مذكّرة: ولادةُ إنسان..

في 12 يناير الموافق للتقويم اليولياني، ذكرى القدِّيسة تاتيانا، يستيقظ إيفان بصعوبة مع صداع قاتل يجبره على إِبقاء عينيه مغمضتين، فارضًا عليه تحسُّس الأصوات المحيطة به فقط تفاديًا لأيِّ ألم يضيفه. لحظات بعدها، يستشعر يدًا ناعمة تُمسك بذراعه، استعدادًا لحقنة مورفين، والتي سرعان ما يبدو أثرها بنقصِ الصداع الذي يُعاني منه إيفان…

يفتح إيفان عينيه ببطء بعد الحقنة واجدًا نفسه في حضرة ثلاثة أطبّاء؛ وهم المختصّة صوفيا لوبانوف واثنين غيرها يقفون بمحاذاة سريره المحاصر بالآلات والأجهزة الطّبيّة التي تقيس معدّلات نبضه و تنفسه، يقابله تمًاما جهاز ذو تقنيّة البصريات الوراثيّة الذي لم يرَ مثله إيفان من قبل؛ حيث يُطيل النظر إليه مع بقيّة الأشياء المتواجدة في الغرفة، كأنّه طفل يُبصر النّور في لحظاته الأولى ولكنّه الصمت المطبقُ بدلًا من صرخة البكاء.

تتلفظ المختصّة صوفيا لوبانوفا:”مرحبًا سيد إيفان. أنا المختصّة صوفيا في أمراض الذاكرة ؛ وقد كنت المسؤولة عن علاجك بسبب الحادث الذي أصابك؛ فتَحَطُّم سيارتك سبّب لك إصابات بالغة في رأسك. ربما لا تتذكر الآن اسمك أو أي شيء على الإطلاق وذلك يعود لفقدان الذاكرة الرجعيّ الذي أصبحت تعاني منه”…

صدم كلام صوفيا الشاب إيفان البالغِ عقده الثالث؛ محاولًا استرجاع ذكريات سابقة، ذكريات البارحة والسنة الماضية، ذكريات اسمه ومنزله، ذكريات الحادث الذي تتحدث عنه هذه المرأة، لكن من غير فائدة؛ فلم يكن هناك أيُّ شيء؛ كل شيء في ذهنه كان عبارة عن غيمةٍ كبيرةٍ وضبابٍ كثيف يظهر في مخيّلته إذا حاول تذكُّر شيءٍ ما. كان إيفان قد خسر كل ذكرياته الماضية إلّا مهارات القراءة والكتابة؛ مما سبب له فزعًا لحالته تلك؛ يُمرِّرُ يديه على وجهه ويضغط على نفسه علَّه يكون مجرّد حلم سيء، يزيد في ضغطه ويقطع التنفس عن جسدهِ لكي يستيقظ من الحلم لكن لا شيء؛ فلا زالت صوفيا واقفةً أمامه تنظر إليه بتعابيرٍ توحي بأنّها تَـحسُّ بألمه ومعاناته، حينها بدأت دموعه بالانهمار وتسارعت دقات قلبه؛ كان إيفان يبكي على ماضيه رَغم أنّه لم يعرف هل كان يُمثّل شيئًا جميلًا أم فقدان ذاكرته أفضل من العذابات التي حملها ماضيهِ له؟ رأى إيفان أنّ هويّته فيما عاشه وفقدانه أسوأ، برغم سعادته أو تعاسته سابقًا… فيحاول أن يلتمس أملًا؛ فيخاطب المختصّة صوفيا:”هل هناك فرصة أستعيدُ بها ذاكرتي؟”
تُجيب المختصّة المسؤولة عن قسم الأبحاث للذاكرة في جامعة موسكو الحكوميّة:”بقدر ما أُحبُّ أن يكون هناك أملًا؛ لكن للأسف لا يوجد”…
يسكت إيفان وهو يشعُر بالكلمات التي نزلت كالصّاعقة على صدره؛ فقد شعر بإحساس يفوق لوعة من يفقد عائلته، ويفوق إحساس من يخسر كل شيء عدا نفسه، أمّا هو
 فقد خسر نفسه وعائلته وكلّ شيء يربطه بالعالم في لحظة الحادث الذي لا يذكرهُ أصلًا… تتقدّم نحوه الطبيبة لتقدِّم له حقنة تساعده على النّوم، ثم تنصرِف ومن معها حتى يرتاح مريضها قليلًا.

