إذا كنت قد جئت من أجل الأحداث لن تحصل عليها
في أبريل عام 2011م أشعل الناقد السينمائي دان كويس نارًا صغيرة عندما نشر مقاله: أكل خضرواتك الثقافية في مجلة نيويورك تايمز، اعترف كويس بأنه فقد الرغبة في الاستمرار في مشاهدة أفلام متزمتة بطيئة مع فنيتها بدرجة كبيرة. تلك الأفلام التي كان ينعس خلالها لكنه يُلزم نفسه بحضورها لتقدير مجتمع المفكرين والمثقفين والنقاد لها؛ فحضوره هذه الأفلام يُشعره بالانتماء لهذا المجتمع. ولأنها تعطيه مظهر (المُشاهد المتحضر) ولطموحه في اختبار الثقافة على مستوى رفيع. يقول كويس: “تلك النوعية من الأفلام محببة لقلوب الكتاب والمفكرين والأصدقاء الذين أحترمهم، لهذا أنا أيضًا أذهب لهذه الأفلام”.
يكتب دان كويس أن إعجابه بتلك الأفلام -التي وصفها بـ: (بطيئة الحركة تأملية معقدة فكريًا تتطلب سرعة وقوة ملاحظة وتركيز في فك شفرات النص والنص الفرعي والميتا نص)- كان مفروضًا عليه، لكنه لا يفهمها ولا يحبها ولن يستطيع.
ويضرب دان كويس مثالًا: مشاهدته فيلم أندري تاركوفسكي “Solaris”: حينما أخبره صديقه أنه يجب أن يشاهده لكنه لن يفهمه، وكان محقًا؛ فقد شاهده ولم يفهمه بل وجده بطيئًا ومملًا.
وأنهى دان كويس حديثه بأنه أدرك أن لا أحد يجبره على أكل خضرواته الثقافية، وأنه يشعر بالذنب حيال استمرار محاولته الوصول لثقافة عاندت في الابتعاد عن قبضته، وأن جزءًا منه ينعي السينمائي الراقي الذي قد لا يصبحه أبدًا، والجزء الآخر ممتن لكل الوقت الذي سيوفره الآن كونه سيكون أكثر انتقائية لما قد يشاهد.
كان مقال دان كويس مغمورًا بإحساس من الارتياح، فقد خلع قناع التقديس لأفلام -في رأيه- لا تحمل أية متعة للمُشاهد، أفلام لا يمكن أن توصف -بالنسبة للجمهور السائد وللسينما الهوليودية التقليدية- إلا بالمملة.
لكن ماذا نقصد حقًا عندما نصف فيلمًا (أو أي عمل فني عمومًا) بالممل؟
الكلمة تدل على قلة المشاركة من المشاهد ورغبته في انتهاء العمل مع إحساس بالسخط. أحيانًا يربط بعض الناس الطول المفرط للعمل بالملل، لكن هذه الظاهرة لها علاقة بتسارع أحداث الفيلم وتركيبته عن طوله الحقيقي. تحدث المشكلة للعديد من الناس مع تحديد شخص آخر لتجربة مرور الزمن، خاصةً في عصر فترة الانتباه القصيرة الذي نعيشه؛ فقد اعتدنا على شبه التحكم بسرعة مرور وقتنا. فالهواتف على سبيل المثال تمكننا من ملء فراغات الوقت في المواصلات أو واقفين في طابور.
فعمل يستولي على تحكم المشاهد في مرور الوقت يمكن أن يزعجه، وغياب الأحداث الدرامية يمكن أن يحبطه، ففي معظم الأفلام (المملة) تمر أجزاء كبيرة من الوقت دون حدوث أي شيء تقريبًا، وعندما يكون العمل مبهمًا وصعب الفهم يضاعف الإحباط. فالفيلم يبدو أبطأ إذا كان ذا سرد مفكك (مثل فيلم: The Tree of Life) أو غير سردي (كالسينما السريالية) فيصعب تتبع القصة ويتطلب التفكير، والتفكير ممل.
الفيلم الممل ليس ظاهرة جديدة، فقد بدأت منذ أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات مع ظهور الموجة الجديدة من الأفلام الفنية الأوروبية عن طريق فنانين كبيرجمان وأنطونيوني. أما في الثمانينيات والتسعينيات سيطرت الأفلام البطيئة على جوائز “كان” بجيل جديد من المخرجين الفنيين كعباس كياروستامي وأنجيلوبولوس وكيشلوفسكي وبيلا تار، تار الذي يعتبر البعض فيلمه ذا السبع ساعات “Satantango” هو أفضل ما أبدع، والذي قدم فيه رؤية مؤثرة لمزرعة مشتركة في العصر الشيوعي حيث لا يحدث أي شيء تقريبًا.
أتفق مع كويس أن هذه الأفلام -ككل شيء في عالمنا- ليست للجميع، بل الأحرى ليست للمعظم، وأحترم هذا، أتعجب منه لكن أحترمه، فمثلًا إذا طلب مني صديق أن أقترح له فيلمًا أُدرك أنه يريد اقتراحًا لفيلم سينال إعجابه هو، ليس فيلمًا يعجبني أنا، فلن أقترح له فيلمًا لأنجيلو بولوس؛ لأنه سيكرهه وسيكره السينما وسيكرهني شخصيًا.
كان هذا أحد آراء مستخدمي موقع IMDB في روما (أحد أفضل أفلام الفترة الأخيرة في نظر النقاد).
الغريب في الأمر أن كويس تجاهل أن طبيعة الملل الذاتية؛ فما يراه البعض مملًا يراه البعض الآخر ساحرًا، مثلًا أنا أجد العديد من الأفلام الرائجة مضجرة، لكنه الملل الذي يصنع مالًا؛ لأنه الملل الذي يحبه ويريد أن يحبه ويصر على حبه أغلب الناس أو ببساطة يعتادون عليه، وأيضًا لأنه الملل المعبأ بالدراما والحركة فلا تستطيع الهرب منه.
