غير المترجمة للعربية “الحرب والعبودية في السودان” “War and slavery in Sudan” وهي مرجعية تاريخية دقيقة لفهم منظومة الرِّق في تاريخ السودان من حيث التَّشكُّل وجملة الممارسات غير الآدمية والبشعة التي مورست في حقِّ من تمَّ استرقاقه، والسياق الزماني الخاص بها المُقِرِّ بأن الرِّق لا يزال حتى وقت قريب بعد التسعينيات يُمارَس بشكل مُتقطِّع في جغرافيات محدَّدة، ولا تزال بعض الأُسَر إسلاموعروبية الثقافة تملك رقَّاً قد ورِثَتْه.
كما أوضح د.مادوت أنَّ عملية الاسترقاق هذه رافقتها جرائم أخرى، تتمثَّل في التجريد من الحقوق والكرامة والإخصاء الجنسي والانتهاكات الجنسية. ويأتي السؤال الجوهري هنا مَن المُستَرِقُّ (بكسر الراء) ومَن المُستَرَقُّ (بفتح الراء) داخل منظومةِ الرِّق هذه؟
يرتبط تمايُز الموقعَين هذين بعامِلَي الثقافة والعِرق كعامِلَين يحتلان موقعاً استراتيجياً داخل الصراع في السودان ويُحدِّدان طبيعته أيضاً. والثقافة مفهوم واسع ومتعدِّد التعاريف، إلَّا أنَّنا يمكن أن نَستلِهم تعريفاً لها من أعمال ديفيد انجيلز وجون هيوسن في سوسيولوجيا الثقافة ذا طابع شامل، وهو أنها جملة من الأفكار والعقائد والرُّموز التي تُشكِّل تعريف وهوية جماعة ما لنفسها، وتُحدِّد نظرتها للآخر عبر ما تُصدره من معانٍ وتُحدِّد فِعلها وممارساتها، أما العِرق فهو ليس حقيقة بيولوجية، فأنا مُتحفِّظة تجاه تحديد ماهيَّة مسألة العِرق عند تناولها في مختلف السياقات، ومن وجهة نظري المُتأثِّرة برؤية رائد حقل الدراسات الثقافية جون استوري أتعاملُ مع العِرق كمتخيَّل سياسي بُنِيَ بواسطة الاستعمار، وما أنتجَ من معرفة زائفة تبرِّر لدونية الآخر غير الأبيض والبعيد عن سياق الحداثة مثل الداروينية الاجتماعية وغيرها من المعارف العنصرية وغير الموضوعية، وبُنِيَ أيضاً بواسطة حركة الرِّق العالمية. فالبيولوجيا تُقِرُّ بأنَّه لا توجد اختلافات بين بَني الجنس البشري تجعل من بعض أبنائه أسياداً وآخرين أدنى. وأما العوامل التي تحدِّد العِرق مثل اللون، فهي عوامل لا تُصدِر معانٍ فنحن من نُضفي عليها المعاني.
وقد أضْفَت السياسة والاستعمار والرِّق المعنى لمفهوم العِرق وصدروه للممارسة العنصرية، لذلك يُمارَس العِرق كمتخيَّل مُحكم البناء عبر جملة من المبرِّرات المعرفية والسياسية بصورة واعية أو غير واعية وليس كحقيقة بيولوجية، لذلك ففي استعمالي لدلالة العِرق فأنا أعنيه كمتخيَّل وليس حقيقة ذات وجود يُصدر معنى مفاده تحقير أناسٍ وسيادة آخرين. فالذي امتهن تجارة الرقيق طوال تاريخ السودان الحديث؛ كان الكيانات التي تنتمي إلى حقل الثقافة الإسلامية العربية؛ من يعتقدون أنَّهم ممثِّلون رسميُّون لعِرق العروبة المُتخيَّل في السودان. والآخر الذي راح ضحية لهذه المنظومة هو الذي ينتمي لحقل الثقافات الأصلية في السودان والتي تُوصَم بكونها إفريقية.