تمرُّ بضعة دقائق، يستيقظ إيفان مباشرةً على ضرورة الذهاب للحمّام، ممّا دفعه للوقوف حتّى يدخل حمّام الغرفة فيتبوّل بغزارة، وما أن ينتهي مستديرًا عائدًا إلى سريره، لاحظ قصاصة صغيرة معلّقة في الجهة الخلفيّة لباب الحمام، يقوم بالتقاطها ؛ فإذ بها بعض الجمل المكتوبة، يُحاول إيفان قراءتها بصعوبة مع الصداع الذي يعاني منه إلّا أنّه تمكّن من ذلك، “إذا أردت استعادة ذاكرتك، عليك اتّباع تعليماتي يا سيد إيفان. قم بالبحث تحت بطانيّة سريرك”.

إعلان

َيستغرب إيفان من الرسالة التي أمامهُ، وتتساقط الأسئلة في نفسه من كلّ جانب “من كتب الرسالة؟ وكيف علم أنّني سأكون في هذا المكان؟ بل كيف علم أنّي سأدخلُ الحمام!”… وبقدر ما أراد إيفان العودة لسريره لعلّه يستيقظ من هذا الحلم الفظيع الذي يراه، إلّا أنّ صدى كلمات الدكتورة صوفيا لا زال يرنُّ في أذُنه  ويعتصر قلبه.. ” للأسف لا “.. قالت صوفيا ..
يتّجه إيفان نحو سريره و يقوم بقلبه، فيجد تحته خريطة لمدينة موسكو مع قصاصة ثانية كُتب عليها:”اسمك مسجّلٌ في زيارةٍ للميتم رقم 48، كُن هناك بعد نصف ساعة”…

يفتح إيفان الخريطة التي كانت تحتوي على أربع علامات إكس في مناطق مختلفة من المدينة مع أربع علامات إكس أصغر منها، حيث كانت كلُّ علامة إكس صغيرة في نفس منطقة الإكس الكبيرة مع مسافةٍ فاصلة، ثمّ دائرة تُمثّل منطقةً خامسة كانت نقطة الإنطلاق؛ من جامعة موسكو الحكوميّة التي يتواجد فيها إيفان.

راح إيفان يُفكّر في كلام لوفانوفا والقصاصة التي وعدته باستعادة ذاكرته، بين العدم والأمل ولو كان كذبًا. يُفكّر بصوت عالٍ: “إنّ اسوأ ما قد يحدث لي هو الموت وحتّى هذا ليس ببشاعة الشعور بالضّياع”.
يخرج إيفان ببطء يُريد التّخفّي حتى لا يَتِمّ ضبطُه، لكنّه يُفاجئُ بأنّ الأروقة كلّها فارغة، لا أحد فيها. يبدأُ في فتح بعض الغرف في طريقه لكن كالمتوقّع تمامًا لا تواجد لأحدهم… يَرفع رأسه ليُبصر أسهُمًا حمراء كبيرة مرسومة على الجدران تدلّه على مخرج المركز؛ فيزيده ذلك تشويشًا وإحباطًا، فيتساءل:
” أين ذهب الجميع؟ .. أين المختصّة لوبانوفا؟ .. هل يُعقل أنّ صاحب القصاصة دبّر كلّ هذا؟”.

خالجَت الأسئلة ذهن الشابِّ الروسيّ، لكنّه استمرّ برغم الغموض الذي بدا لا تُفهم تفاصيله. يستمرُّ في متابعة الأسهم الحمراء وصولًا للمخرج الذي كان عنده شيء من الملابس الجديدة حتّى يستبدل بها إيفان رداء التمريض. يقوم الشابّ الروسيّ بارتدائها سريعًا ويخرج للشارع المقابل للجامعة الحكوميّة مُمسكًا الخريطة بيده ومركزًا على الطريق، على أمل إِيجاد سيّارة تُقلّهُ للميتم 48 سريعًا، الأمر الذي لم يدم طويلًا؛ حيث توقّفت سيارة أجرة وحدها لمّا رأى السائق حالة إيفان ولِما يظهر عليه من حالة الضياع والتفتيش عن شيءٍ ما، يصعد إيفان سريعًا ويُخبر السائق بوجهته للميتم 48؛ لكنّ السائق راح يبحث عن مزيدٍ من التفاصيل إشباعًا لفضوله حول الغرابة التي تكسو هذا الشاب؛ فيسأل السّائق:”هل يمكنني أن أعرف سبب ذهابك إلى هناك؟”…

