البجعة السوداء: الخروج من شرنقة الطفولة إلى الأنوثة | ياسمينا جمال
يعلم جيدا أيّ متابع لأفلام أرنوفسكي أنّ هذا الأخير يحب تقديم قصة البطل المهووس بالوصول للكمال فيما هو شغوف به، حيث نتابع معه رحلة البطل حتى نشهد اِنهزامه التام أمام تلك النزعة المثالية التي تلتهم صاحبها. في فيلم “البجعة السوداء” تتجلّى هذه التيمة بقوة، لكن هل هي حقّا التيمة الرئيسة للفيلم كما تخيّل الكثيرون؟ رأيت العديد من التفسيرات التي تركٌز على هذه الفكرة بشكل خاص، لكنَّ معضلة بطلتنا الأساسية هنا في رأيي لأساسية لم تكن نزعتها المثالية، إنما رغبتها اللاواعية في التحرّر منها.
كنت دائمًا أفكر في عمل شئ برواية المزدوج لديستويفسكي، وعندما ذهبت لمشاهدة عرض بحيرة البجع وأدركت أنّ ذات الراقصة تؤدي كلا الدورين: البجعة البيضاء! والبجعة السوداء، قلت: نعم! وجدتها.
المخرج دارين أرونوفسكي
صراع بين شقين متناقضين
يقول النفساني الشهير كارل يونج أنه خلال نمونا يحاول المجتمع بِشتّى الطرق تقليم أظافرنا عبر كبت ذواتنا العفوية وترويض رغباتنا الغريزية، فنتعلّم بناء قناع اِجتماعي نقدِّم أنفسنا عبره للعالم. قناع يمثل كل ما هو حضاري ومستقيم ومقبول اجتماعيًا، يطلق عليه يونج «البرسونا – Persona» لكن تحت هذه الذات المرقَّعة، تقبع ذات أخرى تنطوي على كل تلك الرغبات المدفونة والغرائز المكبوحة. ذاتٌ أكثر عنفًا، أكثر «جموحًا وأكثر نبضًا بالحياة، يطلق عليها يونج اسم «الظل – Shadow».
نبدأ الفيلم مع «نينا» الفتاة ذات الثمانية وعشرون ربيعًا التي لا تزال عالقة في طور الطفولة. كل شى يحيط بها ينضح بالبراءة والعذرية ابتداءًا بغرفتها المزيَّنة بالدمى مرورًا بجسدها الذي يكاد يخلو من معالم الأنوثة انتهاءّا بسيطرة الأم الكاملة على حياتها. فكما تروي الأسطورة أنّ (أوديت) فتاة عالقة في جسد بجعة بيضاء، فـ نينا عالقة أيضا في برسونا الفتاة الهشَّة البريئة التي فرضت عليها
يبدو من الخارج أنَّ نينا مجرَّد فتاة أخرى تسعى للكمالية، لكن منذ البداية لا نستطيع إغفال أنَّ الجو العام يشير إلى أنَّ هناك شئ مريب وغامض يدور في الكواليس يجعلنا ندرك أنَّ للقصة أبعادًا أعمق. فالصراع النفسي الحقيقي يبدأ مع نينا عندما يتم اختيارها لتأدية دور أحلامها -كما نرى في المشهد الأول من الفيلم- دور البجعة الرئيسية في معزوفة تشايكوفسكي الشهيرة بحيرة البجع.
تمثّل نينا الخيار الأمثل لأداء دور البجعة البيضاء التي تتصف بالرقة، والعذوبة والسذاجة، لكن التحدّي الحقيقي يكمن في تغيير جلدها لتجسيد نظيرتها السوداء التي هي رمز للغواية والمكر والشهوانية.
أيهما حقيقية .. البجعة البيضاء أم ظلها؟
نشعر بالاثارة النفسية تتصاعد ونحن نتابع رحلة نينا المضنية في التحوُّل للنقيض، خصوصا مع ظهور «ليلي»، الباليرينا المنضمَّة إلى الفرقة حديثّا التي تملك كل ما تفتقر إليه نينا من أنوثة وحيوية وهالة جذابة تحيط بها. فحتى المرَّة الأولى التي تراها فيها نينا، في عربة المترو، تبدو ليلي نسخة طبق الأصل من نينا، لكن نسخة أكثر سوداوية.
يعزّز الشعور بالتوتُّر والقلق على مدار الفيلم موسيقى (كلينت مانسل) الانفعالية التي تتأرجح بين ألحان رقيقة وألحان محمومة مثيرة للأعصاب، لتبرز الصراع المحتدم بين شقي البطلة وتعمل على بناء التصاعد الدرامي. وتدرك نينا أنها كي تصل للكمال المنشود عليها تمزيق قشرة البرسونا المسيطرة عليها وإطلاق العنان لذاتها الخفية، أى ظلّها. ينسج أرونوفسكي هذا الظلّ بخفة مستترة ويقحمه في بعض التفاصيل التي لا يسهل ملاحظتها مثل ظهور أصوات شبحية خافتة في الخلفية في بعض المشاهد كمشهد مواجهتها لـ «بيث»، بطلة الفرقة السابقة وملهمة نينا، ومشهد القبلة الأولى بينها وبين مخرج الرقصة النرجسي «توماس»، الذي أدرك منذ البداية أنّ نينا تملك بداخلها البجعة السوداء لكنها فقط تحتاج إلى إفلات يديها والسماح لها بالخروج.
