استحضار سيرة الجد
1 في أواخر شتاء العام الماضي، مات جدي لأمي.
عائلة أمي تعرف الموت جيدا، بل ويصادقه رجالها بكل أريحية، لدرجة أنهم يسلمون إليه واحدا من كبارهم كل عام، ومن فترة لأخرى يفقدون شابا من أجمل وأصدق شبابهم. تختلف مسميات الراحلين، لكنم يتفقون في رحيلهم القاسي والمباغت. نساء العائلة لسن بهذا القدر من القسوة والغدر، فدائما ما يكون موتهن هادئا ومتوقعا كأنه بموعد محدد سلفا، الوحيدة التي كسرت قاعدة النساء تلك كانت الحاجة بدرية، جدتي لأمي، لأنها ماتت بغتة وهي تصلي الضحى، قرأت الفاتحة وحاولت الركوع فلم تقم بعدها؛ ثم لحق بها زوجها جابر الصابر بعد ثلاث سنوات.
قضى جدي الأشهر القليلة التي تسبق موته في المستشفى بسبب المرض. كانت صحته قد تدهورت كثيرا في السنوات الفاصلة بين موته وموت جدتي، بدا كأنه فقد عضوا حيويا من أعضائه بموتها، فلم يستطع أحد أن يرعاه الرعاية التي كفلتها له في حياتها. قطع الحزن جزءا من قلبه، واقتصت الوحدة أجزاء من روحه حتى غادر.
عندما وعيت على الدنيا، كان جدي الحاج جابر الصابر بمثابة شيخ البلد أو عمدتها، نظرا لعمره ولمقامه بين كبراء القرية ووجهائها، لكن حركته كانت محدودة جدا، بسبب تفاقم السكر والروماتيزم عليه. كل تلك السنوات كان جدي جالسا، أو متكئا ويمدد ساقيه أمامه، لكنه يحرك الدنيا بكلماته وآرائه، وتتحرك له الدنيا حسبما أراد، حتى بدأ يذبل ويخفت في أواخر حياته. في أيام المرض الأخيرة، تكالبت عليه المشاكل الصحية واضطر إلى الذهاب إلى مستشفى الأزهر الجامعي. قضينا معه عدة أسابيع أنا وأخوالي بالتبادل، كنا نعرف أننا سنودعه في أية لحظة، لكننا كنا نزيح تلك الفكرة من أدمغتنا يوميا، خوفا من مواجهتها.
دخل جدي المستشفى ببعض الاضطرابات في مستوى السكر والأمونيا، تلك الاضطرابات سببت له عدة إغماءات متتالية، وعدم القدر على التركيز والسرحان. شخصه الطبيب مخطئا في لحظة من لحظات سرحانه –جدي وليس الطبيب- بأنه “يفقد الذاكرة” مؤقتا بسبب المرض. لم يكن جدي ليفقد الذاكرة أبدا، لأن الرجل كان مفعما بالحياة حتى النخاع، وعاش حياته طولا وعرضا حتى مل منها وملت منه، لكنه كان من الدهاء ليلتقط كلمة الطبيب تلك، ثم يتظاهر علينا أنه يفقد ذاكرته من وقت لآخر، حتى يتملص من أحاديثنا التي لا تعجبه، أو من زواره (ثقيلي الدم) الذين يستطردون في أسئلة غبية، أو حتى من مكالمات الهاتف التي تقلق منامه في المشفى. كلما أحس برغبته في الانسحاب من الحياة حوله، أو ثقل الجو المحيط به، استدعت ذاكرته تشخيص الطبيب له، وقال: باين كده الذاكرة راحت مني. في آخر مرة كنت بصحبته في المستشفى حاولت اجترار بعض الحديث معه لكسر الملل، سألته عن حياته البعيدة جدا، عن البيت الطيني الذي ورثه عن أبيه، وعن البيت الخرساني الذي بناه فيما بعد. كان يجيب بكلمات بسيطة لكن ذهنه كان حاضرا، حتى سألته عن حرب أكتوبر التي شارك فيها، أجاب بكلمة مقتضبة وسكت. سألته عن جدتي هل كانا قد تزوجا قبل الحرب. سكت ونظر بعيدا ثم قال: إنت مين؟ باين كده الذاكرة راحت مني. بعدها طلب مني أن آخذه في جولة للتمشية في كوريدور المستشفى.