لم يفكر إيفان طويلًا؛ فبعد ما شاهده من السيناريو الغريب في المركز لم يستبعد احتمال أن هذا الشخص أيضًا ضمن خطّة صاحب القصاصة، إلّا أنّه درس احتماله هذا بأن تكون ردّة فعله أن يستجيب لسؤال السائق حتى يستلَّ بعض المعلومات أو يكون هذا الشخص دعامة لقصّته في حالة حدوث شيءٍ له، ممّا جعله يُرجِّح خيار أن يشرح للسائق حالته وما جرى له حتّى نُقطته هذه.

بعد سماع قصة الشابّ الروسيّ كاملة، قرّر السائق مساعدته في باقي يومه كاملًا معتبرهُ واجبًا إنسانيًّا تجاهه، مِمّا جعل إيفان يشتبه فيه أكثر ويزيد من قوّة احتماله بأنّ توقفه له لم يكن محض صدفة أبدًا. إلّا أنّه أراد مسايرته عسى أن يكشف له عن بعض التفاصيل المهمّة التي يحتاجها.

استغرق الوصول للميتم 48 خمس دقائق، وخلال الرحلة القصيرة كاملة كان إيفان مشدود البال مندهشًا من تعاليم مدينة موسكو، كطفل صغير يُسجّل معلوماته الأولى في الحياة من جديد، بأنف ملتصق بزجاج السيّارة وفمٍ مفتوح من الانبهار خصوصًا حديقة مكسيم غوركي (1928) للثقافة والراحة، على نهر موسكفا بجانب حديقة نيسكوتشني، فقد كانت أجمل شيء يراه إيفان منذ بداية يومه هذا، كانت ذكرياته الجميلة الأولى التي يصنعها بعد الحادث، وفجأة ينكسر تأمل الشاب الروسي بتوقّف أندريه سائق السيّارة، ومن غير أيّ كلمة، يترجّل إيفان وهو يتابع اللّوحة المعلّقة على باب الميتم المرسوم فيها عبارة “الميتم 48″، وينظر في خريطته ليتأكّد من صحة الموقع.

 يتقدّم نحو باب الميتم 48 بخطوات تُوحي بشخصية تملك كاريزما مؤثّرة، إيفان صاحب اللّحية الكثّة، لحية الشيوعيّين أتباع ماركس، وعيون الدّهاء، عيون مكيافللي، وأنف فولتيير، وقامة ألكسندر بوشكين؛ حيث تلاحظه المشرفة على الميتم الآنسة الحسناء بولشاريا، مخاطبةً إياه: “يبدو أنّك السيّد إيفان أيها المحترم، لقد كنّا بانتظارك، هيّا لأُريك فوجك المسؤول عنه”، بدأ الشابّ الروسيّ يفقد صوابهُ، كيف أنّ الجميع يعرفه وهو لم يعرف اسمه إلّا صباح اليوم، فيسأل المشرفة بولشاريا بنبرة صوت مرتفعة وبلكنة حادّة، لكنَةُ سكّان سانت بطرسبورغ:”من أعلمك أنّني سأكون هنا؟”
“وصلتنا البارحة رسالة من مصدر مجهول قال أنّه لا يريد البحث عن الشهرة في إحسانه للميتم وأنّه سيُرسلك، من غير معلومات إضافيّة “، ثمّ أضافت المشرفة:”وقد طلب منّي إعطاءك هذه الرسالة”… والمكتوب فيها:”لا تطّرح الأسئلة ونفّذ الأوامر، إذا كُنت تريد استعادة ذاكرتك”. 

