يقول ساجع العرب ..

عندما رفع العرب أبصارهم إلى السماء

يقول الدينوري:

صحبني رجلٌ من الأعراب في فَلاةٍ ليلًا فأقبلتُ أسألُه عن مَحالِّ قَومٍ من العَرب ومياهِهِم؛ وجعلَ يدلُني على كل مَحلةٍ بنَجمٍ، وعلى كل ضياءٍ بنجم. فربمَا أشَارَ إلى النّجمِ وسَمّاه، وربما قالَ لي: تراه، وربما قال لي: ولِّ وجهكَ نجم كذا، أي اجعلْ مَسيركَ بين نجم كذا حَتى تَأتيَهم. فرأيتُ النجومَ تَقودُهم إلى مَوضعِ حاجَاتهم، كما تقودُ مَهايعُ الطَريق سالكَ العَمارات.

بهذه القصة يستهل ابن قتيبة الدينوري كتابه “الأنواء في مواسم العرب”، ومنه باستطاعتنا أن ننظر إلى ما كان يراه أسلافنا العرب قديمًا عندما رفعوا أعينهم إلى السماء وجعلوا مما يدور في أفلاكها وسيلة لتنظيم معاشهم على الأرض. “فكم من قومٍ حادَ بهم الليلُ عن سَواء السَّبيل في لُجج البحارِ، وفي المَهامِه القِفار، حتى أشرَفوا على الهَلاك، ثمَّ أحيَاهم الله بنجمٍ أمُّوه أو بريحٍ استَنَّشُوهَا.”

والنَوْء في كلام العرب يعني مغيب نجم في المغرب مع الفجر وطلوع آخر يقابله في المشرق، في كل ليلة حتى ثلاثة عشر يومًا، وقد أطلق على هذه النجوم تسميات، ويبلغ عدد هذه الأنواء ثمانية وعشرين نوءًا تغرب وتطلع على مدار السنة لتبدأ في السنة الأخرى دورة أخرى جديدة. وفي لسان العرب لابن منظور: إنما سُمي نوءًا لأنه إذا سَقَط الساقِطُ منها بالمَغربِ نَاءَ الطالعُ بالمشرقِ، يَنوءُ نَوْءًا أي نَهضَ وطلعَ وذلك النهوضُ هو النَوْء، فسُمي النجم به، وذلك كل ناهض بثقلٍ وإبطاء فإنه ينوء عندَ نُهوضِه. وكانت العرب تنسب إلى هذه الأنواء ظواهر الطبيعة من أمطار ورياح وبرد وحر، فكانت أشبه بالتقويم الطبيعي الذي يعينها على الحياة في صحراء قاحلة ممتدة. يقول الشاعر:

إذا ما قارَنَ القمرُ الثُريّا                   لخَامسةٍ فقدْ ذَهبَ الشِتَاءُ

ويقول ابن الرقاع في وصف سقوط النوء عند الفجر:

وأبصـر النـاظـرُ الـشِعرى مبيّــنةً                  لما دنا من صلاح الصبح ينصرف
في حمرةٍ لا بياضُ الصبح أغرقها                 وقـد علا اللـيلُ عنها فهو منكـشف
لا ييـأس اللـيل منـها حيـن تتبـعه                     ولا النــهار بـها للـيـل يـعتـرف

ويقصد أن الشعرى اليمانية وهي من النجوم المعروفة في السماء قد طلعت ولا يزال شيءٌ من ظلام الليل لم يذهب قبل الفجر، فأصبحت كما لو أن الليل لا يتركها للنهار وكما لو أن النهار لا يقوى على أخذها من الليل.

وقد نهى الإسلام نسبة الظواهر إلى النوء وذلك لأنها مسخرة بأمر الله وليست من عمل النوء نفسه إنما يكون حدوثها مع طلوع النوء، “وهذه أشياء سخّرها الله عز وجل ووُصِفَ الخلقُ بها، فلم تعدُ ما سُخرت له، والأفعال مضافةٌ إليها، والفعل لله عز وجل بها.” و يرتبط الإكثار من ذكر النوء بمدى غزارة المطر ووفرة الكلأ التي تأتي معه، كنوء الثريا وأنواء نجوم الأسد. والأنواء المحمودة يجعلونها “إناثًا وذواتَ نِتاجٍ، ويجعلون ما لا نوء لَهُ ذَكَرًا ومَنحوسًا.”