تحتَّل فئة ممارسِي جريمة الاسترقاق جغرافيات شمال السودان والوسط ومناطق أخرى، وتحتَّل فئة المُسترَقِّين (بفتح الراء) مناطق جنوب السودان وجبال النوبة ودارفور والنيل الأزرق. والثقافة الإسلاموعروبية هي الثقافة التي تحتَّل مركز الصراع داخل حقل الكلية المُتمثِّل في الدولة، وهي ثقافة قد انتقلت للسودان بمختلف طرق التَّلاقُح الثقافي، واهتمَّ عدد من النُّقاد الثقافيين العرب بتحليلها نَقْدياً بوصفها عاملاً رئيسياً في تخلُّف وركود المجتمعات العربية، ومحمد عابد الجابري عبر مجموعته “نَقْد العقل العربي، البنية، التكوين والعقل السياسي” هو أبرز هؤلاء النُّقاد الثقافيين الذين خَلَصوا في تحليلهم لهذه الثقافة إلى أنها ثقافة محمَّلة بعدد من عوامل التخلُّف النفسية والاجتماعية المُتمثِّلة في التعصُّب العِرقي والانغلاق في حيِّز زماني ومكاني مُقدَّس تستمد منه هذه الثقافة مكنوناتها، وهي بواكير الجاهلية الأولى في شبه الجزيرة العربية، ورَفْض القطائع التاريخية مع التراث، والتمييز العنصري تجاه الآخر المختلف لونياً ودينياً ونوعياً، فالمرأة في المُخيِّلة الثقافية العربية خاضعة لجملة من الأحكام الصادرة عن بُنية وعي تناسلية وجنسية وإنجابية صَرْفَة تقتضي احتقارها وحرمانها من التواجد في فضاءات أخرى غير الدور الإنجابي والجنسي مثل السياسة أو الاقتصاد أو الفكر.
وأيضاً الثقافة الإسلاموعروبية هي ثقافة تحتقر العمل اليدوي والإنتاج، وتُقدِّس الاقتصاد الطُّفيلي القائم على التجارة أو الغنيمة. وهذه الأزمات المحمَّلة بها الثقافة الإسلاموعروبية تتجلَّى بشكل صريح ومتكامل في فكر وممارسة حاملِيها في السودان وهنا يتحقَّق مفهوم التَّماهي، وهو مفهوم صكَّه التحليل النفسي الفرويدي على أنَّه عملية تقمُّص لا شعوري لصفات وخصائص ومعايير ذات أخرى من قِبَل الفرد، ويقابل هنا الذات/ الثقافة والفرد / الجماعة.
تُصنِّف معايير الثقافة والعِرق مواقع الناس داخل الدولة أو الوضعية التاريخية، وفي منهجنا نميلُ لاستخدام مفهوم الوضعية التاريخية الذي يُعبِّر عن مجتمعات متفاوتة تاريخياً ومختلفة ثقافياً وما قبل برجوازية، أي لم تصل مرحلة ممارسة أنماط الانتاج الرأسمالية الناضجة التي مثَّلت أبرز سمات الدولة الحديثة. وضمَّ الاستعمار هذه الكيانات في حدود جغرافية وسياسية موحَّدة، أي أنَّ تَشكُّل الدولة كان ظرفاً وتدخُّلاً خارجياً وليس جزءاً من الصيرورة الطبيعية لحركة تاريخ هذه المجتمعات.
تحالُف الهمباتا خلَّفَ إرثاً من الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية لتُجَّار الرقيق وكياناتهم المستفيدة منه، وخلَّفَ إرثاً سياسياً لاحقاً بعد انشراخ هذا التحالُف نتيجةً لاختلال موازين القوى داخل دولة المستعمِر، والذي أفضى لخروجه ولم يكن مدفوعاً بوعي وطني كما يروِّج تاريخ السودان المُنحاز سُلطوياً والمصدر في الخطاب الرسمي للدولة. أي أنَّ طَرْدَ المستعمِر هو تعبير عن اختلال المصالح بينه وبين الكمبرادورات أو المُخبرِين المحليِّين حاملِي الثقافة الإسلاموعروبية. هذه الامتيازات كانت ظروفاً مكَّنت هذه الكيانات الحاملة للثقافة الإسلاموعروبية من احتلال موقع استراتيجي داخل حَلَبة الصراع وهو مركز الصراع، وفي المقابل نَحَتْ بالكيانات الأخرى إلى هامش المركز أو إلى الهامش. ومفهوما المركز والهامش المُصدِّرَين لأدبيات الفكر السياسي السوداني والفضاء السياسي قوبلا بتشويه مُتعمَّد وإفراغ لمضامينهم الأصلية، إما بوعي من قبل حُرَّاس الوضعية التاريخية المأزومة أو بلا وعي وبدون فهم من قِبَل عدد من قوى الكفاح المُسلَّح، والمركز وهوامشه ليسوا مفاهيم جغرافية وإنما ثقافية سياسية.
