أوحد شتيرنر لا يسقط في الفخ مرتين
نقول عن الإله: “الأسماء لا تسمّيك”، هذا الأمر صادق بالنسبة إليَّ أنا كذلك: لا مفهوم يعبّر عني، ولا شيء مما يُقدَّم بوصفه ماهيتي يستنفدني، ما هي إلا أسماء
هكذا ينهي ماكس شتيرنر عمله الخالد والأوحد “الأوحد وملكيته”.
يمكننا أن نعدّ ماكس شتيرنر أولَ ثائر حقيقي ضد المشروع الإنساني الذي تبلور في عصر التنوير (وهو الأساس الذي قامت عليه الحضارة الغربية)، فنرى ذلك الأنا الشامخ يزأر في وجه السلطة وخطاباتها المعسولة، يفضح هُلامية النداءات الكبرى في عصره، ويُعلن عن رفضه الدائم لكلّ تنازل يُفرَض على الأنا في زمن يدّعي تحريرها من قيود الأزمنة الغابرة.
القدامى:
بالنسبة إلى الإنسان الفاني، أنبل وأول الخيرات هي الصحة، التالي هو الجمال، الثالث هو الثروة المكتسبة دون احتيال، الرابع هو التمتع بهذه الخيرات بصحبة أصدقاء شبان
الشاعر اليوناني سيمونيد
كانت حقيقة القدامى كائنة في العالم الأرضي، قدّس هؤلاء الوطن والأواصر الطبيعية، وكانت روابط وقوانين العالم بالنسبة إليهم كل ما هو حقيقي، عُومل العقل باعتباره وسيلة للوصول إلى علاقة أقل توترًا مع العالم عن طريق الفِطنة (وهو ما دعى إليه السفسطائيون في بلاد اليونان)، أما القلب المفعم بالحيويّة والانفعالات العنيفة أصبحَ على يد سقراط والريبيين بعده خاويًا، وشُرِع في تربيته وتشكيله وفقًا للفضيلة والخير والأخلاق المحمودة مجتمعيًا، وفصل تشابكه مع العالم تدريجيًا.
ومن هنا بدأت مهمة التخلص من العالم (التي استكملها فيما بعد الرواقيون حتى أتت سيادة الروحيّ بشكلٍ تام على أيدي المحدثين)، لكننا نلاحظ أنّ العالم القديم في كل مراحله لم يصل قط إلى مرحلة الروحاني المحض، فقد كان الفرد في كلّ مراحل العالم القديم متصلًا بالعالم الأرضي حتّى في أقصى مراحله الفكرية تجردًا، فالإطار الأساسي في التعامل مع العالم لدى القدامى كان الفطنة لتسيير علاقة الفرد بالعالم وتجنب نوازله، وتفريغ القلب الأداة التي يقوم عليها الاستبعاد المنشود للعالم الأرضي.
المحدثون:
إذا لم يكن القدامى أنتجوا غير كوسمولوجيا، فإنَّ المحدثين لم يتجاوزوا أبدًا ولن يتجاوزوا الثيولوجيا
يبدأ زمن المحدثين -فيما يرى شتيرنر- مع المسيحية؛ فالمسيحية أعلنت نهاية حقبة القدامى التي بلغت ذروتها لدى السفسطائيين، ولفظت أنفاسها الأخيرة مع الريبيين، المحدثون لا ينشغلون بالعالم الأرضي، نظرهم مُنصَب على مملكة الروح، احتُقِرَ الجسد، ونُظِرَ إلى الإنسان بما هو روح يسعى جاهدًا إلى الاقتراب نحو الكمال الروحي الذي تجلّى في الإله قاهر العالم، استمدَّ الإنسان المحدث كل وجوده من الذات الإلهية، وأفنى عمره باحثًا عن صفاتها، سالكًا حسب مبادئها، وردَّ الوجود الإنساني إلى الوجود الإلهي.
استمرت الأوضاع على هذه الشاكلة حتى أتى “مارتن لوثر” وإصلاحه، الذي جرّد القلب من مسيحيته -كما فعل شبيهه سقراط سابقًا- ومعه خفَّ العبء الثقيل للمشاعر المسيحية الورعة حتى تلاشى، وبدأ عصر النقد حيث يخضع كل ما هو مقدس ويثير روح الفرد إلى النقد اللاذع والتفكيك المجهري، وبات القلب غير قادر على ممارسة الفضائل المسيحية، ومن هنا بدأت لحظة المحض في تاريخ البشرية أي “الحرية المحضة” “الإنسان المحض” “المحبة المحضة” “السيادة المحضة للذات”، فبعد أن كان الإنسان مشاركًا في العصر المسيحي -المسيح في ألوهيته وإنسانيته- نُظِرَ إلى المسيح كنموذج للحياة الإنسانية يجب على الفرد تحقيقه في حياته في عالمنا الزائل.