إعلان

يقول أبو حنيفة الدينوري: “قد سَجعت العربُ في النجوم أسجاعًا، بما أدركه طولُ تجريبهم، وأحكم علمها الماضي، ووِرثُها الباقي، فسارت متواتِرَة مَحفوظة، وهي أشدُّ الأممِ تَفقُدًا لذلك، وعنايةً به؛ لأنّ جُلَّهم قُطّانُ بَوادٍ، وسُكّان عَذوات قِفار، أهل عَمد سيّارة، تُبّاعُ غيثٍ، قليلٌ على غيرهِ تعويلُهم، فأبصارُهم إلى السماء طامحة، وبنواحيها مُوكَلة، يُطبِيهم البرق إذا لَمع، والغيثُ إذا وَقع، والماءُ إذا نَقع، ويُظعنُهم الحَرُّ إذا وَهَج، ويُجهدهم البرد إذا رَكد، فهُم بين نَجعةٍ وحُضور. لهم في كل ريحٍ تَهُب، وكوكبٍ يطلُع، ونجمٍ يَنوء، أمرٌ مُسْهِر أو منيم، يحميهم الغَفلة، ويمنعُهم التَضييع”. (ربيع الأبرار، الزمخشري)

وهذه بعض المنازل كما وردت في كتاب “الأنواء في مواسم العرب” ومعها أسجاع العرب فيها:

الشرطان: يقال أنهما قرنا الحمل، ويسميان النطح والناطح. وهما أول نجوم فصل الربيع. من عند ذلك يعتدل الزمان، ويستوي الليل والنهار. يقول ساجع العرب: إذا طلع الشرطان، استوى الزمان وحُضرت الأوطان وتهادى الجيران. ومعنى قول الساجع أنهم يرجعون عن البوادي إلى أوطانهم ومياههم بعد أن بدأ الحر وبعودتهم يجتمعون ببعضهم البعض ويهدون بعضهم بعضًا. قال الحسن بن هانئ:

ألمْ تَرَ الشَّمسَ حَلَّت الحَمَلا                   وقَامَ وزنُ الزَّمانِ واعتَدَلا

البطين: وهو ثلاثة كواكب خفية ويُقال أنها “بطن الحمل”. بين الشرطين وبين الثريا. يقول ساجع العرب: إذا طلع البطين، اقتُضي الدَّين، وظهر الزين، واقتُفي بالعطار والقين. أي أنهم عند لقائهم يقضون الديون التي بينهم ويتزينون بأجمل ما لديهم ويصلحون ما رثَّ من آلاتهم و أمتعتهم.

الثريا: وهي واحدة من أشهر المنازل وأكثرها ذكرًا في التراث العربي ويُشار إليها غالبًا بـ”النجم”. و هي ستة أنجم ظاهرة، في خللها نجوم كثيرة خفية. وللعرب فيها أسجاع، قولهم: إذا طلع النجم، فالحر في حدم، والعشب في حطم، يريد أنه حينئذ يهيج وينكسر. وللثريا قصة مشهورة مع الدبران وهو أحد نجوم كوكبة الثور. فقد أراد خطبة الثريا  لفرط إعجابه  بجمالها، وقد كان فقيرًا رقيق الحال فأتى بالقمر ليكون وسيطًا له في خطبتها لكنها رفضته وقالت: “ماذا أصنع بهذا السبروت الذي لا مال له؟” ولكنه أصر على الزواج منها. ولمّا لم يكن لديه إلا غنمه سار به إليها حتى ترضى به، ولا يزال (يدبرها) في السماء طالبًا ودها فلو رفعنا نظرنا إلى السماء لرأينا الثريا وبالقرب منها نجم أحمر وحوله نجوم متناثرة، وهكذا أصبح الدبران يدبر (يتبع) الثريا في السماء إلى الأبد ومعه أغنامه، يدبرها أينما ذهبت. وأصبحت الثريا مضرب المثل في الغدر، والدبران مثال الوفاء والإخلاص ومن هنا قالت العرب في أمثالها: أوفى من الحادي وأغدرُ من الثريا. ويقال أنه ليس في السماء منزلان أشد تقارب طلوعٍ من النجم والدبران.

الدبران: يقول ساجع العرب: إذا طلع الدبران توقدت الحِزان، وكُرهت النيران، واستعرت الذبان، ويبِست الغدران، ورمت بنفسها حيث شاءت الصبيان. والحزان واحدها حزيز وهي الأرض الصلبة لشدة وقع الشمس، ولا يبالي الصبيان حيث رموا بأنفسهم لأنهم لا يخافون بردًا ولا مطرًا.

الهقعة: وهي رأس الجوزاء. وهي ثلاثة كواكب صغار. قال الساجع: إذا طلعت الهقعة تقوّض الناس للقُلعة، ورجعوا عن النُّجعة وأردفتها الهنعة. ومع طلوعها يرجع الناس إلى مياههم.

ومن كواكب الجوزاء الشعريان: إحداهما شعرى العبور أو الشعرى اليمانية والأخرى الشعرى الغميصاء أو الشامية، وبينهما المجرة. وتقول العرب في أحاديثها: إن سهيلًا والشعريين كانت مجتمعة، فانحدر سهيل فصار يمانيًا وتبعته العَبور. فعبرت المجرة وأقامت الغميصاء فبكت لفقد سهيل حتى غمصت عينها، فهي أقل نورًا من العبور. وفي أمثال العرب: أتلى من الشِعرى (في شدة الطلب والسعي وراء الشيء).

مصدر الصورة

  • سعد الذابح وأخوته: وسمي بالذابح لأن بالقرب منه نجمًا تخيله العرب شاته التي يذبحها.