يعبِّر المركز عن صَفوة حاملة للثقافة الإسلاموعروبية كفلت لها ظروف تاريخية محددة جملة من الامتيازات بجانب مراكمة ثروات من تجارة الرقيق يُعَدُّ أبرزها وراثة جهاز الدولة مؤسسياً وأيديولوجياً لاحقاً. وهذه الصَّفوة تستمِّد الإحساس بالتفوق العِرقي والاجتماعي من هذه الامتيازات ومن الثقافة الخربة خاصَّتهم. ولقد هُيكِلَت مؤسسات الدولة وفقاً لهذه الثقافة الإسلاموعروبية التي صارت أيديولوجيا الحكم، وقد حُدِّدت هوية البلاد قسراً وفقاً لها، وحرصت مختلف الأنظمة التي توالت على ترسيخ وصَون مشروع هندسة اجتماعي كامل جوهره هذه الثقافة، وهو مشروع الأسلمة والاستعراب القسري للسودانيين، رُسِّخ عبر القوة المعنوية للدولة وعبر العنف المُحتكَر بواسطة الدولة. وصِيْنَ ولا يزال يُصان بجملةٍ من ميكانيزمات التمركُز التي يستخدمها المركز الثقافي السُّلطوي مثل الترميز التَّضليلي، وهو عملية استيعاب المبدعِين وقادَة المقاومة وأبرز رموز الكيانات المُهمَّشة داخل السُّلطة وما تكفله من فرص وامتيازات مع إعادة إنتاجهم وفقاً لثقافتها، والغرض منه هو العمل على إخفاء حقيقة القهر الثقافي والاستبعاد والتمييز العنصري المُمارَس على كياناتهم. والمفاوضات التي أُديرَت بين الشقِّ العسكري والجبهة الثورية التي بموجبها أشرك قيادات الحركات المسلَّحة في الحكم؛ كانت عملية ترتيب لمواقعهم داخل التَّرميز التضليلي للسُّلطة وأقرب مثال، فالتاريخ السياسي حافل بممارسة هذا الميكانزم.
إنَّ الأيديولوجيا الإسلاموعروبية ليست ثقافة السُّلطة ومؤسساتها في السودان من جيوش وقوَّات تُمارِس العنف المُشرعَن وحسب، بل هي العقل السياسي لأغلب الأحزاب المُدَّعية المُعارِضة والمُحلَل أغلبها في مقدمتي للمقال أعلاه، لذلك تتعدَّد مظاهر حراستها وإعادة إنتاجها. ولم تكن حركات الكفاح المُسلَّح في دارفور خصماً حصيفاً رافضاً للتوجُّهات العنصرية للدولة، وإنَّما خصماً هشَّاً ورخيصاً وغير وطنيٍّ في ما يحملُ من شعارات وقعَ في فخِّ الميكانيزمات شديدة التَّعقيد للمركز، فأعاد إنتاجه وأضفى مزيداً من الشرعية على وجوده، وفي الوقت نفسه بافتقارهم للرؤية الواضحة والبوصلة المعرفية عملوا على تشويه طبيعة الصراع الثقافي أو جَدليَّة المركز والهامش والوعي العام للشعب، مما دعمَ حملات التشويه المُمنهَجة بواسطة حُرَّاس هذه الوضعية المأزومة.