يقوم إيفان بتمزيقها بغضبٍ بعد قراءتها، ولأنّه علم الآن أنّه لا جدوى من طرح المزيد من الأسئلة، يأمر المشرفة بولشاريا بتوجيهه إلى العمل الذي ينتظره، فتشرح له أنّ اليوم مخصّصٌ لزيارة الأطفال والتسلية معهم ومؤانستهم، بعد نشر إعلان لمن يريد من أهل الإحسان التبرّع بوقته لهؤلاء الملائكة. يتقدم بعدها إيفان للسّاحة المخصّصة للتسلية فيجد طفلين صغيرين بانتظاره، الأوّل نيكيتا من أصول إفريقية داكن اللون عمره 6 سنوات، والآخر ميخائيل روسيّ الأصل لكنُّه كان مقعدًا لا يستطيع المشي وعمره 9 سنوات.

بدأت عمليّة التعرّف في الساحة الخضراء للميتم 48، حيث في بداية الأمر كان إيفان يرى أنّ هذا مضيعة للوقت، وأنّ صاحب القصاصة يتلاعب به، لكن سرعان ما تلاشى شعوره هذا، حينما بدأَ الشابّ الروسيّ يستمع لرفيقيه الصغيرين، وهو يتابع كلامهما ويتفاعل معه، فقد كان نيكيتا محبًّا لقراءة الكتب القليلة التي يملِكُها الميتم، وراح يَشرح ويلوّح بيديه السوداوين ويمرّر الأفكار التي أعجبته ونالت استحسانهُ، حيث قال نيكيتا:”لديّ أسئلة كثيرة عن دستويفسكي. انتظر الوقت الذي سأبلغ فيه الثانويّة حتى استطيع الظفر ببعض الإجابات”.

ظلّ إيفان مبتسمًا طوال الوقت من نيكيتا الأسود وكيف أنّه يملك روحًا رائعة ومحبّة للبحث والفكر، بل وقد أضاف نيكيتا معلومات جديدة لذهن إيفان كونه فقد ذكرياته كلّها، وكلّ أفكاره الشيوعيّة التي صقلها عبر سنينه الثلاثين، ممّا جعله يدخل في حوار ماتع مع المفكّر الصّغير، يتعرّف فيه إيفان على العالم من خلاله، الشيء ذاته الذي لم يكن أقلّ حالًا مع ميخائيل المُقعد، الذي كان مهتمُا بشدّة في المسائل التاريخيّة وبالرياضة، حيث راح يَسير بدولاب كرسيّه وهو يتحدث عن برج شوخاريف و كاتدرائيّة كازان، و كاتدرائيّة المسيح المخلّص التي هُدِمت في عهد ستالين، يتحدّث ببراعة تُزيّنها براءة الطّفل الصغير، يبعث ذلك أحاسيس الانبهار والإعجاب والحبّ في قلب الشيوعيّ إيفان، بل ويبتسم أكثر حينما يصف ميخائيل حادثة تهديم الكاتدرائيّة: “أنّه عمل مشين، وأنّه عملُ من لا ذوق له”، فيزيد إيفان في إرواء فضوله مع هاذين الصغيرين اللذين نالا إعجابه وتوقيره، يقول إيفان لميخائيل:”ماذا تُحب أيضًا؟”
يردّ ميخائيل: “أنا مشجّع ليوفنتوس، لذا كتبت إلى فابيو كانافارو، و طلبت منه أن يستمر في اللّعب أو التدريب، وألّا يعتزل”

بدأ الشاب (الشيوعيّ سابقًا) يكتشف العالم الجميل الذي يملكانه هاذين الطفلين، فقد جعلاه يشعر بالحنين إلى الطفولة، بالسعادة التي تتغلّب على الظروف والمعيقات، بل وتجعل منها قطعة أجمل في لوحة ما، فمن مثل نيكيتا يتحدّث عن دستويفسكي، ومن مثل ميخائيل يتحدّث عن الذوق والفن، تلك الكلمات حرّكت وتر الحبّ في قلب إيفان مع البراءة التي تكسو الصغيرين، فقد كانت تلك اللحظات التي عاشها في الميتم هي السعادة الأولى التي شعر بها بعد فقدان مخزونه ذكرياتهِ. يرنُّ جرس خفيف من الميتم مُعلنًا عن نهاية اللّقاء، تاركًا إيفان يتحسّر على عدم سنوح وقت أكثر ليقضيه مع نيكيتا وميخائيل، لكنّه وعدهما بالعودة.

