الدِّين: الماهية، التكوين، النشأة

الظاهرة الدينية هي نشاط إنساني، وتتنوع مظاهر الدين مع الثقافات المختلفة، وقد مرت الظاهرة الدينية بتاريخ من التطورات المصاحبة لسير النوع البشري، فالدين ظاهرة وجِدت مع بداية البشرية والإنسان العاقل“Homo sapian، بل إنها ظهرت مع إنسان النياندرتال الذي عاش مع الإنسان العاقل في العصور الحجرية القديمة، حيثُ كانت هناك مشاعر دينية أولية في مظاهر الدفن والطقوس المصاحبة له. فالحافز الديني هو استجابة لسر وجود الإنسان الذي يبحث عن معنىً لهذا الوجود، ويتوق إلى معرفة المصير والخلاص.

تعريف: ما هو الدين

تُرد كلمة دين لغويًا إلى أصل في اللغة الأكدية التي تعني القضاء والحساب، والتي هي بدورها ترجمة لكلمة “أور” السومرية بمعنى المدينة (مكان القضاء والحساب)، والتي رحلت إلى الإغريق وترجمت إلى (بوليس/police)، أما الدين عندهم؛ هو كلمة كريستوس وتشير إلى طقس ديني، أما عند اللاتين هي “Religio ” تعني وجوب الطاعة، بينما على المستوى الاصطلاحي؛ يشهد مفهوم الظاهرة الدينية العديد من التعريفات المتباينة، ويرجع هذا التعدد إلى اقتصار كل تعريف على إحدى جوانب الظاهرة الدينيّة، حيث تتوقف النظرة على حسب الزاوية المنظور من خلالها.

الجانب النفسي

هنالك اتجاه ينظر إلى الدين من جوانب الخبرة الفردية والأحاسيس النفسية، فالدين عند وليم جيمس: الأحاسيس والخبرات التي تعرض للأفراد في عزلتهم وما تقود إليه من تصرفات، وتتعلق هذه الأحاسيس والخبرات بنوع من العلاقة يشعر الفرد بقيامها بينه وبين ما يعدّه إلهيًا.

بينما نجد فكرة اللاهوتي شلايرماخر عن أن الدين هو الشعور بالحاجة والتبعية المطلقة، أي وجود وعي بالمقدس في دواخلنا النفسية، وهذا المنطلق هو الذي اعتمده رودولف أوتو في بلورة تعريفه عن المقدس: الوعي بالقدسيّ في تجربةٍ انفعالية غير عقلية، وتنضوي هذه التجربة على مجابهة قوى لا تنتمي إلى هذا العالم، تعطي إحساسًا مزدوجًا بالخوف والانجذاب معًا، بذلك جعل أوتو الظاهرة الدينية هي جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية.

فكرة فوق الطبيعي

تقع تلك النظرة إلى الدين من حيث كونه شيئًا مجهولًا وعصيًا على الفهم، إذ أن الدين يشير إلى ما يتجاوز حدود المعرفة الإنسانية وتصور العقل، فالتدين تصور من متناهي إلى اللامتناهي؛ والأخير هو المستحيل أو بعيد المنال. يقول هربرت سبنسر عن الدين: الاعتقاد بالحضور الفائق لشيء غامض وعصي على الفهم. كما أن تعريف ماكس موللر (مؤسس علم الأديان ومؤرخ الأديان): إن الدين هو كدح من أجل تصور ما لا يمكن تصوره، وقول ما لا يمكن التعبير عنه؛ إنه توقٌ إلى اللانهائي.