شن الهجوم على الأشباح:
الماهية:
ما يُعَد موجودًا بادئ ذي بدء، مثل العالم وما يعود إليه، يظهر الآن وكأنه وهم محض، وما يوجد حقًا هو الماهية التي تكتظ مملكتها بالآلهة وبالأرواح وبالشياطين، أي بالماهيات الجيدة والسيئة. هذا العالم المقلوب، عالم الماهيات، هو الوحيد الموجود حقًا من الآن فصاعدًا
الماهية هي الحقيقة وما عداها زيف ومجرّد مظهر غير كامل منها، تدعي المشروعات الإنسانية المختلفة أنها تهدف إلى وصول الإنسان نحو أقصى تحقق لماهيته، تلك القصة التي بدأت بشكل رئيسيّ مع النزعة الدينية داخل الأفراد صارت مترسّخة في اللاوعي الجمعي، توغلت حتى أصبحت تحكم كل منافذ الوعي الفردي عن طريق الدّعاية الممارسة بشكل مستمر من قبل الدول والسلطات الدينية والدنيوية، ولكن ما هي تلك الماهية التي استعبدتنا؟
هي “الإنسان” أو الطبيعة الإنسانية، ذلك اللفظ الذي لا يفتأ أحد مُثقفينا الليبراليين عن الكلام إلّا ويذكره، لقد استبدل التنوير مقولة “الإنسان” أو “الماهية الإنسانية” بـ”الرّوح” أو “الماهية الروحانية” التي نادت بها الأديان وتوجتها دعوى المسيح، يعتقد التنويريون أنَّ هذا الاستبدال هو مرحلة التحرير القصوى للعقل البشري، لكنّهم في الحقيقة لا يدركون أنّ العصر الحديث لا يقوم بشيء غير الدوران في فلك الثيولوجيا، ففويرباخ يدّعي أنه قد قلب الثيولوجيا إلى أنثربولوجيا، والحقيقة أنه لم يفعل شيئًا غير استبدال المفاهيم الثيولوجية، فهل يقدر أحدهم أن يخبرني ما هو الاختلاف الجوهري بين ماهية الإنسان،إنسانًا كانت أم روحًا؟
هما من نفس فئة الأشباح التي تلزمني بسلوك محدد إزاء الآخرين، هي التي أنال المجدَ إذا أفنيتُ حياتي في سبيلها، وهي الهوس الحديث! لكن السؤال هاهنا أي إنسان ذلك؟! ولماذا تريدون مني أن أتصرفَ حسب الماهية المجرّدة التي تدعون أنها حقيقة الفرد؟
فلا وجود إلّا للفرد العيني، الأوحد الذي يحدثكم، ولا وجود لإنسان غيره، إنسانكم المُتصوَّر ليس إلا شبحًا بالنسبة إلى الفرد العيني.
الأفكار المتسلّطة:
عندما نسمع اسم الإله علينا أن نشعر بالرهبة؛ أن يُذكَر أمامنا اسم جلالة الأمير، علينا أن نشعر بأنّا مشبعون بالاحترام والتوقير وبالإذعان؛ إذا حدّثونا عن الأخلاقيّة علينا أن ندرك من ذلك أمرًا مصونًا؛ إذا حدّثونا عن الشّر أو عن الأشرار فإنّه لا يسعنا الامتناع عن الارتعاد…
لقد ساعدتْ المسيحية في تحرير المرء من عبوديته لشهواته وأهوائه، نحن بالفعل لا تزال الأهواء تسكُننا لكنّها الآن تحت قوتنا، لكن المسيحية في مقابل تحرير الإنسان من شهواته طالبتْ بعبوديّة جديدة، أن يكون للروح سيدًا هذا هو الوضع الجديد الذي جاءت به المسيحية، كأنّ وضع الإنسان كعبد أو كعابد مسلّمة رياضية لا يمكن الطعن فيها. وقد أتانا لوثر وإصلاحه ومن بعده التنوير الفرنسي فقاموا بتوجيه النقد تلو الآخر للعقيدة المسيحية والقلب المسيحي، حتّى استُئصِلَتْ المسيحية من العقول والقلوب.
شاعت السعادة والطموح والأمل في هذا العصر؛ فالإنسان لن يعود عبدًا بعد الآن وتطلّع البشر لمستقبل مبشِّر، لكن الفرد -للمفارقة بعد مرور لحظات الحماس الأولى في التاريخ- وجدَ نفسه تحت نير أشد وطأةً وثقلًا عن كل ما سبق، يا أيها السادة لقد استعبدتنا الأفكار!
منذ الطفولة يغرس داخلنا أفكار محددة مقصودة لإخراج شخص كما يريده المجتمع، (الأخلاقية، الله، الخلود، الإنسانية، وغيرها) هي أفكار لا يمكنها أن تكون أصيلة (بالشكل المتعارف والمقبول اجتماعيًا ودينيًا) منطلقة من داخل الفرد، إنما لا بد من غرسها وتدريب الفرد عليها، والتعرض لمؤثرات تعززها؛ حتى تكون جزءًا لا يتجزأ من الفرد، ويتم قبولها من دون أي نقد أو تشكيك.