وقال ساجع العرب: إذا طلع سعد الذابح، حمى أهله النابح، ونفع أهله الرائح، وتصبّح السارح، وظهر في الحي الأنافح. يريدون أن الكلب يلزم حينئذ أهله، فلا يفارقهم لشدة البرد وكثرة اللبن فهو يحميهم وينبح دونهم. و(نفع أهله الرائح) يريد أنه يأتيهم بالحطب إذا راح (وتصبّح السارح) أي لم يبكر بماشيته لشدة البرد.

يُحكى أنّ سعدًا كان شابًّا في طريقه للسفر فنصحه أبوه أن يتزود بفراء وحطب اتقاء لبرد محتمل، فلم يسمع نصيحة أبيه ظانًّا أن الطقس لن يتغير كثيرًا أثناء رحلته، ولكن ما إن بلغ منتصف الطريق حتى اكفهرّت السماء وتلبدت بالغيوم وهبت ريح باردة وهطل مطر وثلج بغزارة و لم يكن أمامه سوى ذبح ناقته وهي كل من يملك، حتى يحتمي بأحشائها من البرد القارس. لذلك ذبح الناقة (فصار سعد الذابح)، و بعد أن احتمى في أحشائها من البرد، دب الجوع في سعد ولم يجد أمامه سوى أحشاء الجمل و لحمه زادًا (فكان سعد البلع)، وبعد هدوء العاصفة وظهور الشمس خرج سعد فرحًا من مخبئه (فأصبح سعد السعود) ثمّ قام بصنع معطف له من وبر الناقة ومزودة لحفظ اللحم المتبقي (فصار سعد الأخبية). (المسالك)

يقول ساجع العرب: “إذا طلع سعد السعود، نضر العود، ولانت الجلود، وذاب كل مجمود، وكره الناس في الشمس القعود.” وهو من الأنواء المحمودة.

صفحة من كتاب صور الكواكب الثابتة لعبد الرحمن الصوفي

ومن التراث العربي في النجوم كذلك، أرجوزة ابن الصوفي في الكواكب والنجوم، نظمها أبو علي حسين بن الصوفي وهو ابن الفلكي الشهير أبي الحسين عبد الرحمن بن عمر بن سهل الرازي المعروف بالصوفي صاحب كتاب “صور الكواكب الثابتة” وقد عاش ناظمها أوائل القرن الخامس الهجري.

ونذكر منها:

وأنجمُ الدُّب تُسمّيها العربْ                        بناتَ نعش هكذا تبني الكُتب
وقُربَها كواكبٌ كثيرة                                أجرامُها زاهرةٌ مُنيرة
وقد لقبّتهَا الرومُ دبًا أعظمَا                          وشبّهتُه بالذي تقدَّما
في جُملة الدُّب نجومٌ أربعَة                        تَشكّلت بصورةٍ مُربَعة
تدورُ حَول القطبِ كالدُولابِ                     تُعرَفُ بالنعشِ لَدى الأعرابِ

وبنات نعش الكبرى بالقرب من الصغرى. وهي سبعة أنجم ظاهرة. «النعش» منها أربعة، والثلاثة «بنات». ويسمّى الأول من البنات، «القائد» . ويسمّى الأوسط «عناق». والذي يلي النعش، «الجوزاء» . وإلى جانب الكوكب الأوسط من البنات كوكب صغير جدًّا، يكاد يلزق به؛ يسمّى «السّها». ومنه قيل: «أريها السها، وتريني القمر».

تقول الحكاية أن بنات نعش يحملن نعش أبيهن المقتول، وقد اتهمن الجدي (النجم القطبي) بقتله، وأقسمن على أن لا يقمن بدفنه حتى يأخذن بثأر أبيهن فحملن النعش وأخذن بتتبع نجم الجدي إلا أن نجمين آخرين وهما (الفرقدين) وقفا في وجههن حتى لا يصلن إلى الجدي لأنهما كانا يريان أن القاتل هو سهيل اليماني (نجم سهيل الذي يظهر في الجنوب) وأنه قد فر هاربًا للجنوب واختبأ هناك فلا يظهر في السماء إلا أيامًا معدودات. وهكذا  فإن هذه النجوم تدور حول نجم الجدي منذ ذلك اليوم فلا البنات أخذن بثأر أبيهن، ولا استطعن مواراته الثرى، ولا هن استرحن من عناء اللحاق بقاتل أبيهن. وبنات نعش تُعرف اليوم بمجموعة الدب الأكبر والجدي هو نجم القطب الذي ينتمي لمجموعة الدب الأصغر.

ولا أستطيع مع ختام المقال إلا أن أورد هذه العبارة الجميلة عندما قيل لأعرابي:

“أتعرف النجوم؟” قال: “وهل يجهل أحد سقف بيته؟”

المصادر:
الأنواء في مواسم العرب، ابن قتيبة الدينوري، (دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1988)
المركز العربي للأدب الجغرافي
أبهى المواكب في شرح أرجوزة الكواكب ـ شرح وتحقيق: عبد الله العجاجي
ربيع الأبرار ونصوص الأخبار، الجزء الأول، الزمخشري.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: زهراء طاهر

تدقيق لغوي: أبرار وهدان

اترك تعليقا