إعلان

فالفكرة فوق الطبيعية تنطلق من حيث جوانب الشعور النفسي والتجربة الإنسانية، فهذا التصور للانهائي المستحيل إدراكه بتعبير سبنسر، يجعل منه شعور كامن للتجربة الذاتية الحدسية، لكنه على المستوى العقلي والمعرفي غير قابل للمعرفة فهو المستحيل، فكما تعبر تلك الفقرة لوايتهد: “إنَّ الدين عيانٌ لشيء فيما وراء المجرى العابر للأشياء المباشرة، أو خلف هذا المجرى أو في باطنه؛ شيءُ حقيقي ولكنه مع ذلك لا يزال ينتظر التحقق؛ شيءٌ هو بمثابة إمكانية بعيدة، ولكنه في الوقت نفسه أعظم الحقائق الراهنة؛ شيء يخلع معنى على كل ما من شأنه أن ينقضي ويزول، ولكنه مع ذلك يَنِدُّ عن كل فهم؛ شيء يُعَدّ امتلاكه بمثابة الخير الأقصى، ولكنه في الآن نفسه عَصيّ بعيد المنال؛ شيءٌ هو المثل الأعلى النهائي، ولكنه في الوقت نفسه مطلب لا رجاء فيه”.

الجانب الأنثروبولوجي

مع أبحاث علماء الأناسة حول العقائد البدائية نظريًا وميدانيًا، رأى بعض الباحثون اختلافًا مع بعض التعريفات التي تقتصر الدين حول مفهوم الألوهة، فهذا يعتبر إبعاد عقائد الكائنات الروحية -عبادة أرواح الموتى والأرواحية والفيتشية- ومن هنا يرى إدوارد تيلور أن الأفضل أن نضع حدًا أدنى لتعريف يقتصر على الإيمان بكائنات روحية. وجاء جيمس فريزر، ليقدم تعريفًا مكملًا لتيلور في كتابه المشهور الغصن الذهبي: “استرضاء وطلب عون قوى أعلى من الإنسان، يعتقد أنها تتحكم بالطبيعة والحياة الإنسانية، وهذه العملية تنضوي على عنصرين؛ واحد نظري والآخر تطبيقي عملي. فهناك أولًا الاعتقاد بقوى ًعليا، يتلوه محاولات لاسترضاء هذه القوى، ولا يصح الدين بغير توافر هذين العنصرين”.

الاتجاه الاجتماعي

تلقّى تعريف فريزر للدين النقد من قِبل إميل دوركايم، لأنه لا يشمل العقائد والممارسات التي تخلو من الكائنات الروحية والإلهية كالبوذية أو أنها تلعب أدوار هامشية في بنية العقيدة كالهندوسية، فقد أسس دوركايم تعريف عن الدين يهدف إلى الشمول، فقد فصل بين عالمين مختلفين؛ المقدّس والدنيوي، إذ أنه:

“هو نظام متسق من المعتقدات، التي تدور حول موضوعات مقدسة يجري عزلها عن الوسط الدنيوي، وتحاط بشتى أنواع التحريم، وهذه المعتقدات والممارسات تجمع كل المؤمنين والعاملين بها في جماعة معنوية واحدة تدعى الكنيسة؛ أي المِلّة”.

ويعتبر تعريف دوركايم مُعبر هام عن علاقة الدين بالاجتماع، بعد تحديد الوجود إلى مقدس ودنيوي؛ “حلول المقدس في الدنيوي، وتطلع الإنسان من الدنيوي إلى المقدس”، وقد فتح طريقًا أفضل نحو تلمس ماهية الدين، فهو لم يقتصر على الآلهة مثل جيمس أو العقل الخفي عند رافيل أو الكائنات الروحية عند تايلور، فإذا كان حقًا العالم المقدس صعب الإدراك، فإن الدنيوي مدرك، لذا يمكن معرفة ماهية الدين من خلال تبدياته في مظاهر الاجتماع، وقد جاء مرسيا إلياد ليبلور مفهوم دوركايم، ويضع تعريفًا دقيقًا، عندما قال:

“يتجلى القدسي، دائمًا، كحقيقة من صعيد آخر غير صعيد الحقائق الطبيعية، ويعلم الإنسان بالقدسي لأنّه يتجلّى، يظهر نفسه شيئًا مختلفًا كلّ الاختلاف عن الدنيوي، ويمكننا القول أنّ تاريخ الأديان، من أكثرها بدائية إلى أكثرها ارتقاءً عبارة عن تراكم من تجليات الحقائق القدسية، ليس ثمّة انقطاع لاستمرار الظهورات الإلهية، بدءًا من تجلّي القدسي في شيء ما، كحجر، أو شجرة، وانتهاءً بالتجلي الإلهي الذي يُمثَّل لدى المسيحي في يسوع المسيح. إنه الفعل الخفي نفسه: تجلّي شيء مختلف تمامًا؛ أي حقيقة لا تنتسب إلى عالمنا في أشياء تشكّل جزءًا لا يتجزأ من عالمنا الطبيعي الدنيوي”.

فمن خلال ما سبق من تعريفات حول الدين، فإن مع اختلافها، لكنها توضح تبديات الظاهرة الدينية، من الفرد إلى الجماعة للدولة المركزية والاتجاهات اللامركزية. فيمكننا القول أن الدين يتبدى في ثلاثة مظاهر مترابطة:

الدين الفردي:

هو نوع من الخبرة الحسية للفرد، فهي أمر ذاتي يتفاوت نسبيًا من شخص لآخر، وهذا الدين الفردي هو بذرة التأسيس للديانة أو الفرقة إذ تم تصدير تلك التجربة الذاتية، لذا فهو شعور نفسي خاص، وذلك ما يتسق مع تعريف أوتو عن الوعي بالمقدس، ونماذج التجربة الفردية مثل المتصوفة والشامانات (عند القبائل البدائية)، فالدين الفردي كدين حي بن يقظان.

الدين الجمعي:

حيث يتشارك مجموعة من الأفراد حول أنماط من طقوس ما لها معتقد ومفهوم متفق عليه بينهم، أو أن ينقل بعض الأفراد تجاربهم الفردية على نطاق التشارك في تجربة عامة، وهذا ما يقود إلى الاهتمام بتناسق وترابط الأفكار بينهم وتكون المعتقد، ومع توحيد الشعائر والممارسات يكون الطقس المنظم، فبذلك تكون الخبرة الدينية في شكل جمعي يعوض الفرد عن البحث عن تجربة فردية، ففي الأصل؛ كما أن الفرد هو وحدة الأساس للمجتمع، فإن التجربة الفردية هي الأساسية في وجود الدين الجمعي، كالأنبياء، ويعتقد كارل غوستاف يونغ بوجود جدلية لا غنى عنها بين الدين المؤسس اجتماعيًا وبين الخبرة الدينية الفردية المباشرة.

المؤسسة الدينية:

ظهرت المؤسسات الدينية كالمعابد وأدوار العبادة مع نشأة المدينة ومؤسسات الدولة مع العصر النيوليتي الزراعي، فإذ بها تمثل السلطة والمرجعية العليا، فهي شكل مؤسسي لتطور النمط الاجتماعي والسياسي.

مكونات الدين:

بالرغم من تنوع الديانات الهائل واختلاف تركيبها وتطورها التاريخي، إلا أن كل الديانات تشترك في بنية هيكلية موحدة، تتكون من عناصر رئيسية (نظرية) وأخرى ثانوية (عملية)؛ فهما على أوجه التناظر في ظاهرة الدين.

جدول يوضح المكونات الأساسية والثانوية للدين، من كتاب علم الأديان

(1)
مكون أساسي (نظري): المعتقد

هو البنية النظرية للدين، والتعبير الأول عن الخبرة الدينية الشعورية جماعيًا عن طريق المفاهيم الفكرية والعقلية، وجوهر المعتقد هو الجزم بوجود قوة ما قدسية منفصلة عن العالم الدنيوي، ويتألف عادًة من بعض الأفكار البسيطة الواضحة التي ترسم صورة عن القدسي، ويأخذ المعتقد أشكالًا من التعقيد مع مرور الزمن والأجيال في بلورته وتأصيل قواعده، فالمعتقد شأن جماعي، ويخرج العلم الإلهي “الثيولوجي” بعد تطور المعتقد ورسوخه، ويسمى علم اللاهوت أو علم الكلام (إسلاميًا).