تمشيت به في الكوريدور ربع ساعة تقريبا، درت به على الكرسي، ظللنا صامتين، حتى طلب أن التقط صورة لنا سويا، وسألني أن أبحث له عن نتائج انتخابات مجلس الشعب الأخيرة. سؤاله عن الانتخابات كان دليلا أن ذاكرته لم تتحرك من مكانها. قرأت له بعض الأخبار، وهو يهز رأسه. كنت أعرف أن الأخبار لن تسره لأنها لا توافق آراؤه من قبل. عندما انتهيت كان يبحث في جلبابه عن شيء ما، سألته عما يبحث فقال أنه حزين لأنهم أخذوا مسدسه. لم أفهم لم تذكر مسدسه في تلك اللحظة تحديدا، لكنه بعدها أضاف جملة عن الأرض والمحصول، ثم سكت. عدت به إلى غرفته وأنا أفكر في الأشياء التي شكلت حياته، وصورته في ذهني: العصا العوجاء، المسدس، الطاقية المغزولة، الجلباب “البنش” الفلاحي، محصول القطن، وتعلقه الأبدي بالأرض كأنه محمد أبو سويلم وليس جابر الصابر.
2
في فيلم الأرض هناك ثلاثة مشاهد أيقونية لمحمد أبو سويلم؛ عندما يشرب من قلة الماء بعدما تشرب الأرض، ولحظة عودته من الحبس وقد حلقوا له شاربه عنوة، ومشهد خطبته الانفعالية عندما يهتف في الفلاحين بجملته المهشورة: عشان كنا رجالة ووقفنا وقفة رجالة.
هذا التخيل عن الرجولة المفقودة والشجاعة التي لا يوقفها شيء حد التهور أحيانا كان هو تصور محمد أبو سويلم عن نفسه وعن الفلاح الحقيقي. لم يكن الفلاح في أي وقت من الأوقات يملك شيئا أغلى من “غيطه”، حتى لو كان نصف قيراط أو أقل، إلا أنه يمثل للفلاح العزوة والعائلة وكل أمله في الدنيا، فهو من دون الأرض يصير عريانا وسط الناس على حد تعبير عبد الهادي في الفيلم نفسه. حتى بعد تمدين القرى، ودخول التلفاز والإنترنت، وهجرة أهل القرى إلى المدن الكبيرة والخليج، وتغير نمط عيش الفلاحين في العقدين الأخيرين تماما، إلا أن الأرض لم تتزحزح عن مكانتها أبدا. يمكن تلخيص كل ذلك في اللحظة التي تسيل فيها دماء محمد أبو سويلم على زهرات القطن، ثم يسحله مأمور الشرطة بالحصان، يتمسك محمد أبو سويلم بجذور عيدان القطن فتمسكه الجذور مقاومة سحلة الحصان لثانية واحدة، في تعبير سينيمائي مغامر لأنه لن يحدث في الواقع أبدا أن تكون عيدان القطن أقوى من الحصان، لكن الأرض لم تتخلى عن أبو سويلم مثلما لم يتخلى هو عنها.
محمد أبو سويلم هو التعريف الأكيد لأي فلاح حقيقي، ببروفايل وجهه الصلب الذي يقول لأي شخص أنه لا يهاب شيئا، وبسيرة حياته التي كان عنوانها الكفاح، سواء على المستوى الشخصي أو على المستوى السياسي. في الفيلم -أو الرواية- لا نعرف شيئا عن طفولة محمد أبو سويلم أو شبابه سوي ما يخبرنا به أبو سويلم وهو يحكي لأصدقاءه الفلاحين عن وقوفهم ضد الإنجليز والاشتراك في ثورة 19، والتعرض بعدها لتجربة حبس قاسية. يبدو تاريخا مريرا لا راحة فيه، لكنه في حقيقته مريح لمحمد أبو سويلم أشد الراحة لأنه يوافق هواه وتصوره عن نفسه أنه الزعيم، ليس بمعنى أن يكون ريّسا، وإنما ليكون خادم القوم وموحد كلمتهم، فأهل القرية لا يجتمعون في دوار شيخ البلد ولا العمدة ولا في بيت محمد أفندي المتعلم ولا في بيت أغناهم وأكثرهم أرضا أومالا، وإنما يلتقون كل مرة في دار محمد أبو سويلم. الرجل اختار لنفسه في شبابه أن يكافح ضد الإنجليز لأجل البلد، وفي شيخوخته اختار أن يكافح ضد الباشا لأجل الأرض، وفي اللحظتين لم ير أي فرق بين هذا الكفاح أو ذاك، كأنه يقول في النهاية أن الأرض هي وطن الفلاح، وحتى بعدما حاد صديقا شبابه عن الأرض؛ الشيخ حسونة بعقده صفقة مع الباشا، والشيخ يوسف بارتضائه السكوت والمكوث في دكانه، لم يتخل محمد أبو سويلم عن عيدان القطن، ظل منتصبا بينها حتى جائته الضربة القاصمة، فتمرغ في أرضه حتى لا تستباح إلا لو استبيح هو، في لحظة فارقة أيضا تضاف إلى لحاته الثلاث الأولى، حتى لو كان فيها موته.