لقد أُديرت هذه الدَّولة بشكل عنصري وغاشِم في البَطْش والاستبداد، فدولة تحالُف الهمباتا ودولة ما بعد انشراخ التحالُف ظلَّت تنحاز وتقهر ثقافياً وتُوجِّه عنف الدولة نحو خدمة مشروع الأسلمة والاستعراب القسري، فتَشُنُّ الحروب والنزاعات وتؤجِّج نيرانها، وتُسخِّر الموانع الهيكلية من الفُرص والموارد أمام كياناتٍ دون الأخرى، وعبرَ التعليم ومؤسَّسات التنشِئة الاجتماعية تُعرِّب الجميع وتُحدِّد هويتهم قسراً، وجعلت من جهاز الدولة برُمَّته مُخبراً محلياً للنماذج الجديدة من الاستعمار وألغت السيادة الوطنية، مما خلَّفَ التدهور التنموي والتخلُّف السياسي وتفكُّك النسيج الاجتماعي، ولم تُلغِ منظومة الرِّق داخل ثقافة سلطتها التي أدارت البلاد.
وحالة الحرب الحالية ليست نتيجةً لمُزاحمة الدعم السريع للجيش في السلطة، فالدعم السريع إحدى أدوات المركز السُّلطوي والجيش هو أعتى مؤسساته ابتُكِر لتعزيز ثنائية العرب- الزرقة، أو الأسياد والعبيد والعنصرية المحروسة بواسطة السلطة وأيديولوجيتها الإسلاموعروبية، فالأسياد هم الكيانات التي تتقاسم عِرق العروبة المُتخيَّل والثقافة الإسلاموعروبية مع السُّلطة أم الزرقة -هم القبائل التي تُعرَف على أنَّها غير عربية- تساند الدولة وتنحاز للمُكوِّن الأوَّل، وتُشرعِن له ممارسة العنف تجاه الثاني نفياً وإلغاءً له، وهو أحد ميكانيزمات التمركز.
ولأعوامٍ طويلةٍ وحتى اليوم تُمارِس مليشيا الدعم السريع المُشكَّلة بواسطة المؤسسة العسكرية العنصرية القتل بالنيابة عنها وهَدْر دماء الأبرياء في إقليم دارفور وممارسة النَّهْب والاغتصاب والتشريد. وتُمارِس أيضاً بعض القبائل التي تنتمي إلى حقل ثقافة سلطة المركز تلك الجرائم في حقِّ الأبرياء ممن لا يستوفون معايير السلطة العنصرية.
وهكذا فهذه اللحظة الراهنة المُتمثِّلة في تعميم ظاهرة الحرب لتطالَ مناطق أخرى في البلاد ليست سوى تطوُّر للكيفية التي تُدير بها الوحدات المتناقضة (الأيديولوجيا الإسلاموعروبية العنصرية والمُهيكِلة لمؤسسات الدولة والعقل السياسي للنُّخَب والأحزاب السياسية، والجيش، ومحاور أجنبية، والاستعمار، ومؤسسة الرِّق، والمليشيات) الصراع داخل حقل الكلية المتمثَّل في الدولة -أو بلُغَةٍ أبسط وأكثر توضيحاً- فقد تطوَّرت علاقاتٌ جَدليةٌ جديدةٌ داخل حقل الكلية مثل علاقة صراعٍ بين متناقضَين هما الجيش والدعم السريع اللذين كانا في يومٍ من الأيام وحدة متناقضة؛ واحدة تُدير الصراع المتمثَّل في الحرب مع نقيض آخر وهو كيانات محدَّدة بالدولة لا تستوفي معايير السلطة الثقافية وفي دارفور هي ما يُطلَق عليها عنصرياً الزرقة، وليس على بعضهما البعض لقد أَنتجت جدلية المركز والهامش علاقة جديدة داخل الصراع بين متناقضَين جدد سابقاً هما الجيش والدعم السريع ضد المُهمَّشين بإقليم دارفور. ولقد فشلَ المركز السلطوي في إدارة وسائل التمركز والتهميش فبرزت علاقة جدلية جديدة وهي وحدتان تُمثِّلان المركز أيدولوجياً وثقافياً يخوضان الصراع في صورة حرب وهما الجيش والدعم السريع.
