هوس الأرقام في فيلم Pi

في وضح النهار، تتربع الشمس في منتصف السماء، لا شك في وجودها. عندما نريد أن نشير إلى شيء واضح نقول إنه (واضح وضوح الشمس)، (الشمس لا يمكن تخبئتها بالغربال!)، فهي رمز الوضوح وهي الوهج الذي ينير محيطنا.

عندما كنت طفلًا صغيرًا، أخبرتني أمي أن لا أحدق في الشمس، ومرةً عندما كنت بعمر ستة أعوام، فعلت ذلك.

لم قد يكون التحديق بالشمس مدعاة لخوف الأم على طفلها؟

صعوبة التحديق إلى الحقيقة

الضوء الذي يصلنا بعد ثمانية دقائق من حدوثه في داخل هذا النجم المميز بالنسبة لنا، لأنه حين يظهر يواري ما سواه من نجوم في السماء، نحن نشير إلى المستحيل بـ(النجوم بعز الظهر)، لكنها هناك دائمًا، تصلنا بتراتب حسب بُعدها، تسافر بالزمن، لكن تغطيها الشمس بالنهار، الشمس ليست الأقوى ولا الأكبر ولا الأجمل، بل هي كنجمة أقل من عادية، لكنها (الأقرب)؛ وهذا هو سر الخوف من التحديق فيها، فأكثر الأشياء ألفة حولنا هي الأشياء التي نحن أكثر جهلًا بها، كأن الحقائق تتوارى خلف وضوحها الساطع الذي يسلب البصر حين محاولة التحديق فيه، لا يستطيع الإنسان الوصول إلى الشمس بأي طريقة، كأي شيء آخر بالفضاء البعيد جدًّا، وهي بالتحديد تحرقنا إذا ما توفرت لنا سبل الاقتراب منها، إنها منيعة، ولكن هل هذا يجعلنا نجهل الشمس؟

بادئ الأمر السطوع كان ساحقًا، لكني استمريت بالنظر مجبِرًا نفسي على أن لا أرمش، وبعد ذلك، بدأ السطوع يذوب، كل شيء تحول إلى بؤر.

يسمى عدد الجمال، يدخل في رسم ما يعرف بالمستطيل الذهبي، عن طريق موازنة رشيقة بين طوله وعرضه، لو تركت ذلك المربع فإن المستطيل الذهبي الأكبر يتبعه بنفس النسب الفريدة، وهكذا إلى ما لانهاية، هذه هي النسبة الذهبية ø التي تشكل اللوالب من حولنا، نحن نُبنى من أكوام من اللوالب (الدي إن إيه)، بينما نعيش في لولب عملاق (مجرة درب التبانة)، ثم إن كل شيء نفعله يصب في تلك اللوالب؛ قشرة الصدفة، قرون الأكباش، الدوامات، الأعاصير، بصمات أصابعنا، وربما أقدارنا!

نفس الأرقام تكوّن كل شيء بالطبيعة، (فاي) الموجودة في متوالية فيبوناشي. لكن ماذا يريد أن يخبرنا هذا الرقم؟ ولماذا هو محيط بنا إلى هذا الحد؟ وهل هو الوحيد؟

إعلان

“هل يملك الحاسوب ضميرًا؟ وهل للأرقام وعي؟”

أسئلة عجيبة ربما، ربما نسأل عن وعي شيء حي كالحيوان أو النبات أو حتى الفيروس، أو قد نسأل عن وعي الأجهزة الذكية، لكن هل سؤال امتلاك الأرقام لوعي مطروحًا؟ ومن قد يسأل هكذا سؤال؟!
أتعرف تلك الحالة التي تجتاحك عندما تصادق شيئًا ما حتى وإن كان جمادًا لا يتحرك، شيئًا ما يخدمك فتشعر أنك بدأت تتفاعل معه، قد تحب الطاولة، أو تغضب من الخزانة؛ فإذا كانت الأرقام تتفاعل بشكل ما مع العالم، تتحدث إليه بطريقة ما، وتخبر عنه، ربما تتمنع أحيانًا من الظهور لنا، أو (قد تقتل)! هذا ليس سؤالًا تافهًا، هذا سؤال يتعذب به صاحبه!