3
في حياة جابر الصابر لحظات فارقة، كأي إنسان، لا تصير الحياة بعدها كما كانت من قبل أبدا. لا نعرف نحن -أبناؤه وأحفاده- كل تلك اللحظات، لكن واحدة منها هي الأبرز: مشاركته في حرب أكتوبر.
استدعي جابر الصبر إلى التجنيد في السنوات الصعبة قبل حرب أكتوبر مباشرة، وقتما صارت زوجته حبلى في طفلها الثالث. كانت الزوجة تأمل في عودة زوجها وتحسن الحياة وأشياء أخرى، لكن كل الأشياء توقفت أثناء الحرب وبعدها. انتصرت البلد بالعفل، وفرح الناس حتى انتشوا، وعاد الجنود الأبطال، لكن جابر الصابر لم يعد فورا، تأخرت عودته كثيرا بعدما انقطعت أخباره وجواباته أثناء الحرب. لم تعرف الزوجة ماذا تفعل في طفلها الذي اقتربت ولادته، لينضم لأخته وأخيه الأكبر الذين ينتظرون عودة الوالد من الحرب. كان القلق يأكل جدران البيت الطينية، والحمل يضعف من قوة الزوجة وقدرتها على الفلاحة والعناية بالأرض، تدهورت الأسرة نوعا ما، وشعرت الزوجة بالخوف يلتهم مستقبل الأطفال. وضعت طفلها الثالث ولم يكن أمامها سوى الصبر وإرسال بعض الجوابات التي تستعلم فيها عن مصير زوجها، كانت تستعين بأحد أبناء القرية ليكتب لها الجوابات لأنها لم تتعلم الكتابة أو القراءة كمعظم الفلاحين وقتها، لكنها لم تتلق أي رد أبدا.
مرت الأيام وتناسى الناس فرحة الانتصار بالحرب، عندما ظهر جابر الصابر أمام الدار، كأنه شخصية في فيلم أو رواية، عاد من الحرب ولم يقل لأحد أين اختفى بعد الانتصار أو لماذا تأخر كل هذا الوقت. ظلت حكاية الاختفاء تلك مبهمة في حياته، وحتى مشاركته في الحرب لم يأت على ذكر تفاصيلها كثيرا، كان كل ما يحكيه من وقت للآخر هو مشهد واحد عن رصاصة تتفاداه بأعجوبة لتخترق جسد جندي زميله ثم تفجر دماغه.
نفض جابر الصابر عنه غبار الحرب، جدد الدار الطينية ودهنها بالجير الأبيض، وأنجب بعدها ثلاثة أولاد وبنتا، لكن البنت ماتت بعد سنوات وهي في طفولتها. لم يحتفظ جابر الصابر بشيء يذكره بجنديته القديمة سوى بمسدس حصل على ترخيص له بحكم أنه من قدامى المحاربين. كان يحتفظ بالمسدس في جراب من الجلد البني ويغلق عليه في صندوق الملابس القديمة، لم يستخدمه أبدا في القنص أو النيشان، أو حتى ضرب عيارين للاحتفال في الأفراح، كان المسدس أيقونة محفوظة تشهد على الأيام الخوالي وتثبت للناس أنه عايش هولا لم يعايشوه هم. ظل يخرج المسدس من جرابه مرة كل عام، لينظفه ويزيته، ويتأكد أن زناده ما زال يعمل، ثم يعيده إلى جرابه في النهاية.