إنَّ اللحظة الراهنة في تاريخ البلاد هي حالة مَخاضٍ عنيفٍ تَمرُّ به دولة تحالُف الهمباتا المُنشرِخ قد يقود الى ولادة عسيرة تنتهي بالتفكُّك والانهيار، أو إلى بناء جدلية جديدة بمعايير أكثر موضوعية إنْ احتكَمَ الجميع للمساومة التاريخية، وتجرَّدَ ذوو الامتيازات منها، وقدَّموا التنازل لأجل المصلحة الوطنية وهو ما بصدده محوري الثاني.
ثانياً : المساومةُ التاريخيةُ كضرورةٍ لتلافي مآل تفكُّك الوضعية التاريخية المأزومة
ثمَّة أربعة مآلاتٍ ستؤول نحوها جدلية المركز والهامش أو جدل الصراع الثقافي بالسودان، خطَّها خطاب التحليل الثقافي عبر د.أبكر آدم اسماعيل منذ أواخر التسعينيات، ونحى الواقع نحو تطبيقها كاملة كما هي. وهذه المآلات تعبِّر عن احتمال تَحقُّق مصيرَين حاسمَين؛ إما أن تهدم جدلية التمركز والتهميش العنصرية، وتتبنَّى جدلية جديدة بمعايير مختلفة تقوم على الديمقراطية والعلمانية، وصون التعدُّد الثقافي، وتذويب الموانع الهيكلية وثقافة السلطة العنصرية، وتؤسِّس لواقع الوحدة الوطنية وكريم العيش بين الشعوب السودانية. أو أن تصل الأزمة إلى أفق مسدودة تَعقُبه الحرب الأهلية الشاملة وتُفكِّك البلاد إقليماً تلوَ الآخر.
وما يدعو للقلق في هذه اللحظة الراهنة أنَّ البلاد على المِحَكِّ، وهي تقفُ في نقطة حَرِجة ومفترق طريقَين وتَحومُ جُلُّ المؤشرات والمعطيات الراهنة حول توجُّهِها نحو طريق الانهيار. هذه المعطيات تتمثَّل في كيفية تفاعُل النُّخَب السياسية مع ظاهرة تعميم الحرب الحالية ورُؤاها الهَشَّة للحلول، والانشقاقات الحادَّة فيما بينها، وغيابُ نَزْعَة تحكيم المصلحة الوطنية، والإعلاء من شأنها وتقديمها على أيِّ خلافات سياسية أخرى. وأيضاً تفاعُل المحاور الخارجية مع الحرب وطبيعة علاقتهم بطَرَفَي الصراع، فلكلِّ طرفٍ حلفاء خارجيون خِفيةً يحرصون على استمرار الحَسْم العسكري بتقديم التعزيزات والدعم العسكري، وجِهَاراً مع محاور أخرى يصدعون الرؤوس بقِمَمِ الدَّعوة إلى الحل السياسي والإشراف عليها، ومن يَئِنُّ ويؤولُ إلى الزَّوال هو الوطن وشعبه المكلوم.
والمآل الأول؛ الصراع الثقافي في السودان، وهو ظاهرة الثورة ولكن بمفهومنا لها، فالثورات التي اندلعت في السودان بمختلف أزمنتها التاريخية بما فيها ثورة ديسمبر هي فِعل مقاومةٍ لم يُدفَع بواسطة وعي جمعيّ بطبيعة وجوهر الأزمة، والرغبة في تشكيل مصير مشترك ينتَشِل السودانيين من الضياع، بل حَركَّتها عوامل ضَنْكِ العيش وتردِّي الأوضاع الاقتصادية، وتزاحمت حولها النخب السياسية والأحزاب، وتصارعت فيما بينها لتظفر بإمكانية توجيه الجماهير وأدواتهم في المقاومة وفقاً لأجِنْدَتها الخاصة. وفي تصوُّرها ورؤيتها العامة للتغيير ظلَّت مدفوعة بالانغلاق حول هدف إسقاط وتغيير رأس الدولة التنفيذي فقط، وفور أن تتمكَّن من هذا؛ تتسلَّق النخب السياسية الموجِّهة للجماهير لتقاسم الرأي التنفيذي الجديد للسلطة ومواقع اتِّخاذ القرار العليا.