ماكس كوهين، هو عالِم رياضيات متخصص في نظرية الأعداد، يبحث لإيجاد نظرية تتنبأ بنتائج سوق الأسهم الذي يتسم بالفوضى، فهو متعلق بعدد غير محصور من الأسباب الأولية. في مرحلة ما اعتَبر علمُ الاقتصاد أن الإنسان عقلاني يبحث عن مصلحته عندما يتعامل مع السوق، سواءً كمنتج أو مستهلك، لكن تبين فيما بعد أن العاطفة هي محرك أساسي لتصرفات الإنسان، مما أدى إلى انهيار العقلانية وبقاء نظرية الاقتصاد بدون قدرة على التنبؤ بالأزمات المالية أو الكساد أو صعود العملات أو… إلخ.

أستاذ ماكس هو صديقه الوحيد، يذكره ماكس بنفسه قبل ثلاثين عامًا، يفهم كل ما يقوله ماكس لأنه ببساطة سبق أن عاشه، هو يعتقد أن الحاسوب ذا الطبيعة السليكونية له إحساس، ويرى أن الحاسوب لا زال يعاني من مشاكل تقنية تمنعه من استمرار أي عملية رياضية للتنبؤ بالفوضى، أو تحوي على لانهايات، لذلك ينحصر الرياضي داخل حلقة ولا يستطيع الخروج منها؛ ولذلك أصر على تلميذه ألا يخوض أكثر بهذا الأمر وأن يأخذ استراحة، بإشارته إلى السمكة التي لا تستطيع أن تطير من حوض السمك لترى ما خارجه.

عندما أحدثكم عن ألم المعدة، ربما أستطيع الوصف بأن هناك شيئًا يتلوى في الداخل، أو قد أصف الصداع أن ثمة مطرقة في داخل رأسي؛ لكن، ماذا عن الصراع؟! الصراع كعرض جسدي، الصراع كشيء تلمسه ويلمسك، بل يغتصبك، دماغك متحلل من رأسك، مرمي أمامك ويصدر أصواتًا عالية، ذلك الدماغ الذي لن تستطيع احتماله ولا التخلص منه! إنه ملازم لك، قد تأكله الحشرات بشراهة، وتبقى أنت والصراع متلازمين.

مشهد التقاء ماكس بدماغه خارجه كان في مكانين، الأول حمام شقته، والثاني محطة انتظار القطار، وتلك هي الأماكن التي كان يهرب إليها ليتناول أدوية الاضطراب النفسي الذي بدأ عنده منذ كان ست سنوات، الصداع الذي لازمه بعد أن بقي شهورًا معصوب العينين بعد مشهد تحديقه بالشمس، كأن رؤية “الحقيقة” تعمي الإنسان لفترة، ثم تبقى بداخله تعذبه دون أن ترضى الخروج على الورق أو حتى أن تلمع بالوعي.

ماكس يصل إلى مرحلة تناول مهلوسات من أنواع قوية كلما شعر أن الأرقام تعذبه وتكاد تقتله، حياته متوقفة عند استخراج الحقيقة من داخله.
من المشاهد الصادقة والرقيقة في الفيلم، هي عند اعتزال ماكس عند شاطئ البحر، مر أمامه رجل يبحث عن اللآلئ في الأصداف، فترك الصدفة حيث كانت فارغة؛ لكن ماكس عندما أمسكها تمسك بمشهد اللولب، لقد كانت إشارة الطبيعة ليعود لعمله وبحثه وإن كان مضنيًا، لقد كان حساسًا لكل المشاهد المشابهة، انتشار الحليب في فنجان القهوة، انتشار نفث السيجار في الهواء، حتى أن تكبيره للسائل اللزج الذي وجده على رقاقة من حاسوبه (إفرازات حشرة) كان بشكل لولبي.

“عندما تحدق إلى الفضاء هكذا، فقد تصبح أعمى. ما هي العيون بدون الدماغ؟”

متى قد يعميك التحديق، ومتى تصبح جاهزًا للرؤية؟ وهل يمكن الرؤية بدون محاولة التحديق؟! هذه المفارقة العجيبة التي تتسم بها الحقيقة؛ الحقيقة التي لن تصل إليها طالما أنت مسترخٍ ومرتاح، طالما أنت حريص على عيونك من فقدان البصر، لكنك لا تدرك أنك تفقد البصيرة، وأن التجربة هي خير دليل وبرهان، أنت لا شيء طالما لم تستكشف نفسك وبالتالي العالم والحقيقة!

