يوميات عهد جديد

مزيجٌ من الفرح والسرور، عند بعض ركاب حافلة المؤسسة التعليمية التي يعمل بها محمود، والحيرة والاستغراب عند آخرين، هذا ما كان عليه حالهم وهم ينتظرون انطلاقها باكرًا هذا اليوم -على غير المعتادـ- بعد إعلانٍ ضجّ الناس منه “حظر التجوّل الشامل”، ولمدة أسبوعين قابلةٍ للتمديد من قِبل الحكومة، وبالتنسيق مع فريق خلية الأزمة. فرِحَ مَن لم يعتد على حمل المسؤوليات، التي يمكن أن تخيف مَن فكّر بها.. ولهول الخبر المفزع للبعض، بمقابل أناس آخرين فرحوا؛ ممّن تُحتّم عليهم طبيعة عملهم الالتزامَ بساعات عمل طويلة، أو ممّن لا تتيح لهم ظروف عملهم أخذَ مستحقّاتهم من إجازاتهم السنوية، لسببٍ أو لآخر، لأنهم سيحظون بعطلةٍ طويلة نوعًا ما؛ راحةً من ضغوطاتِ العمل ومتطلباتِه. أمّا محمود، فقد طغى ضجيجُه الداخليُّ على سعادته بسبب العطلة القادمة؛ لانشغاله بالتفكير بما هو مخفيّ عن غيره، وبما هو أعظم.
بدأتِ القصة عندما شنّ كائنٌ مجهريٌّ يسمى (فايروس كورونا) هجومًا بلا رحمة، استهدف بني البشر، دون تفرقةٍ لبلد على بلد، أو تمييز للون أو عرق على آخر، جائلًا الأرض، مولودًا في شرقها، مارًا بوسطها عابرًا إلى غربها، يتجوّل كيف يشاء بين بلدان العالم، المتحضر منها والنامي. ظلّت أخبار الفايروس تتصدر عناوين النشرات المسموعة والمرئية كخبر رئيس، فأعدادُ المصابين في تزايدٍ مستمرٍّ، تصعب السيطرة عليه، ومخلوق مجهري يُدعى: (Covid-19) يجوب أرجاء الأرض، يصيب من يصيب، ويحصد أرواح من يحصد، ممّن هو مقدّرٌ عليه أن يكون رقمًا من الأرقام تحت عنوان: (ضحايا فايروس كورونا اليوم).
حتى بداية الشهر الثالث من هذا العام، حديث كورونا هو الحديث الرئيسُ بين محمود وزملاء عمله، كما هو حال معظم الناس، فهولُ المرض كبير، والإعلام مفتوح، والعالم قرية صغيرة. 02-03-2020، هو يوم مهم وتاريخ فارق، تُسجل فيه أولُ إصابة في المملكة، وبهذا، فالحديث عن المرض صار جديًّا، والخوف صار مبرّرًا أكثر، وبطبيعة الحال الشائعات أكثر فأكثر. إصابتان هما اللتان اتفقت عليهما مصادر الأخبار، وصفحات التواصل الاجتماعي، كما أكّد أيهمُ أحد زملاء محمود في العمل، المولَعُ بمتابعة الأخبار المحلية، وتطورات الوضع الداخلي بشكل رئيس، وتلك أهم الوظائف التي يشغلها، أو هي الوظيفة الرئيسة له أحيانًا. إن اطلاع أيهم -باعتقادي- على ما يجري، وهوسَ متابعته على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وتحليلَ الأمور من وجهة نظره الشخصية، ليس حبًّا بالاطلاع، فكم كان يجهد ألّا ينتشر خبرٌ دون أن يمرَّ عليه، أو أن يقرأ عنه؛ وما ذلك إلا لملءِ فراغٍ روحيّ، أو لإشغال فكره، عن مصاعبَ حياتية، وظروفٍ ماديةٍ، يمرُّ بها منذ فترة ليست بالقصيرة. على كل حال، ليس محمود مهووسًا بالمتابعة الشديدة كزميله، بل كان حريصًا على أن يكون على درايةٍ جزئية بالأمور العامة المهمّة، والحوادث والتطورات كعناوين رئيسة لا غير. لمجرد وصول محمود إلى الحي الذي يسكن فيه، يُفاجَأ للمرة الثانية على التوالي في اليوم نفسه من تزايد الإصابات من عشرة ونيف، العدد الذي جاء به من حديثٍ سمعه من أربعة طلاب في حصة تدريب العزف الموسيقي الأسبوعية، إلى بضع عشرات قاربت المائة نهاية ذلك اليوم التاريخي المفصلي. ذلك اليوم الذي تصدرت فيه النشرات المحلية خاصة، والدولية عامة: “تسجيل أول إصابة كورونا في الأردن لأردني قادم من إيطاليا”؛ ذلك اليوم الذي دخلت فيه المملكة المُعترك الذي دخلت به كثيرٌ من دول العالم مع ما لا يمكن رؤياه. وكأيّ خبر (ترند) كما تقول لغة وسائل التواصل الاجتماعية المعاصرة، تكثر الشائعات، وتتعدد المصادر الموثوقة لخبرٍ لم يصدر، أو حدثٍ لم يحدث بعد. العدُّ التنازلي للحظر قد بدأ، والناس في تهافتٍ على المراكز التجارية كأنها تريد وداعها إلى غير رجعة، والمخابز والمراكز التموينية تشهد ازدحامًا كأنها أرض المحشر. كلٌّ يحاولُ تأمين ما يستطيع، ويستحوذ على ما أعانه مالُه على شرائه وتخزينه، ولكلّ خوفُه المبرر، فالتفكير بإغلاقٍ قد يدوم أشهرًا، يجعل من هو مسؤول عن عائلة وأطفال، أو عجائز وشيوخ، خائفًا من مستقبلٍ مجهول، وموتٍ للحياة أو شبهِ موت كحال كثير من البلاد التي فتكَ بها الوباءُ وانتشر، ويجعل ربَّ الأسرة في خوفٍ مُضمَر من عجز قد يحول به، أو ضعفٍ يصعب عليه أن يخفيه. أُغلقت أبواب المحلات والمتاجر، وكل من شملتْه أوامرُ الدفاع، مع إغلاقِ أبواب البيوت الغريبِ لأول مرة، مخبّئةً خلفها قلوبًا مؤمنة بقضاء الله من قادم الأيام، ونفوسًا حائرة خائفة من وباء يصعب التنبؤ بما هو آتٍ به، أو بموعد انتهائه.