يخرج إيفان مسرعًا حتى يستطيع إدراك المحطّة التالية من المواقع المتوفّرة على خريطة مدينة موسكو، يُدقِّقُ في علامة الإكس القريبة من الميتم 48، حيث ينتهي تتبّعه وبحثه عند صندوق بريد من طراز قديم، أزرق اللّون، عليه شعار الشيوعيّة بلون أحمر، يفتحه إيفان فإذ به ورقتين هذه المرّة، واحدة ظاهرٌ عليها أنها مقصوصة من كرّاسة، والثانية شَكلُها مناسب ولا تعطي نفس الانطباع.

كُتب في الورقة الأولى:”أنا أكره الإنسان الأسود، هم تشويه حصلَ للبشريّة  ويجب أن يزول، أنا أكره المعوّقين فهم لا فائدة منهم إلّا أن نستعملهم كفئران تجارب”. شعر إيفان بالاشمئزاز من هاتين العبارتين وسخر من قائلهما:”صاحب القصاصة الغبيّ” وهو يتذكّر لحظاته مع نيكيتا وميخائيل. أمّا الورقة الثانية فكُتب فيها:”محطّتك القادمة هي كاتدرائيّة القدّيس باسيل، المعروفة بقِبابُها ذات الشكل البصليّ، إلتحق بالوفد ذوي القمصان البيض العابر من تلك المنطقة، فقد وضعت لك قميصًا”.ا

ينظر إيفان مجدّدًا داخل الصندوق، فإذا بقميص أبيض حقًا، يرتديه سريعًا ويتّجه نحو السائق ندريه متوجّهًا لكاتدرائيّة القديس باسيل، يُوقفه أندريه حين وصوله للسيّارة مستغربًا من الرمز الموجود على قميصه، فقد فطن أندريه أنّ الرمز المتوفر على القميص كان تابعًا لجماعة قديمة معروفة باسم زملاء بيتراشيفسكي التي بسببها تم إقصاء دستويفسكي إلى سيبيريا أربع سنوات، بعد أن تم التنازل عن قرار إعدامهم، لكن إيفان لا يعطي للسائق أيّ فرصة للحديث معتبرًا أنّه مازال في حكم المشتبه به عنده، وهو الأمر الذي لم يغفل عنه أندريه.

بيدَ أنّ استعجال إيفان للوصول إلى كاتدرائيّة القدّيس باسيل لم يمنعه من الاستمتاع مجدّدًا بمدينة موسكو الجميلة، فأنفه لازال ملتصقًا بزجاج النافذة وفمه مفتوح بشكل أوسع عن سابقه، يُسجّل ذكرياته الجديدة، ويستعيد ماضيه القصير الذي بناه قبل ساعات فقط، مع صوفيا لوبانوفا، مع أندريه، مع نيكيتا وميخائيل، مع بولشاريا، والأهم مع صاحب اللُّعبة.

يصل الشابّ الروسيّ في الوقت المناسب مع مرور الوفد، فيترجّل مهرولًا نحو الجموع التي تسير، وينضمُّ إليهم محاولًا أن يفهم سبب هذه المسيرة، والجموع المتحرّكة بلون واحدٍ متناسقٍ يمثّل الوِحدة، وفي خضمِّ تقليب رأسه بحثًا عن دليل يّحلُّ لغزه، يلتفت بذهنه الى اللافتات المحمولة فوق السّواعد، سواعد الرجال والنّساء، لافتات تقول:”نحن ضد هدم المعالم التاريخيّة في مدينة موسكو وفي أي مدينة” لقد كانت المسيرة بالقرب من كاتدرائيّة القديس باسيل حتّى تحاول منع السلطات من تدميرها، كونها تُمثّل هُويّةً للمدينة وسكّانها من قبل، وللمسيحيِّين بشكلٍ خاص، فقد قامت السلطات بهدم معالمَ تاريخيّة ذات قيمة كبيرة كفندق موسكفا عام(1930)، ومتجر فوينتروج عام (1913)، وبرج شوخاريف، ممّا جعل إيفان يشعر بالتعاطف معهم، حيث كانت قضيّتهم أنّ التاريخ يُمثّل الهويّة ولا يمكن إزالته تحت أيّ ظرفٍ وإلّا زالت معه الهويّة. الشعور الذي تفهمَهُ إيفان تمامًا لأنّه فــقَد هُويّته حينما فقد تاريخه وماضيه السابق، ممّا جعله مؤيّدًا و مناصرًا لقضيتهم، فأخذ يردّد معهم بصوت واحد، يُردّدُ عبارة نيتشه من كتابه ما وراء الخير والشرّ:

“المرءُ يقف برَهبةٍ ووجلٍ أمَام هذه البقايا العظيمة، لِما كان عليه الإنسان في زمن غابر”

يَمرّ إيفان على صندوق بريد مشابه للذي كان أمام الميتم 48، فيستيقظ من صياحه، ويفتح خريطته مجدّدًا، مُدركًا أنّه عند موقِع الإكس الصغيرة تمامًا، فالصندوق يحمل نفس المواصفات، لونٌ أزرق وشعار الشيوعيّة بلون أحمر، يفتحه ليجد ورقتين كالمرّة السابقة، تظهرُ إحداهنَّ كأنّها مقطوعة من كراسة ما، والثانية شكلُها مناسب.

كُتب في الورقة الأولى: “نحن غارقون في الأرثوذكسيّة لِرُكبنا، لماذا لا يتمّ هدم كل هذه البنايات السخيفة؟ إنّ الماضي الذي نُردّدُه لم يُبيّن لنا إلّا مقدار الجهل الذي كانت تعيشه البشريّة، فعن أي هُويّة يقولون أنّها تساوي الماضي، بل هويّتي تتعلّق فقط بحاضري”، لم يجد إيفان إلا شعور الاشمئزاز والغثيان مجدّدًا ليتفاعل به مع كلمات هذه الرسالة، ثم يُعلّق ساخرًا:”يجب على هذا الأحمق أن يفقد ذاكرته مثلي ليعرف قيمة الماضي وأنّه يُمثّل الهُويّة بمقدارٍ كبير” أما في الثانية فقد كُتب:”إِنطلق إلى شارع أربات، توجّه لمقام ألكسندر بوشكين عند الساعة الرابعة تمامًا، ستجد سيدة هناك، قم بمراقبتها من غير أن تعلم بوجودك وانتظرها حتّى ترحل”.

يُطلق إيفان صرخة مدوّية في الهواء نتيجة الغضب العارم الذي اجتاح صدره من تلاعب هذا الشخص به، وبدأ يحلّل  المواقف السابقه، وكيف أنّ الجلوس مع اليتامى والمسير مع المتظاهرين ومراقبة سيدة، سيُسهم في استعادة ذاكرته، بدأ الشابّ الروسيّ يفقد الأمل ويفكّر بالرحيل نهائيًّا، لكن سرعان ما يسترجع كلمات المختصّة صوفيا لوبانوفا:
“للاسف لا” فيشعر بضيق في صدره وأنّ كل شيء آخذٌ بالانهيار، كأنّ نهايته بدت وشيكة، في تلك اللحظة تَلمِسُ يد دافئة كتفه، فيلتفت واجدًا السائق أندريه بجانبه، يقول له: ” أشعر بك يا صديقي، لا تيأس.. فربما لازال الأمر في صالحنا، سنحارب لآخر دقيقة”، نَزلت كلمات أندريه على قلب إيفان كالمرهم، حيث قال إيفان لنفسه: “أيبدو السائق صادقًا هذه المرّة، أم أنّني أمرُّ بحالة ضعفٍ فقط؟”…

حديث أندريه كان كافيًا لإعطاء إيفان دفعةً من الأمل، انطلق بها نحو مقام الشاعر والكاتب ألكسندر بوشكين في شارع أربات، ليصل قبل خمسة دقائق من السّاعة الرابعة، مُتخذًا موقعًا ذو إحداثيّات يصعب كشفه فيها، حتّى شعر كأنّه كان قنّاصًا في الجيش، من خلال دقّة تموقعه.
يُعدّ شارع أربات من أقدم شوارع موسكو، وساحةً للأدباء والشعراء والسّاسة، والذي اقام فيه ألكسندر بوشكين مع زوجته ناتاليا غونتشاروفا ثلاثة أشهر، المكان الذي كانت تزوره السيدة كاترينا ايفانوفيتش كلّ مساء أحد، بعد زيارتها للكنيسة، تأتي لتتحدّث مع روح بوشكين وتشكي له حالها، فقد كانت كاترينا هي الأخرى مثل بوشكين من سانت بطرسبورغ …