يهاجم ماكس شتيرنر الأفكار المغروسة ثقافيًا داخلنا، تلك الأفكار التي تفرض علينا سلوك معين أو واجب محدد، متفننة في إجبارنا على تحقق كينونتنا في إطارها، وبناء أنساق معقدة في تبريرها، فأقصى ما يمكن أن يختلف فيه الأفراد أي نظام أنسب للدولة، لكنّهم لن يشككوا أبدًا في مفهوم “الدولة” ذاته، إن تلك المفاهيم المجرّدة المغروسة هي ملك للفرد العيني، ليس هو ملك لها، هي من تفنى في سبيله والعكس هو ما يريده المجتمع والدولة وكل أشكال السلطة، المجرّد يخضع للعيني، وللعيني أولويّة وأوليّة على المجرد.
الدولة:
لا يمكن للدولة أن تتخلّى عن طموحها في السيطرة على إرادة الفرد وفي التعويل على ذلك والاعتماد عليه، من الضروري لها بإطلاق أن لا يكون لأي كان إرادة خاصة؛ مَءن قد تكون له إرادة خاصة ستكون الدولة مضطرة إلى إقصائه (السجن، النفي، إلخ.)…
يرى ماكس شتيرنر الدولة عدوًا لدودًا للفرد؛ ذلك الروح الكلي الذي يجب على الفرد فيه العيش من أجله، وإفناء كل طاقاته الجسدية والذهنية في سبيله، الدولة تستحوذ ومن يقاوم يُستباح، هذه حال الدولة كما يصفها ماكس شتيرنر، وينتج عن ذلك أنّ الدولة هي عدو كل البشر.
لم تحرِّر الثوراتُ الليبرالية في القرن السابع عشر والثامن عشر الفردَ من سلطة الدولة، بل بالأحرى جعلته عبدًا لها عن طريق خلق “المواطنة” وهي القيمة التي تُقدِّمها السلطة للفرد، ومن تلك اللحظة بدأ النظر إلى الإنسان باعتبار كونه مواطنًا جزءًا جوهريًا في ماهيته، كان هذا وسيلة أخرى لتقييد الفرد وتكميمه؛ حتى لا يرى نفسه بوصفه مستقلًا أنطولوجيًا عن كيان الدولة.
إنّ نجاح مشرع الدولة لَجَلي؛ في كونها أقنعتْ الأفراد عبر ممارسات مكثفة طويلة الأمد -يتدخل في القيام بها المجتمع كذلك- إنّ أقصى ما يمكن أن يحلم به الفرد هو المجتمع الحرّ، وأي مجتمعٍ حرّ هذا؟
هو مجتمع يُتاح للأفراد فيه التعبير عن آرائهم بحرية دون الخوف من عقاب، دولة لا تفرض على الأفراد اتجاهات سياسية أو دينية معينة، دولة ديمقراطية كل سلطة فيها مستقلة عن الأخرى، بإمكاننا أن نقول إنَّ هذا التصوّر هو ما يجمع بين الاتجاهات الليبرالية على اختلاف مشاربها، ولكن من أين أتت تلك الخرافة أنّ الدولة هي من تتفضل على الفرد بالحرّيات؟
هنا يتضح لنا النجاح منقطع النظير الذي نالته دعاية الدولة الحديثة، فهي السيد (شئنا ذلك أم أبينا)، هي صاحبة الحق المطلق، هي إرادة الفرد، بل هي الفرد، الدولة هي الرّب والقانون نائبها، تهبني ما تشاء، وتسلبني متى تشاء!
يثور ماكس شتيرنر ضد هذه المفاهيم الراسخة في أذهان الفرد الحديث، لا تمنح الدولة الحرية للفرد، إن كل حرية ممنوحة هي بالضروروة حريّة زائفة، وكل عبد يهبه سيده حريته هو عبد حرّ لا أكثر، الحريّة ملك الفرد هو الذي يقتنصها من فم الأسياد المفروضين عليه، كل ادعاءات الحقيقة والحرية والأخلاقية والخير والمحبة تسقط أمام الأوحد أمام فردانيته، الفرد أولًا والبقية ملكيته.
في الواقع، الأوحد هو أنت، أنت الذي عليه تتكسر مملكة الأفكار؛ في مملكة الأفكار هذه، الأوحد ليس إلا جملة -وجملة خاوية، أي أنها ليست جملة حتّى؛ لكن “هذه الجملة هي الصخرة التي تحتها سينغلق قبرُ عالم جُملُنا، هذا العالم الذي في بدايته كانت الكلمة
إنّ أوحد شتيرنر هو ذلك الفرد العيني الذي يرزح تحت ثقل المجرّد، تحت ثقل الكل مُطالبًا إيّاه بإفناء ذاته في خدمته.
هو الأوحد الذي كفنته الحضارة في أفكار كبرى تحصره، لكنه ينهض من جديد كالعنقاء، يثور ضد كل حصر وأولية لغيره عليه، وهو الذي تتكسر عليه مملكة الأشباح، الأوحد يدشّن عالمًا جديدًا لا يكون فيه خانعًا للكلمة، بل يكون هو ذاته الحجر الذي يقوم عليه العالم بأكمله.