مكون ثانوي (عملي): الأخلاق والتشريعات

الدين في حيز الاجتماع، يضع عدد من الأوامر والنواهي والأعراف الاجتماعية التي تهدف لتنظيم الحياة العملية والاجتماعية والتي يضفي عليها الطابع المقدس، ففي الأصل تكون الأخلاق مستقلة عن الدين، فهي قواعد تنظيم سلوك وأعراف مجموعة من البشر فيما بينهم، وقد أدى تأييد الدين ودعمه لقواعد أخلاقية مقدسة في اتصالهما، وأدت عوامل مثل اجتماع السلطة السياسية مع الدينية “الكاهن” الذي يؤدي إلى تحول لوائح التابو إلى قواعد أخلاقية وتوسعها على أعراف الحياة في جمع الأخلاق في زمرة المقدس، ومن الأخلاق العامة وجد التشريع الذي يُفرض من سلطة سياسية، وقد حافظت بعض الديانات على الانفصال بين الدين والأخلاق مثل الديانات الإغريقية والصينية.

(2)
مكون أساسي: الأسطورة

الأساطير هي حكايات وقصص عن الآلهة والكائنات الإلهية في العالم المقدس، تُروى كحقيقة أصيلة لأبناء الديانة، وترتبط الأساطير بالطقوس، حيث تمثل الجانب الأدبي للدين، بينما الطقوس والشعائر هم جوانب الممارسة العملية، والأساطير هي امتداد أدبي للمعتقد الديني، والتي تعمل على توضيحه واستمراره في الزمان عبر الحضور الدائم في التصورات الدينية بتناقلها عبر الأجيال، فالأسطورة تبدأ “عندما نعوز لهذه الآلهة بدايةً محددة في الزمن، وعندما تباشر هذه الآلهة فاعليتها وتنبّئ عن وجودها في سياق زمني، أي عندما يتحول الوعي الإنساني من فكرة الألوهة إلى تاريخها”.

مكون ثانوي: السير المقدسة

تعتبر سير حياة مؤسسي الأديان من أنبياء وكهنة وأولياء مصدر إلهام للمؤمنين، فتأثيرها في الحياة العامة يجابهه تأثير الميثولوجيا في ترسيخ العقيدة الدينية، فهي دور روحي ومُثُل رمزي عن القيادة الروحية لأشخاص تحدث منهم معجزات وخوارق للعادة.

(3)
مكون أساسي: الطقس

هناك من يرى أن الطقس يسبق المعتقد والأسطورة، لأن الفعل يسبق التفكير والعاطفة تسبق العقل، ولأنه لا يمكن لدين أن يوجد بدون طقس -كما لم يُكتب للأفلاطونية المحدثة من الاستمرار لخلوها من الطقوس-؛ حيث تعمل على تحويل الدين إلى عادة راسخة تتناقل عبر الأجيال، ومراسم تعمل بشكل مكرر، الطقوس إذًا تتولد من الخبرة الدينية المباشرة كحالة انفعالية والتي تستدعي القيام بسلوك أو ممارسة ما، كما كان الإيقاع الموسيقي والرقصي من أول الأشكال الطقسية عن السلوك الانفعالي، إلى أن يتجه نحو سلوك منظم، مع المشاركة الجماعية.

التفاعل بين عناصر تكوّن الدين “المعتقد والطقس والأسطورة” هي ما تجعله قابلًا للتطور والتجدد، ففي الأغلب يميل بعض الباحثون إلى أن الدين بدأ من تصور الإنسان عن الموت وما بعده، وأن الطقس أول معالم ظهور الشعور الديني، ومن بعده تكوّنن أساطير حول الموتى والأحلام والتي بلورت ملامح الدين في شكل مفهوم معتقدي بسيط، يسير نحو التعقيد كلما استمر في الزمن مع التنقيح والتطوير.