سانت بطرسبورغ لا يتجاوز فيها عدد الأيّام المشّمسة عن 62 يومًا، وكذلك كانت كاترينا إيفانوفتش غامضة ولها غيوم تَمنع غيرها من فَهم شخصيّتها. لا يتجاوز النهار فيسانت بطرسبورغ عن 6 ساعات في الشتاء، وكذلك كانت كاترينا تعشق الليل و تنتظر قدومه حتّى تختلي بنفسها، وتَدخل مملكة العُزلة. سانت بطرسبورغ التي يظهر فيها موسم الأيّام البيض بوضوح من 25 مايو لـ17 يوليو، الأيّام التي يلتقي فيها الشروق والغروب، كذلك كانت كاترينا إيفانوفتش مزيجًا ملتقيًا من الحبِّ والكره، من السطحيّة والعمق، ومن الذكاء والغباء، إلّا صفة الجمال فلم يكن لها غروبًا أبدًا، كانت تأتي كاترينا لروح بوشكين حتّى تبكي وتقرأ قصائده عنده، فقد كان عشيقها مؤمنًا بفلسفة سارتر الوجوديّ أنّه ضمن العلاقة الواحدة والحب الواحد يستطيع الطرفان ممارسة الحب مع من يريدون، لكن كاترينا لحبها الصادق، تماثل موقفها مع عشيقة سارتر سيمون الوفيّة الصّادقة فقد أحبّت سارتر هي الأخرى، كذلك كانت كاترينا مع معشوقها مؤمنة به وحده فقط من غير شريك، في حين هو كان سارتريًّا في الحبّ، مما جعل كاترينا تقطُن عند بوشكين، عند وفاء بوشكين لناتاليا، وتتغنّى بقصائده في الحب الوفيّ، مؤنسة نفسها به، فقد كان ألكسندر بوشكين شاعرصا إنسانيًّا عظيمًا، ولم يكن سارتريًّا أبدًأ.

بقي إيفان في حيرة من أمره، فالورقة لم تصف حال السيدة التي ستأتي، لكن بمجرّد أن دخلت كاترينا مقام بوشكين، حتّى شعر إيفان بأنّها المقصودة، لم يعرف كيف، لكنّه كان متأكّدًا، فراح يُراقبها عن كَثَب، لحظات فيلمحها تبكي، وتتكلم وحيدة، لم يتمالك نفسه فتقدّم بحذر حتّى لا تراه، اقترب بما فيه الكفاية ليسمع صوتَها، ويرى لمعان دموعها على خدُودها، فشعر بحرقة كبيرة في صدره، كأنّ هذه الإنسانة ذات روح جميلة جدًا، اخترقت دموعها قلب المسكين، مخلَّة بدفاعاته كُلّها، مُشعِرَةً إيّاه، أنُ حرام أن تنزل مثل هذه الجواهر لتُدنّسها الأرض بترابها، يحاول أن يستنتج ما بها، فيسمع كاترينا تتلو قصيدة أحببتك لبوشكين في المقطع الذي يقول: “أحببتك، ومازلت أحبك، فاللّهب لم ينطفئ في قلبي، لكن لا تدع حبّي لك يُزعجك بعد الآن، فلا أريد أن أسبّب لك مزيدًا من الحبّ، لقد أحببتك بصمت، بلا أمل، بكلِّ خجل، ومع ذلك مزّقتني الغيرة، أحببتك بكلّ صدق، بكل حنان وأدعو الله أن يُهيّئ لك شخصًا آخر ليُحبّك هكذا”.

انهمرت دموع إيفان بعد سماع تلك الكلمات مباشرةً، فَاقدًا القدرة على التّنفس، بـِشفّة ترتجف بشدّة، وقلب يتباطئ نبضه، كأنّ الزمن بدأ يتناقص في سرعته، في جوٍّ من الصمت، خسر فيه القدرة على التعبير.