وفي سابقة لم يشهدها جيل الشباب من أواخر الثمانينيات وبداية التسعينات ومن تلاهم، ممن لم يعيشوا أو يشهدوا حالة حرب أو تبعاتها، أو حالة صراع استدعى إغلاقًا شاملًا. “أليس مايحدث هو حالة حرب؟ أو أشبه مايكون بحالة حرب مع اختلافٍ في بعض التفاصيل، واتفاقٍ في الجوهر؟ الخوفُ من الموت، الإصاباتُ، سياراتُ الإسعاف والدفاع المدني، وترددُ كلمات على مسامعنا مثل(الضحايا، حالات التشافي، الجاهزية الطبية.. إلخ)، أليست كلها محاكاةً لحالة الحرب التي عشناها بشكل أو بآخر؟ هذه كلماتٌ سمعها محمود من جاره السوري رائد الذي التقى به مصادفةً عند باب المصعد، والذي لجأ إلى الأردن عام 2013 هربًا من الحرب القائمة هناك. بدأت الأيام الأولى للإغلاق، وبدأ الناس باستيعاب ماهو قائم الآن شيئًا فشيئًا، وبدأ التعايش مع الوضع الجديد، وبدت ملامحُ وميزاتُ هذا الوقت العصيب ظاهرةً أكثر في هذه السنة المميزة، نعم يمكن للتميز أن يكون موجودًا دائمًا، ليس فقط من الناحية الإيجابية للأحداث أو الإنجازات، بل يمكن للتميز بالظهور بسلبياتٍ وكوارثَ وجوائح، تحجز مكانًا خاصًا لها في ذاكرة التاريخ، يستذكرُها بسخرية ربما من يكون له نصيبُ مواكبةِ حياةِ ما بعدَ الجائحة. البدايات دائمًا هي الأصعب، بدايةُ إعجاب شابٍّ فقيرٍ بزميلته، يأمل أن تبادلَه نظراتٍ بنظرات، ويكلّلَ حبَّه لها بالزواج. بدايةُ المشاريع الصغيرة التي يحلم أصحابها بقطف ثمارِ تخطيطها.  بداية حياة شاب في أرض الاغتراب، بحثًا عن عمل أفضل. بداية حياة مُهجَّر في أرضٍ غريبةٍ والأمل يحدوه للرجوع ناجحًا. الأيامُ الأولى كانت هي الأصعبَ، حتى استوعب الناسُ ما فُرض عليهم، واعتادوا كيفية التعايش مع الفترة الراهنة، والالتزام بالقوانين والقرارات التي صارت تصدر تباعًا للتيسير من تأمين الناس احتياجاتِهم ومتطلباتهم، مشيًا على الأقدام في أيام محددة، وبالسيارات مخصصًّا للتي تحمل لوحةً تبدأ برقمٍ فرديّ يومًا، وآخر للتي تبدأ لوحتها برقم زوجي. أصبح اللقاء اليومي بين الجيران في البناء الواحد، أو الحي الواحد، واحدًا من أهمّ الفعاليات الجديدة التي أحبها محمود منذ بدء العطلة الطويلة، فتعرّف أكثر على جاره أبي أسامة الذي يعمل مدرسًا في إحدى المدارس الخاصة، والآخر الذي يعمل ضابطًا في دائرة الجمارك العامة، وعلى أبي محمد المتقاعد الأكبر سنًّا بين المجموعة الدائمة اللقاء. رغم اختلاف الأعمار وتباين الآراء والأفكار بين محمود الذي كان أصغرهم سنًّا، وبين الأصدقاء الجدد، إلا أنه لابد أن يشكر الله في السراء، وفي الضراء رغم التعطيل عن العمل، وتهديد المرض، والحرص على الاقتصاد في المصروف رغم البدء باستخدام المدخر المتواضع من المال، إلا أن تلك النقاشات التي كانوا يجتمعون عليها بشكل شبه يومي، قد صقلت شخصيته المتفتحة على الآراء كافة، ونمت قدرته على المرونة في النقاشات الجادة، ووسّعت مداركه على تقبل الآراء المغايرة المختلفة، آخذًا بعين الاعتبار اطّلاعَه الضئيل الخالي من التفاصيل في كثير من الأحيان، والذي دفعه لاطلاع أكثر واهتمام أدق، معزّزًا ذلك بمتابعة أكثر للمواقع والصفحات الرسمية المحلية منها والعالمية، والتي تُعنى بجدية المرحلة. فسمع من الآراء ما تكذبها التفسيرات والتأويلات أو تصدقها، ومن التحليلات ما هو مبنيٌّ على الهوى، أو وفق المنطق في أحيان أخرى. طبيعةُ المرحلةِ، ونمطُ الحياة الجديدان حتّما على الناس تبادل الأحاديث والأراء في الأماكن التي تتطلّب وجود تجمعات (كالطوابير).