فكما قال أندي وارهول في مذكراته “popism”: ما أراه مملًا بالطبع ليس ما يراه الآخرون مملًا؛ فأنا لا أطيق مشاهدة مسلسلات الأكشن الشهيرة لأنها في النهاية حبكة واحدة وكادرات واحدة ومشاهد واحدة تعاد مرارًا وتكرارًا، ومن الواضح أن معظم الناس يحبون مشاهدة الشيء المبتذل عينه طالما تغيرت التفاصيل”.
وأضيف: بينما هناك ملل جيد، هناك أيضًا ملل سيئ؛ فهنالك أفلام مصنوعة بجودة عالية وتخطو ببطء متعمد في مقابل أفلام سيئة الصنع تنهك المشاهد بدون قصد.
دعونا نتساءل إذًا: هل إثارة الملل في الجمهور كان حقًا هدف أي فنان يومًا ما؟
بالطبع لا؛ فنِيَّة الفن -الذي يُتهم عادة بالملل- غالبًا ما تكون شيئًا مختلفًا تمامًا؛ فالمخرجين الجدد للأفلام (المملة) يوظفون حالة معينة من إيقاع السير وتدفق الأحداث وسردها ليخلقوا ردة فعل مختلفة عن تلك التي يخلقها السرد السلس المعتاد من السينما الشعبية. فصانع الأفلام التجارية يسعى لإعطاء المشاهد جرعته المرجوة المتوقعة من الأحداث السريعة والحبكات المؤثرة والمتعة السهلة، فيستخدم المُشاهد هذه الأفلام كوسيلة للترفيه ولقتل الوقت.
وعلى النقيض صناع السينما الفنية لا يعطون المشاهد ما يريد بل يمنعوه عنه في الواقع، فيخفون العناصر المتوقعة والمرجوة، ليقدموا لك أحداثًا قليلة وشخصيات غامضة وتسارع بطيء للأحداث ولقطات مستمرة طويلة فيخلقون وقتًا ميتًا.
والسؤال هو: ماذا يحدث خلال هذا الوقت الميت؟ (عندما تؤمر بمشاهدة لا شيء).
Stalker rain indoor ruin
يقول بول شرايدر: “صانع الفيلم يستخدم قوة السينما ضد نفسها ليصل بك لإدراك ضرورة مشاركتك. معظم الأفلام الرائجة -والمعروفة مؤخرًا بـ: المينستريم- تميل تجاهك بقوة، بيديها حول عنقك، محاولةً خطف كل لحظة من انتباهك. بينما هذه النوعية من الأفلام الفنية تبعد عنك، وتستخدم الوقت والملل -كما يسميه البعض- كتكتيك. في النهاية إذا كنت ذكيًا كفاية في استخدامك لهذه التكتيكات ستصنع شيئًا نادرًا حقًا؛ ستُفَعِّل المُشاهد، وإذا تحرك المُشاهد بمفرده تجاهك، تكون التجربة أكثر قوة”.
ويضيف: “عندما تستخدم الملل كأداة جمالية، متى تكون فعالة ومتى تكون مللًا؟ ببساطة إذا كبتتَ باستمرار والمشاهد يميل تجاهك يجب عليك أن تفكر، في لحظة ما من الحرية، أن تفعل شيئًا غير متوقع، مثلًا في فيلم “Ida” كانت اللقطة التتبعية في النهاية مع بريسون مجرد انفجار لموسيقى..
تشاهد فيلمًا لساعة ونصف أو ساعتين بدون أي موسيقى وفجأة، في النهاية: بووم! عاصفة موتزارتية كبيرة.
أو كشخصيات أفلام أوزو الذين لا يظهرون أية مشاعر أبدًا وفجأة في النهاية: عاصفة كبيرة من المشاعر”.
Pickpocket de Robert Bresson, Escena final
هذا يؤدي إلى تجربة مختلفة تمامًا عن تلك في الأفلام التجارية؛ هذه الأفلام تحتاج هذه السرعة البطيئة المتحفظة المقصودة للوصول لمعناها وهدفها. المُشاهد يحتاج أن يشعر بطول وحجم ما يظهر على الشاشة ليأخذ قدرها بالكامل؛ الطرق المختصرة قد تدمر المضمون والمعنى. هذه السينما تستخلص منك مشاعر بديلة، مشاعر لم تكن لتخرج لولا استفزاز الفيلم لها، لولا انجذابك إليه وقبول تحديه، لولا تجاوبك وتقبلك وتفاعلك. مشاعر وتجارب مثل العزلة في (Amour)، والضآلة في (Winter Light)، والتخدير المغناطيسي في (The Master)، والرقة الميتافيزيقية (Three Colours Trilogy)، أو الحيرة السريالية (The Exterminating Angel). كل هذه المشاعر المرجوة يخطئ العديد من الجمهور بترجمتها إلى ملل، لكنها في المقابل متميزة ومختلفة عن مشاعر السينما التقليدية.
ينبغي على مشاهدي هذه الأفلام ضبط موضعهم بالنسبة لما يُعرض على الشاشة. سيؤدي هذا -إذا تم بنجاح- إلى تجربة سينمائية أكثر قوة وعمقًا. ربما في عالم مثالي: فيلم (ممل) جيد سيشجع المُشاهد على قبول -وحتى الاستمتاع- بقلة الحوافز التقليدية أو الترابط، وسيستخدم المساحة الصافية المنتجة من غيابهم في تأمل ورصد المعاني والأفكار العميقة المتضمنة في هذا العمل.