لم يعرف أحد سر تلك العلاقة بينه وبين مسدسه، والتي ستمتد إلى أشياء أخرى مثل العصا العوجاء، فبمرور الوقت وتكالب الأمراض عليه، خصوصا النقرس، صار المشي صعبا جدا، فبدأت تدخل في حياته عادات جديدة في الأكل والشرب، والأشياء التي تحيط به. صارت العصا جزءا لا يتجزأ من تحركاته يستند عليها في ذهابه إلى المسجد أو المعازي والأفراح وحتى المرور على الأرض والاطمئان على حالة الزراعة. كان جابر الصابر قد ترك الفلاحة منذ زمن، تكبيرا للدماغ ربما، وركونا للراحة بحكم السن والزمن، ساعده في ذلك الزوجة المناضلة والاولاد الذين كبروا واحدا تلو الآخر فقسموا العمل بينهم، لكنه وبرغم ارتباطه بالأرض واعتداده بأنه فلاح ابن فلاح كان حريصا على تعليم الأولاد مهما كلفه الأمر ودفع فيه من أموال. عاش حياته كلها يطمح أن يكون لديه طبيب يداوي آلام الناس، ربما لاقتناعه الشديد أن الطب مهنة ملائكية تتصل بالسماء مباشرة، أو ربما لأن ذلك كان يداعب حلما قديما لديه ولا يعرفه أحد غيره. كانت الظروف تضيق أحيانا فلا يعرف كيف يكمل تعليم الأولاد، اضطر أكثر من مرة للاستدانة برهن الأرض، حتى يكملون تعليمهم في الكليات، مع أنه لو باع فدان واحد لكان فك الأزمة كلها، لكنه لم يكن ليفعل ذلك أبدا، لأن الأرض هي جزء من لحمه الحي. ظل يعتمد على محصول الأرض لمحاولة سداد القروض وبناء البيت الخرساني بدورة مياه نظيفة وكهرباء وحجرات واسعة مجاراة لتمدن القرية من حوله، كان المحصول الرئيسي للأرض هو القطن، وقتما كان القطن هو الذهب المصري، الذي يمكن الاعتماد على عوائد بيعه. في دخلة الصيف من كل عام كان الأرض تزنهر بورود القطن الصفراء ثم بتلاته البيضاء الحريرية، ثم تمتلئ فراندا دار جابر الصابر بالمحصول الوفير، كغيمة صيفية ثقيلة، كان ينظر جابر صابر إلى المحصول ويضحك، ويعرف أن الأجولة التي ستمتلئ بالقطن بعد فرزه، ستملأ جيوبه بالنقود بعد بيعها.
تدهورت زراعة القطن تدريجيا، كما تدهورت صحة جابر الصابر. كبر الأولاد وتزوجوا وتركوا الأرض لينشغل كل واحد بمهنته. للأسف لم يحقق أحد حلمه في أن يصير طبيبا، لكنه كان متمسكا بالأمل. انهدت الدار الطينية، وامتلأت الدار الخرسانية بالعيال ولعبهم، تم تأجير الأرض لمزارعين غرباء، لأنهم الأقدر على رعايتها. صارت الحياة أكثر رغدا لكن أكثر سرعة ومفاجئة أيضا، لأنه لم يتوقع أن يرى شيئا قد يفاجئه بعد الحرب، إلا اغتيال السادات، ثم قامت الثورة، فتفاجأ جابر الصابر قليلا من وقع الحدث، لكنه ركن إلى عدم الاهتمام بما يحدث حوله، كان تاجوز العمر الذي يهتم فيه بالأشياء والأحداث، اكتفى ببعض التعليقات الساخرة وبمعرفة أن العمر قد جرى بما فيه الكفاية، لم يكن يريد تحقيق أشياء اكثر مما فعل، لأنه عاش حياته كما أراد بجرأته المعهودة لا يخاف من قول أو فعل ما يريد ولا يهمه أحد، أشياء بسيطة التي كانت تؤرقه، كالعناية بالأرض والدار، والخوف أن لا يرى أحدا من نسله وقد صار طبيبا، لكنه مات بصخب -كما عاش- بعدما افتتح أكبر أحفاده عيادته بأسبوع واحد، كأنه عرف أن لم يعد يريد شيئا من الحياة.