وفرضا التزامًا بقواعد وإيجابيات لن ننكر بأنها صحيةٌ وحضاريةٌ كالوقوف بشكلٍ منظم، بتباعدٍ مناسبٍ، واحتياطاتٍ صحيّة، مدعومة بحملة إعلانية لا يمكن إنكارها بأهمية الالتزام بما تقوله منظمة الصحة العالمية، واعتماد التصريحات والبيانات الرسمية الصادرة عنها، وعن الجهات الرسمية ذات الصلة، دون الانسياق لأي شائعةٍ على(واتساب)أو(فيسبوك). زعم البعض أن مصدرَ الفايروس خفافيشُ الشرق، أو مختبراته،وزعم آخرون أنه أم سلاح بيولوجي غربيٌّ، ذكيٌّ، جديدٌ لأهداف كبرى، تلخص صراعًا بين قطبي الأرض، وقال آخرون: هو تطوّرٌ طبيعي لفايروس قديمٍ ذي عائلة عريقة تاريخية، وآخرون: هو بلاءٌ من السماء بسبب طغيان زاد في الأرض، وظلم غطى أرجاء الدنيا. تلك كلها تكهنات لم تغيرْ من طبيعة البلاء، وحقيقة الخطر القائم، والسباق بين كبرى الدول للسيطرة على المرض بشتى السبل، ماراثون علميٌ، بعد أن كان عسكريًا. آراء من هنا وهناك، يسمع بها محمود في (السوبر ماركت) أو (دور المخبز)، أو اجتماع رجال الحي مساءً على عتبات الأبواب، في مناقشات وتحليلات منها الموافق ومنها الرافض، في محاولة فهم واقع المرحلة الحرجة، مع المحاولات اليائسة في تكوين تحليله الشخصي لما يجري، والذي وصل به حد التمني بأن يكون ذلك كابوساً ينتهي بمعاناة ساعات قليلة تنتهي بالصحو، أو تهويل إعلامي يُكشَف زيفه لاحقًا، أو هو يقين بأنه أحد أساليب الصراع بين الشرق والغرب تحت ما يسمى بنظرية المؤامرة، فيما يعني ذلك بالضرورة وجود نقطة نهاية عند طرفي النزاع بوجود لقاح مسبقًا، يُعلَن عنه عندما يصل سوء الأحوال لذروته، أو لنقل عندما تسنح المصالح بذلك. هو منحنى المرحلة الحالية خاصة، كما هو منحنى الحياة عمومًا، قفزات وانتكاسات، متغيرات باتجاه الصعود أو الهبوط، يؤول إلى استقرار أو عدمه. مرت الأيام الأولى بصعابها، ثم استقرت، ثم ركدت مع ملل من روتين محدد حرفيًا، فالكل له وقت محددٌ للخروج والعودة، زد على ذلك استهلال رمضان الذي بدأ للتو، والذي يزيد من تقييد ماذكر آنفًا تقييدًا آخر بموعد الطعام والشراب، والنوم والصحو ربما، ضمن جو من استياء جديد وفقد وشوق، لذكريات رمضان الذي لم يعد كما كان. فلا مساجد تصدح بالنداء لصلاة التراويح أو القيام، ولا مقاهٍ تعج بزبائنها، وتشاؤم يتبعه خوف ربما من استمرارية ما هو عليه الآن لعيد الفطر، وفقدان بهجة تلو أخرى، بحنين عارم زاد من الدعاء والمنى، بزوال الوباء والبلاء على طريقة وزير الإعلام في التقرير اليومي لخلية الأزمة. كما هو مسلسل السهرة اليومي أو نشرة الأخبار المنتظرة، صار الناس وكأنهم بحالة برمجة اعتيادية بارتفاع مستوى الأدرينالين لديهم عند الساعة السادسة مساء مع بداية تقرير خلية الأزمة اليومي.

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: سامر كنجو

اترك تعليقا