حقيقة الشمس قد تصل إليها الآن ببحث صغير على جوجل، عندما ننظر إلى الشمس نرى أنها كرة صفراء ملتهبة، لكنها في حقيقتها بيضاء اللون، ونحن نراها بالأصفر بسبب خاصية النشر الإشعاعي للسماء للون الأزرق، وهي «قزم أصفر» حسب التصنيف النجمي، لأن الأشعة المرئية أكثر في الطيف الأصفر والأخضر. نحن نعرف عنها الكثير، فهي تعادل كتلة ٣٣٠٠٠٠ كتلة الأرض، ونعرف تركيبها الكيميائي بالتفصيل الممل، فهل هذا كان أثر التحديق بها؟ لا، بل إنها الأرقام.

 لعبة Go

“اليابان قديمًا، صممت لوحة لعبة “جو” لكي تمثل بها عالمًا صغيرًا للكون، بالرغم من أنها تبدو وهي فارغة بسيطة ومنظمة، إلا أن الإمكانات فيها لانهائية، لذا فإن لوحة “جو” تمثل في الحقيقة غاية التعقيد والكون الفوضوي، هذا الكون لا يمكن أن يلخص بسهولة بالرياضيات، لا يوجد هناك نمط بسيط.”

عندما نتحدث عن لعبة تشبه شكل الفراغ المتخيل في عالم نظرية الكم (مسرح الوجود الأول). أحجار سوداء وأخرى بيضاء يتم اللعب بها باحتمالات مفتوحة؛ ففي البداية أنت لا تملك أية خطة، ثم مع تقدم اللعب قد لا تتمكن من امتلاك خطة أيضًا! هذه اللعبة تؤكد على أهمية (العدم أو اللاشيء)، فالنجاح ليس مرهونًا بأحجارك وشكلها؛ بل بشكل الفراغ بينها والمحافظة عليه، هذه المساحة الحرة تزيد درجاتك.

قد يعجبك أيضًا

كما تتوافق هذه الفلسفة مع تشكل الوجود من العدم ووصوله لمرحلة امتلاك معنى ما، فهي أيضًا مستخدمة كرمز عجيب وعميق في هذا الفيلم، إنه العقل الباطن، في فيلم PI كان يلعب ماكس كوهين مع أستاذه الحكيم، الذي يحاول إيصال رسالة أنك لن تستطيع الوصول إلى أصول اللعبة، يطلب منه فقط أن يستخدم حدسه وألا يحاول البحث عن نمط رياضي، لكن ماكس يبحث عن الحل باستخدام الأرقام، ونظريته أن الرياضيات هي لغة الكون وأن كل شيء يمكن تحويله إلى رياضيات، أستاذه في النهاية يصاب بانهيار بسبب شدة تركيزه وبحثه عن حل- على عكس نصائحه لماكس-، يكون آخر مرة قد حول لوحة لعبة “جو” إلى شكل حلزوني (النسبة الذهبية)، هو بذلك كأنه توصل لسره العظيم، سر الكون والإله القابع داخلنا كلنا، ويترك ورقته المزدحمة بالأرقام التي قتلته، ليتعلم تلميذه من هذا الدرس القاسي!

في فلسفة هذه اللعبة تمثل اللوحة الأرض، والأحجار البيضاء والسوداء الين واليانغ، وهما رمزَا الوجود المتضاد المتكامل، الذكورة والأنوثة، الشر والخير،… ، واللذان لا يوجدان إلا بقلب بعضهما ولا ينفصلان، ثم يترك للاعب حرية الاختيار لتقرير مصيره، مساحة الحرية التي يمكنه الحصول عليها من أجل استمراره في اللعبة، الاحتمالات المفتوحة على مصراعيها تشكل ضغطًا أكبر على اللاعب، فرص وإمكانات لا نهائية، بالنسبة لهم هذه هي صرامة “التاو”، والتاو تعني قوانين الطبيعة الأم، أي يمكن أن نعتبرها رمزًا ما للرياضيات، الرياضيات التي آمن بها ماكس، ومن خلالها زاد تعقيد حياته.

الإمكانات اللانهائية في اللعبة تشبه وعي الإنسان، والاحتمالات المفتوحة لاستنتاجاته وتحركاته، وصعوبة التنظيم والتخطيط واتخاذ القرارات بهذه الظروف، أيضًا تشبه الطريق الذي نبحث عنه كلنا، الخارطة التي قد يرسمها كهان ورجال الدين، الذين ينسبون الطهر لأنفسهم بمجرد امتلاك المعبد وضبط مظهرهم ولباسهم بشكل معين، وظنهم بأن باقي الشعب ليسوا إلا كفرة أنجاس لا يصلحون للتوصل لحقيقة ما بخصوص الإله، وتشبه الطريق الذي نتوه فيه وننجذب له حينًا ونبتعد عنه حينًا آخر، الأسلوب المادي للحياة، الربح والمزيد من المال والأحلام المعلقة على أشياء ملموسة.