أحد المشاهد المفتاحية لفهم الصراع الدائر داخل عقل نينا هو عندما تستيقظ في سريرها في اليوم التالي لليلة حفل استقبالها، وتبدأ في مداعبة نفسها جنسيًا، حيث نصحها بذلك توماس كبوابة للاتصال مع جانبها الجنسي الذي استشف بسهولة أنها لم تستكشفه بعد. وفي أثناء انخراطها في مداعبة نفسها، تقع عينها فجأة على أمها نائمة على الكرسي، فتفزع وتندثر تحت الغطاء يغمرها شعور طاغي بالذنب والعار. نينا إذن امرأة عالقة في جسد وشخصية طفلة، نتيجة تسلط الأم التي تحرص على وأد جنسانية وأنوثة ابنتها، مما يجعل ظلّ الفتاة يتوحّش أكثر ويتجلى على هيئة خدوش تحدثها في جسدها أثناء نومها نتيجة الكبت الشديد.
على مدار ساعة ونصف نستمتع بتجربة بصرية وسمعية مذهلة تتكشَّف فيها رحلة تمزَّق البرسونا الخاصة بـ نينا التي تصيبها بالجنون والهلوسة جراء الضغط الواقع عليها. اعتمد أرونوفسكي بشكل كبير على المرايا لإبراز الانقسام الداخلي الذي تعانيه البطلة والازدواج الذي باتت تستشعره في شخصيتها.
نصل لذروة التحوّل في مشهد الرقصة الأخيرة لـ «أوديل»، البجعة السوداء. فها هي نينا تخرج متشحة بالسواد، تشعُّ ثقة وغواية، ينساب جسدها مع الموسيقى دون عناء، بعدما قتلت منافستها الأشد ومرآتها ليلي في غرفة الملابس. نراها خلف المسرح منتشية، تلتقط أنفاسها، تنزع الغطاء عن وجهها، تشعر بشعلة الحياة تتقدُّ داخلها، تنظر إلى جلدها ينمو عليه ريش أسود. لتطلق العنان لجسدها أخيرًا وتخرج أمام الملأ مدفوعة بتلك القوة الخفية داخلها، تنهي رقصتها وسط ذهول المتفرِّجين وقد لفّ جسدها السواد؛ فلقد اِستحوذ عليها الظلُّ بالكامل.
في نهاية الفيلم، يتّضح لنا أنَّ نينا لم تقتل ليلي، إنما قتلت ذاتها، أو بمعنى أدق، البجعة البيضاء داخلها. ويعتقد الكثير أنّ الفيلم انتهى بموت نينا، وهي النهاية المنطقية إن سلّمنا أنها حكاية أخرى من حكايات أرونوفسكي عن الهوس بالكمال، لكن في رأيي، موت البطلة هنا كان موتّا رمزيًا، وهو ما يفسِّر الشاشة البيضاء في نهاية الفيلم. وعادة ما تنتهي الأفلام بشاشة سوداء حيث يرمز الأسود لنهاية الشئ أو خاتمته، على عكس الأبيض الذي يرمز لبداية جديدة، للاستنارة والتسامي. فكما يعود أصل الفراشة إلى يرقة تكافح من أجل أن تشقَّ شرنقتها وتخرج محلقة كفراشة، هكذا عانت نينا لتمزيق شرنقة البرسونا الطفولية المأسورة داخلها حتى تستطيع أن تعانق إمكانها وتحلق كامرأة ناضجة.
إنّ اتّحاد الإنسان مع ظلِّه لا يعني انحداره أو موت بوصلته الأخلاقية كما قد يتصوَّر البعض، إنما ما يحدث هو عملية دمج لهذا الجانب الخفي من ذات الإنسان التي كما تحمل في طياتها بذور الشر والعنف والرغبات المتوارية فهي كذلك تحمل بذور الإبداع والتفرُّد الكامن في كل فرد.
ما يجعل هذا الفيلم مميَّزا هو أنه يحتمل عدد لا نهائي من التفسيرات والنظريات المختلفة. فكما فسَّرناه من وجهة نظر يونج، يمكن أيضًا أن نراه بعدسة فرويدية على أنه حكاية عن الأنا والهو والأنا الأعلى داخل الإنسان، أو بمنظور سوسيولوجي على أنه قصة رمزية ترمز لتسلّط المجتمع (الأم) على جسد الأنثى نينا، أو كتحفة فنية بصبغة نيتشوية عن الأبولونية (البجعة البيضاء) والديونيسية (البجعة السوداء) أو غيرها من الاحتمالات.