نظريات نشوء الدين

مع القرن التاسع عشر بدأت ملامح الدراسات والأبحاث حول فهم الدين ومكوناته وأصل نشوئه، وتحول ذلك الاهتمام إلى بداية تبلور علم الأديان الذي يتمحور حول الظاهرة الدينية ومظاهرها، ولقد تعددت النظريات في تفسير نشوء الظاهرة الدينية، كما تعددت في تعريفه.

-النظرية الأنثروبولوجية

تعتمد الأبحاث الأنثروبولوجية على الدراسات المقدمة للمجتمعات البدائية، فطُرحت النظرية الأرواحية كاتجاه عقلاني في تفسير نشأة الدين، وقد وضع الفيلسوف الاجتماعي هربرت سبنسر أول خطواتها، فقد افترض أنه قد مرت مراحل أولية على المجتمعات البشرية لم تعرف خلالها الدين، ثم بدأ الدين بالتكون “عندما أخذت الجماعات البشرية بتقديس أرواح زعمائها الراحلين، وتحولت أرواح هؤلاء الأسلاف المبجلين تدريجيًا إلى آلهة، تمركز الدين حولها وابتدأ بها”.

ولم يتوقف تايلور عند تصور سبنسر، فلقد شرع في تطوير نظريته، فكوّن مفهوم عن الأرواح قد أتى من تأمل الإنسان لأحلامه ولزيارة موتاه له فيها، وانتقل تايلور إلى الربط بين فكرة الروح ومفهوم الآلهة ونشوء الدين، فلأن البدائي لم يكن يفصل بشكل أصيل بين أشكال الجماد ومظاهر الحياة، لذا يفسر تيلور أن البدائي وسّع منظوره للروح من الكائنات الحية إلى مظاهر الطبيعة، فاعتقد بأنها مسكونة بالأرواح، فالدين هنا قد نشأ نتيجة الفكر والتأمل في الأحلام والروح وربطها بالطبيعة وما أفضى إلى عبادة الأسلاف ومظاهر الطبيعة.

ونلاحظ هنا أن تيلور قد استبعد السحر من مفهوم الدين، ولقد أضاف روبرت ماريت مفهوم المانا الذي هو قوة سحرية تختلف عن القوة الطبيعية، اعتقد البدائي بوجودها في مظاهر الكون التي تجلب الخير أو الشر، وقد جاء فريزر وربط السحر بالدين، ورأى أن المعتقدات السحرية سبقت في الظهور المعتقدات الدينية، بل وأن الدين والعبادات ناتجه عن مرحلة السحر، فلقد قسم سير المجتمعات: مرحلة السحر، مرحلة الدين، مرحلة العلم، ورأى فريزر أن الإنسان في الماضي حاول إيجاد طريقة يسيطر بها على بيئته، فظن أن تلك السيطرة تتم له بتطبيق مبادئ المعتقدات السحرية، لذا قد التفت اتجاهات مفكري الأنثروبولوجيا حول الاعتقادات الأولى، مثل الفيتشية والأرواحية والطوطمية.

-النظرية الطبيعية

يعتبر ماكس موللر هو الأب الروحي لعلم الأديان، والذي اتجه إلى موقف عقلاني آخر بخلاف علماء الأنثروبولوجي، حيث يؤكد أن الاعتقاد الديني لابد وأن يأتي من الإدراك الحسي، فمنشأ الدين نتيجة تأثير الطبيعة على الإنسان، حيث أثارت الظواهر الطبيعية -وهي قوى مستقلة عنه- دهشته وفتحت أبواب التأمل، ففي مظاهر التغير وتعاقب الفصول ومناظر الأجرام السماوية قد زرعت الشعور بالمجهول مقابل فكرة المعلوم، والمحدود في مقابل اللامحدود، وتلك طرق أولى لتكون العاطفة الدينية، وعن طريق اللغة التي أنشأت المجاز، فيجد موللر أن معظم أسماء الآلهة الهندو-أوروبية هي كلمات دالة على ظواهر طبيعية، ففي اللغة السنسكريتية قد أسموا قوى الطبيعة بما يدل على فعلها.