وعلى الجانب المقابل لا تزال الأزمة الحقيقية قائمة، وتعمل الثورات الموجَّهة سياسياً والمُتضاربة الرؤى على إعادة إنتاجها. فنموذج الثورة المنشود بالنسبة لنا نحن المدافعون عن خطاب التحليل الثقافي المتمثَّل في تَحقُّق درجةٍ عليا من الوعي بالوجود والمصير بين السودانيين تقودهم إلى فعل تاريخي مشترك يُفضي إلى بناء واقع بِقيَم وشروط جديدة أكثر موضوعية وأكثر عدل. لكن لم يَتحقَّق هذا النموذج حتى الآن.
يتلو مآل الثورة مآلاً آخر وهو تشكُّل الكتلة التاريخية، والكتلة التاريخية مفهوم قام بنحته المفكِّر الثوري ما بعد الماركسي أنطونيو غرامشي، وهو مفهوم يشير إلى تحقيق تحالفات اجتماعية وسياسية عريضة تضمُّ فاعلين ونُخَب بمختلف التمايزات الطبقية والسياسية، تلتقي مصالحهم في التغيير الاجتماعي السياسي وفقاً لفعل موحَّد، وقد عُرِف المفهوم في فضاء الفكر السياسي والفلسفي في العالم العربي بواسطة المُفكِّر والناقِد الثقافي محمد عابد الجابري في مُبكِّر الثمانينيات من خلال دراسته المُعنونة بـ “الكتلة التاريخية؛ بأيِّ معنى؟”.
ونعني بتحقُّق كتلة تاريخية في السياق السوداني؛ أن تتوحَّد جميع مكوِّنات وفئات ونُخَب الشعب السوداني مهما اختلفت خلفياتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تحت مظلَّة مصلحةٍ مشتركةٍ، وهي الضغط على النظام وثقافته السياسية العنصرية من أجل إحداث تحوُّلٍ وتغييرٍ جذريٍّ في الواقع.
وبالتأكيد لم يشهد تاريخ السودان السياسي وتاريخ الثورات حتى اليوم تشكُّل نموذجٍ ثوريٍّ يعبِّر عن كتلة تاريخية حقيقية. فهذا النموذج يشترط تقديم التنازلات من أجل المصلحة المشتركة، وأغلبية النُّخَب السياسية هم حُرَّاس للوضعية المأزومة ومدافعون شَرِسون عن ضرورة تجذُّر الأيديولوجيا الإسلاموعروبية في الحكم وثقافة مؤسَّسات الدولة. فما كان يتمُّ من تكتُّل للقوى السياسية في مشهد المقاومة لم يكن سوى نوع من التحالفات المرحلية المرتبطة بتحقيق هدفٍ مرحليٍّ لا يتعلَّق بالتغيير الجذري ولكن في أغلب الأحايين هو اقتلاع حصةٍ في السلطة. وتحالُف قوى إعلان الحريَّة والتغيير والتيار الإسلامي العريض والتحالف الديمقراطي للعدالة الاجتماعية؛ نماذج قوية على ذلك فبالتالي لم يتحقَّق هذا المآل أيضاً -مآل الكتابة التاريخية- وتبقَّى مصيران هما المساومة التاريخية والانهيار الكُلِّي للدولة. والمساومة التاريخية هي شكل من أشكال التوافق على بناء واقع جديد مع جَبْر الضَّرر والخسائر وتقديم التضحيات والتنازلات بمشاركة السلطة وقيادات مؤسسات الحكم أنفسهم وتحقيق المصالح، فهي تختلف عن الكتلة التاريخية في أنَّ الثانية لا موقع للخصم أو السلطة والنظام السياسي القائم داخلها فهي تجمُّع للضغط على النظام، أما المساومة التاريخية فالنظام نفسه هو جزء أصيل من عملية تجاوز الأزمة وبناء نظام جديد يؤسِّس لواقع العدل والحرية والسلام.
لم تتحقَّق أيضاً المساومة التاريخية في تاريخ البلاد، إذ كانت هناك محاولةٌ في التسعينيات لإجراء واحدةٍ وفشلت. وضمَّت القِمَّة التي دَشَّنَت في أسمرا نظام الحركة الإسلامية الممثِّل للنظام السياسي القائم والحركة الشعبية، حزب الأمة، الاتحادي، الشيوعي وعددٌ من الأحزاب الأخرى.