“لكن بينما تتقدم اللعبة، فإن الإمكانيات تصبح أصغر، عليك مواجهة اللوحة بصورة قريبة لكل تحرك متوقع؛ لذا فإننا بالرغم من أننا لسنا مدركين له، إلا أن لها أصل يقع تحت كل خطوة بلعبة “جو”.”

البساطة العميقة، والفوضى الخلاقة

“لو تم تخطيط الأرقام بنظام فستظهر تفاصيل الأرقام، لذا فهناك تفاصيل في كل مكان حولنا بالطبيعة؛ حلقة الأوبئة والمرض، الزيادة والنقصان للسكان، دوران الشمس، زيادة وانخفاض منسوب النيل؛ إذًا، ماذا عن سوق الأسهم المالية؟
كون تلك الأرقام تمثل الاقتصاد العالمي، ملايين الأيدي في العمل وبلايين العقول، شبكة واسعة من الصراخ بالحياة للكائن الحي، كائن حي طبيعي.
فرضيتي: ضمن سوق الأسهم المالية، هناك تفاصيل أيضًا أمامي تمامًا تختفي وراء الأرقام دائمًا، إنها لعبة الأرقام…”

كان الدرس القاسي الذي تركه أستاذه مفتاح الحل، فماكس كان يؤكل من قِبل دماغه، بحاجة إلى الإمساك بحفار ونخر رأسه عن بكرة أبيه، فالبحث الشاق عن الله الذي يستهلكه، بعيدًا عن أحجبة الكهان وعن دفء حيطان المعبد، مرميًّا في شقة حقيرة تملؤها الأجهزة المعقدة، إنه يشعر بالله داخل رأسه، إنه هناك لكنه لا يستطيع الوصول إليه والإمساك به! فهل الإصرار على تشغيل أجهزته لتحقيق مكسب دنيوي، كالشهرة وكتابة اسمه بالذهب، هل يلقي بكنوزه (أو حتى الأوراق التي ألقاها في القمامة) في أحضان الحقراء؟ أم سيكون جاهزًا للمهمة؟!

 

كانت نهاية ماكس أن وصل لنتيجة ألا يتناول هذه المرة أدويته، وأن يترك كل شيء بحرقِه ورقة الأعداد التي تركها أستاذه، هذه المرة لم يكمل قصته وتوقف عند أنه حدق مرة بالشمس وهو صغير، ثم نخر الفتحة في رأسه التي يسمع منها الأصوات العالية وحديث الأرقام داخل الحاسوب، ربما (البساطة) هي الحل كما كان يحكي له أستاذه.

ربما أنه لا يوجد نظام هناك، إنما فقط فوضى!

ولكن، ماذا عن باي ؟

نحن نرى ببساطة الدائرة، شكل هندسي خالٍ من الزوايا، ليس لها نقطة بداية ولا نهاية، فنرى التعقيد للأعداد اللانهائية من وإلى اللانهاية، 3.14159 هي النسبة بين محيط الدائرة وقطرها، وهو عدد نجده في كل شيء تقريبًا، وفي كل حركة، في تحويل فوريه يتم التمرير من الفضاء الحقيقي نحو فضاء وهمي عن طريق العدد باي فتترجم أدمغتنا هذا المرور على أنه موسيقى، موجود في دوران الأرض والقمر، في عملية ضخ الدم، كل ما يحيط بنا يهتز وفقًا لهذا العدد، لكنه عدد لا نهائي (غير نسبي)، أي أن الأرقام بعد الفاصلة لا تتوقف عند حد معين.
لو تحولت أرقامه إلى حروف، قد تجد قصة حياتك مكتوبة بكل احتمالاتها، وقصص كل تراتبية أحداث في الكون، إنه ببساطة يخزن كل معلومات الكون.

رغم حضور العدد (فاي) أو النسبة الذهبية بشكل أكبر في احداث الفيلم، إلا أنه سمي بـ(باي)، وهذا كما أرى بسبب أهمية العدد في كونه شيئًا أكثر أساسية أو أصولية في تكوين الكون.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: دعاء أبو عصبة

تدقيق لغوي: تسنيم محمد غالي

الصورة: imdb

اترك تعليقا