فالصاعقة هي الشيء الذي يمزق التربة أو ينشر النار، والنهر هو الذي يفيض، وبذلك قد تحول هذا التصور عن الفعل إلى شخصية تفعل كما يفعل الإنسان، ولذا يرى أن اللغة لها دور هام في خلق الدين في أشكال مجازية لغوية تضاف في العالم الطبيعي، كما يتجلى للحواس عالمًا متخيلًا من الكائنات الروحية، بينما يرى العالم جيوفنس أن التأمل والنظر في الظواهر الطبيعية العادية لا يكفي لإثارة الفكرة الدينية، إنما الذي يثيرها هي الطبيعة الشاذة العنيفة، فالحوادث تبعث الخوف، فالذي يحتاج لمعرفة مصدرها ينسبها إلى قوة خفية مسؤولة عن الشرور والألم.

النظرية الاجتماعية

يتجه إميل دوركايم في نقد الاتجاه العقلاني بشقيه الأرواحية والطبيعية، فيعتبر أنهما يهربان بالدين عن الحقيقة الاجتماعية، ويقيمان الدين على أسس توهيمية كالأحلام والأرواح أو أسس طبيعية ومجازية اللغة، فالنظريتين تذهبان إلى نفس النتيجة في الافتقار إلى القيمة الموضوعية، فالخبرة الدينية عنده لا تأتي عن طريق التأمل والتفكر. ويربط دوركايم ظهور الدين مع ظهور المجتمع؛ “فلقد قدمت الطقوس وإجراءات التحريم (التابو) مهادًا اجتماعيًا لنشوء الأديان، فقد قدمت الحياة الاجتماعية مادة أولية أساسية لنشوء الأديان”.

النظرية العاطفية

لا تعزو هذه النظرية نشأة الدين إلى الأرواح أو الطبيعة أو المجتمع، بل تذهب إلى أن أقصى مخاوف الإنسان خوفه من الموت، وأقصى طمعه هو الاستمرار والخلود بعد الممات، وبهذا تقسم النظرة العاطفية الإنسان إلى شطرين: مادي وروحاني، والأخير يتجاوز حدود الموت المدرك ماديًا. ومن أبرز المفكرين الذين عزوا تفسير نشأة الدين والسحر إلى الاحتياج العاطفي: الأنثروبولوجي الإنجليزي مالينوفسكي، حيث يرى أن الشعائر الدينية تحقق أغراضها بالمشاعر التي تخلقها، إذا تقف النظرية العاطفية عند تفسير ظهور الدين نتيجة عاطفة الخوف والطمع، ورأت أن ظهور الآلهة كان نوعًا من الخلاص الذي ابتكره الإنسان لكي يطمح إلى الخلود والبقاء بمساعدة قوة عليا.

النظرية الفلسفية والنفسية

هناك العديد من التصورات الفلسفية المتنوعة حول موضوع الدين عامةً، وتعتبر نظرية هيغل عن نشوء الدين التي تنبع من فكرته الجدلية -الديالكتيك- أكثرهم بريقًا، فهو يرى أن الدين يقع ضمن جدل الروح المطلق الذي ينتج عن جدلية الروح الذاتي والروح الموضوعي، ويرى هيغل تلك الروح اللامتناهية في مراحل: الفن والدين والفلسفة، حيث تمثل صعودًا في إدراك الروح الأزلية، فالفلسفة صورتها الأعلى، ويرى هيغل أن الدين نشأ عندما كان العقل وحده أمام الطبيعة، ولم يكن هذا العقل يفصل بين ما هو كلي وما هو جزئي، أي بين الله والإنسان، ويُقسم هيغل مراحل تطور الدين على ثلاث محطات:

الديانة الطبيعية: حيث تدل على فكرة الجوهر، بدايةً من تصورات السحر إلى تصور إله، وتشكل مذهب وحدة الوجود، مثل التاوية والهندوسية والبوذية، وتنتقل فكرة الجوهر إلى مفهوم الروح مثل الزرادشتية والديانات الآشورية والمصرية القديمة.

الديانة الفردية الروحية: التي تتمثل في ديانات كاليهودية وديانات الإغريق والرومان.

أما المرحلة الأخيرة فالديانة المطلقة، التي هي عند هيغل في المسيحية، حيث يكشف الإله عن نفسه تمامًا، أما ما يعتبر أنه الإسهام التأسيسي لفلسفة الدين، كانت على يد الفيلسوف الألماني لودفيغ فيورباخ، الذي تأمل الدين من خلال دراسة الإنسان وكل ما هو إنساني، فالدين عند فيورباخ هو معرفة وتصور الإنسان لذاته وجوهره، أي الوسيلة التي يتخذها البشري في البحث عن نفسه، أي أنه سلوك الإنسان تجاه ذاته، فهو يُعلي الجوهر الإنساني عن الوجود المادي، ويقدسه ويبجله، بذلك تكون الصفات الإلهية هي صفات بشرية في أقصى درجات كمالها، بذلك يكون جوهر الدين عند فيورباخ هو الرغبة والتوق في التحرر والخلود والكمال، فهو يرى أن الإنسان خلق إلهًا على صورته، فنشوء الدين هنا يرجع لحاجة إنسانية من ضعف وفقر الإنسان.

يقول فيورباخ: الدين ما هو إلا محاولة بدائية بائسة لإضفاء صفة المطلقية على السلوك البشري، وهذا ما يشق الطريق للنظرية النفسية التي تُرجع الدين لعوامل نفسية، فيقرر سيجموند فرويد أن الدين ما هو إلا عوارض عصابية، فالدين ظاهرة عصابية على المستوى العام تعادل الظاهرة العصابية على المستوى الخاص، لذا يرى فرويد أن الدين ليس إلا وهم وتمنيات.

ويُرجع فرويد ظهور الدين إلى بدايات ظهور التشريع ونشأة الطوطمية ومظاهر التحريم التابو، فيعتمد فرويد على أبحاث فريزر عن المجتمعات البدائية والطوطمية في الكتاب المشهور الغصن الذهبي، حيث يرجع نشأة عقائد الطوطمية القبلية وشرائع التابو في التحريمات إلى تصور أن جماعات العشائر الأولية ساد بها مركزية ذكورية أبوية، حيث يستحوذ الأب على جميع نساء عشيرته حارمًا الأبناء، والذي أدى لتولّد مشاعر الغيرة، فيتم قتل الأولاد لأباهم، لكن بعد ذلك أصابهم الشعور بالندم، ومن ذلك نشأ التشريع والاتفاق على تجنب نساء العشيرة، واتخاذ الزواج الخارجي عن داخل العشيرة، وبذلك ظهر تابو المحارم، ومن ثم صاروا يحيون ذكرى مقتل الأب، ونشأت طوطمية كل قبيلة بل وتمجيده إلى مستوى الإله إرضاءً لروحه، ويرى فرويد أن نشأة الدين والأخلاق جاءت من سن تلك التشريعات والتحريمات التي هي نواة الدين.

المراجع:
[1]علم الأديان، خزعل الماجدي
[2]دين الإنسان، فراس السواح
[3]الزمان والأزل، ولتر ستيس

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عصام أسامة

تدقيق لغوي: سلمى الحبشي

اترك تعليقا