وعَنَت القِمَّة بمناقشة قضايا ترسيخ الديمقراطية والعلمانية كثقافة للسلطة بدلاً من الإسلام السياسي، إعادة النظر في مسألة التقسيم العادل للسلطة والثروة، وجَبْر الضَّرر وتعزيز فُرَص التنمية والتعليم والعمل لجنوب السودان المُتضرر من آثار الحرب الأهلية، وحمايةُ الحقِّ في التعدُّد الثقافي بدلاً عن ممارسة القهر الثقافي عبر مؤسسات الدولة. ومما أفضى لفشل هذه المحاولة هو تخاذُل الأحزاب المشاركة، ورفضها لتلك الرؤية مع تَملُّص نظام الحركة الإسلامية ورفضه لها أيضاً بشكل صريح.
ولم يكن رفْضُ حُرَّاس الوضعية المأزومة لمحاولة إحداث المساومة التاريخية هذا مجرَّد إعادة إنتاج لنَسَق التمركز والتهميش القائم، بل ضغطُ عمل على تعزيز التوجُّه الانفصالي نحو بعض أجزاءِ البلاد؛ فرفْضُ الإسلاميين هو طَرْحٌ صريحٌ لهذا التوجُّه مفاده إما القبول بالوضع المُختَّل كما هو أو مَن لم يشأ فلينفصل. وسياسة التوجه الانفصالي هذه ظلَّت أحد ثوابت العمليات التفاوضية التي جرت بين نظام الحركة الإسلامية والحركة الشعبية حتى أثمرت بنتيجة انفصال جنوب السودان وواصلَ في ممارستها الشِّقُّ العسكري في مفاوضاته مع الحركة الشعبية بقيادة عبدالعزيز الحلو حول قضيَّتَي العلمانية والديمقراطية، مما دفع الحركة الشعبية بالتوقُّف عن خوض العملية.
والآن في هذه اللحظة الراهنة لا مجال لتلافي هذا التمخُّض العنيف لدولة تحالُف الهمباتا، وترميم الغَبن والمظالم التاريخية والإدارة المُختلَّة العنصرية والمُستبِدَّة للدولة، إلَّا بالتوقُّف عن التهرُّب من المشهد الكامل للأزمة وجذورها ومخاطبتها بشكل شامل، وتقديم التنازلات عن الامتيازات السُّلطوية والاقتصادية.
لا يمكن أن يُبنى السلام والاستقرار الاجتماعي والسياسي في الدولة عبر تجزِئة الأزمة والتعامل مع بُعد منها مع تغييب بقية الجوانب والأبعاد، ولا يمكن أن يُبنى عسكرياً على أشلاء جُثث الشعب ولا عبر تغييب السيادة الوطنية. مقالي وخطابي هذا هو دعوة لكافة السودانيين والسودانيات الشرفاء الوطنيين والنُّخب السياسية والأطراف المُتنازعة للعمل على بناء مساومة تاريخية شاملة وحقيقية وخدمة المصلحة الوطنية، فما دونها هو قفزٌ مباشرٌ الى المآل الرابع لجدليَّة المركز والهامش، وهو الانهيار وتفكُّك الدولة.
نحن الآن في نقطة تاريخية حاسمة نتأرجحُ بين المساومة التاريخية والانهيار، ومحاطون بعوامل ومؤشِّرات خطيرة تُرجِّح كفَّة المآل الثاني على الأول، وفي مقدِّمة هذه العوامل؛ الرُّؤى الهشَّة والضعيفة للتحالفات السياسية والأحزاب، والآن لوقف الحرب، أيضاً عامل دعم المسار التفاوضي للوصول إلى حلٍّ سياسيٍّ يُسوَّى فيه الخلاف بين طرفَي النزاع وفقاً لتنازلات واتفاق محدَّد ووساطة أجنبية، وهذا المسار لن يؤدِّي إلى الرجوع إلى مرحلة الاتفاق الإطاري، أو الانتقال السياسي ما قبل الحرب كما يَعتقدُ أغلب داعمِيه مثل قوى إعلان الحرية والتغيير، وإنَّما هو تعبيد الطريق أمام الانتقال للانتحار الشامل لجهاز الدولة.
