أنا أخشى عجوزًا
كان رجلًا صموتًا توحي معالم وجههِ أنّه خائبٌ عظيم، أنا -جارُه وهو أقدم ساكني المبنى- لم أرَ له ولدًا ولا زوجة، ولم أره في أيّ أمسيةٍ جالبًا تِربًا ليأنس به، رغمَ أنّ شقّته نظيرةُ شقتي مساحةً وتقسيمًا وأنا راعٍ ذو رعية!
كنت قد انتقلت وعائلتي للتوّ من القرية إلى بيروت مستندًا إلى قرض إسكان، وكان هو أكثر أهل المبنى إثارةً للفضول، بدا في كلّ صدفةٍ تجمعني وزوجتي به في المصعد أو في الرّدهة كخازنِ همومٍ كلّ بني البشر، نتهامسُ عند رؤيته كما تفعل فتياتُ الثانوية كلّما مرّ بهنّ شابٌ وسيم، ونتكهن متأسفَين:
-“لمَ هو وحيد؟ أفقد المسكينُ عائلته؟ أم أنه متخاصم معهم؟”
-“أقسم أنك وحدك المسكين! امض ففي انتظارنا الأطفال” تردّ زوجتي أسيل.
مرةً أحسّ بي وأنا أستحلّ التلصص عليه فانتفضت برقبته غريزتُه ناحيتي، جُفلت، لكنّه أفرجَ عن كسرٍ ضئيلٍ من بسمةٍ خفّف به عني.
في ليلةٍ دعوته إلى الطعامِ فأومأ رافضًا، أبطنتُ له شتيمةً وردّدت له كسر البسمة، لكنّه في بكرة الصباح خيّب غيظي ولبّى الدعوة، سمعت ضجة، فقمت أكتم علّتها لأجده في غرفةِ المعيشة يجول وعلامات الأرق على محياه، فاجأني، فصوّتُّ والحَميةُ تعتريني:
“جار! ماذا تفعل في منزلي؟ من أعطاك نسخة مفتاح؟ أجب!”
لكنّه -دون رد- قام وتملّصَ بخفة شبحٍ من بين يدي، وانطلق في الرواق مُرخى العنقِ كأبٍ عائد من دوامٍ مضنٍ، لحقتُ به كالممسوس لأصدّه لكنّني بغرابة عجزت، فإذ به يدخل الحمّام ويعلّق نظرةً ذابلةً في مرآتهِ الواسعة، أسخطني تطارشه فكدت أضربه، لكنّ صوته أعقم نيّتي صادحًا بمونولوجٍ مرتَّلٍ جمّد به العرقَ في ظهري، صاح:
“في صباح عيديَ السبعين، يُهلعني من أراه في مرآتيَ التي أستصبحُ بها، فأنا وحيد، وجهيَ العجوز لا يشبهُ روحًا كنتُ أحسبها قد غطّت في بحيرةِ الشباب، وبطنيَ المنفوخ ثقيلٌ ككتلةٍ من الهموم، وشيبي ليس هيبةً، وظفري لا يحك جلدي، وجيبي لا يسد جشعًا في الحيوانِ المعشّشِ في غريزتي، أنا شيخٌ يا عزيزتي، ومرآتي قد أعياها البهتان، فاستسلمت لقانونِ النضوجُ والفناء، وجدرانُ الحمام الغَبِرة مغمورةٌ بعازلٍ، ما عادت كورالًا للتّرانيمِ التي حسبتها يومًا ممّا همسَ في أذني إلهٌ.”
أصابني الدوار، هوى بدني مرّات عديدة، حططت في كلٍّ منها قبل ارتطامي بالأرضية منتصبًا وراء الرجل أستثقل رأسي.
رأيتُ مرغمًا تقبيلَه وشمًا على ساعدِه خُيّل لي أنّه باسم زوجتي وهو يقول “فأنا وحيد”، وجُزعت وأنا أستقبلُ حرَّ التفاتته وهو يلفظُ كسكير: “لا يشبه روحًا كنت أحسبها” وغَثيتُ من ذَرِّه الملحَ فوق جرحِ إيمانيَ المهدور عند غصّته الخاتمة: “ممّا همس في أذني إله”.
انتهى العجوز وأنا مشدوه، ثم غادر لا مبالٍ بي، أظنّه تبخّر عند عتبة الباب ولم يتبخر عن ذاكرتي حتّى الآن.
كانت كلماتُه تدقّ على دماغي كالصّخر، وتحفر في ظهر رسولها المعذَّب شامةً أخبرتني أسيلُ بوجود مثلها عندي.
لا أذكرُ بعدها إلا أنّي أفقتُ متعرقًا، لأسارعَ إلى زوجتي وأطفاليَ وأتوسل إليهم ألّا يذروني في الدنيا أبدًا، وهم يضحكون ويعدون دون ملل.
لم أترك بعد تجربةِ الهذيانِ هذه ساعةً لم أستمطر منها إكسير المعنى، إكسير الله، صار عناقي شديدًا وفاهي ضحوكًا وعاهدتُ نفسي ألّا أرسم على جلدي وشومًا مجددًا، وصرت كلّ سنةٍ قبل عيدي آخذُ الأطفال لنخيّم وأمهم أسبوعًا في بريّة لا مرايا فيها، صار شغلي الشّاغلُ منع العجوزِ عن الوجود، أو منع قنوطه عن الوجود، صرتُ أخشى عجوزًا، صرتُ أخشى صيرورتي إليه.