وما يمكن أن يجعل من هذه الحرب انتحاراً شاملاً لجهاز الدولة هو أنَّ جميع الكيانات فيها مُهيَّئة لِخَوْض احتراب واقتتال على أساسٍ إثنيٍّ، وهناك تصاعد للأصوات الداعمة لإقحام العامل القَبَلي والإثني في الحرب، فتحرُّكات الحركة الشعبية لِبَسْط نفوذها وسيطرتها في بعض أجزاء إقليم جنوب كردفان مثل مدينة الدلنج في ظلِّ انهماك الجيش في اقتتاله مع الدعم السريع، أداته التي زاحَمَتْه في السُّلطة وتمرَّدت على وصاياه، هو زجٌّ بإثنية محدَّدة داخل هذه الحرب. فالحركة الشعبية ليست مؤسّسة تعبِّر عن جميع أطياف الشعب، إنما هي منظومةٌ تتألَّف من مكوِّنٍ إثنيٍّ محدَّدٍ مهما حَوَتْ من اختلافات حول هذا الشأن بداخلها. واتِّخاذ خطوة مثل محاولة بَسْطِ النفوذ، وإن اقتضى الأمر مقاومة الجيش والصدام معه، وهو في أضعف حالاته عسكرياً الآن يعني تأجيج وتوسعة دائرة الحرب وأطرافها. لم يكن هذا الموقف تقديراً صائباً من الحركة الشعبية، ويقودني إلى التساؤل؛ على أيِّ أساس بُنِيَ هذا الفِعل؟ أيُّ تنظيمٍ هذا الذي يرغب في الهيمَنة على مناطق داخل دولة كاملة تتَّجه نحو التداعي والانهيار بدلاً عن المشاركة في عملية تلافي هذا المصير ووَقْف الحرب؟
في جميع الأحوال، إن لم يُقرّ المستفيدون من دولة نسق التمركز و التهميش من نُخَب سياسية، ومؤسسة عسكرية، ومليشيات ابتكرتها وشرعَنَتْ لها ممارسة عنف الدولة المُحتكَر بواسطتها نحو الأبرياء المهمَّشين وجميع أطياف هذا الشعب بأنَّ التدهور الحالي هو مخاضٌ عسيرٌ لدولة تحالُف الهمباتا الحبلى بتاريخٍ تراجيديٍّ من القهر والبَطْش، ومصادرة الحقوق، والاستعباد، والعنصرية ومهرجانات الموت، والقتل، والتشريد، والإفقار، والأسلمة والاستعراب القسريَّين للشعوب السودانية، والانفصالات السياسية، وإجهاض التراث السياسي للدولة الحديثة من ديمقراطية وعلمانية، وتغييبه عبر الانقلابات العسكرية وأيديولوجيا الإسلام السياسي، سيفعل الواقع والتاريخ بنفسه كما سبق وحقَّق بعض مآلات الصراع الثقافي كما هي وسيُعلَن الانهيار.
أما حُرَّاس الوضعية المأزومة من أحزابٍ تتهرَّب من مناقشة الأزمة بكافة أبعادها ممن يَتَّهمون التحليل الثقافي بكونه خطاباً عنصرياً للعَرْقَنة تعبيراً عن القلق الناجم عن تَعرية عقلهم السياسي وفَضْح المسكوت عنه في خطابهم وخطاب السُّلطة، أودُّ توجيه سؤال وجيه صوبهم؛ منذ متى ووَصْفُ ما يدور في الواقع من ممارساتٍ عنصريةٍ والحديث عن مكنونات التاريخ التي بَنَتْ الحاضر في مقدِّمتها تجارة الرَّقيق وممارسات ثقافة السلطة في السودان هو سلوكٌ عنصريٌّ؟
وفقاً لعملية التشويه المُمنهَجة هذه إذاً ينبغي أن يُطلَق على تاريخ السودان الحديث وما يحوي من أحداثٍ مصيريةٍ شكَّلت الحاضر “خطاب العَرْقَنة العنصري”. فما نفعله نحن في خطاب التحليل الثقافي ليس سوى سَرْد لما يدور أمام أم أَعيُن الجميع ومسمعهم ورفضاً لتجزئة التاريخ وتوظيفه سُلطوياً.