بعدها وقفت السيدة كاترينا، وبدأت مغادرة مقام بوشكين، تمسح دموعها، وتعاني صعوبة في ابتلاع ريقها، من الغصّة التي أغلقت حلقها، أمّا إيفان فقد بقي متسمّرًا في مكانه، لو لم ينادي عليه أندريه، مُنقذًا إياه من الأحاسيس التي انتابته، لكنّ إيفان لازال مُخدّرًا من المشهد الذي شاهده، فيمسك أندريه الخريطة يبحث عن علامة الإكس الصغيرة، ثم يرفع بصره يقلّبه في المحيط، حتّى يلمح صندوق البريد المُهترئ، المرموز برمز الشيوعيّة، فيُمسك يد إيفان ويسوقه لموقع الصندوق، فيُحاول الشابّ الروسيّ أن يتمالك نفسه، ويتناسى المشهد بالتفكير فيما تركه له صاحب اللّغز من جديد هذه المرة …
كالعادة كانت هناك ورقتان، واحدة تظهر أنّها ممزقة من كرّاسة، والثانية شكلها مناسب …

كُتب على الورقة الاولى: “لا أفهم لماذا يجب على المرء أن يلتزم بعلاقة واحدة، فحتّى الكتب المقدّسة جعلت الارتباط عشوائيًّا كما جعلت القتل كذلك” هنا شعر إيفان بالتقزُّز للمرة الثالثة، وأخذ يراوده شعور الكره تجاه صاحب هذه الكلمات، كرهٌ شديد، وهو يسترجع تلك الأحاسيس التي سبّبتها له كاترينا بقصيدة بوشكين وبمشهد بكائها المؤثر.
ثمّ وجد الثانية مكتوبًا عليها: “هذه هي المرحلة الاخيرة قبل أن تستعيد ذاكرتك، الموقع الأخير في خريطتك مُنعزل قليلًا عن المدينة، ستجدُ شيخًا هَرِمًا هناك، سينتحر أمامك”…
يُصاب إيفان بصدمة، معتقدًا أنّ الأمر كلّه في الأخير من أجل إلصاق تهمة قتل به، ممّا تسبّبَ له بكابوسٍ أسوأ من فقدانه لذاكرته، وفي خضمّ تلك المشاعر يُقرّر الانسحاب نهائيًّا والبحث عن حلٍّ بديل، لكن أندريه يقترح رأيًا مخالفًا:
“يُمكننا فعل الأمرين يا سيد إيفان، أنت زُر العجوز، وأنا سأحمي ظهرك، في حال ظهور أمرٍ ما”
يرد إيفان بعنف: “ربما أنت وراء كل هذه المهزلة، ابتعد عنّي”
يتبادل الرجلان النظرات لبرهة، تحت صمت مسيطرٍ على الوضع، ثم يلتفت أندريه مباشرة مُتّجها نحو سيارته من غير النطق ببنت شفة، يقطع بضع خطوات فينادي عليه الشاب الروسيّ (الشيوعي سابقا) قائلًا:
“اعتذر يا صديقي، لقد فقدت السيطرة على مشاعري، هيا لنقتل ذاك العجوز الهرِم”
يبتسم أندريه متحمّسًا، وينبعث الروسيّان في سباق مع الوقت، متتبّعين علامة الإكس الكبيرة الدّالة على المنزل المنعزل، الذي جعلهم يستغرقون أكثر من 20 دقيقة ليصلوا، كون الموقع خارج حدود المدينة، رغم السّرعة والمهارة التي كان يتمتع بها أندريه في القيادة.
يترجّل إيفان بعزم وإصرار داخلًا إلى المنزل كأنّه لا يبالي بما سيحدث، في حين يبقى أندريه بالقرب من السيارة تحسُّبًا لأي طارئ يحمل خطرًا أو تهمة. يجد إيفان الباب مفتوحًا، يدخل بخطوات صامتة، لكّنه يُفاجئ بصوت قادم من العمق في المنزل: “لقد كنت في انتظارك سيّد إيفان”.
يدقّق إيفان فإذا برجل مسنٍّ يتّكئ على عكازة، والظاهر أنّها إصابة بالغة ناجمة عن حرب، مع وجه حاد، يُظهر الحنكة في المواقف والخبرة في السنين، أما الصوت فقد كان هو الأفضل والأكثر تماسُكًا، ولا يوحي البتّة بأيّ مظاهر العجز لصاحبه، يتكلّم الشاب: “كيف عرفت اسمي أيّها المسن؟”
“هذا ليس مهمًّا، أنت هنا الآن لتشهد شيئًا وتسمع أشياء، فأنصت جيدًا أيها الشاب “تلفظ العجوز، ثمّ أضاف قائلًا:
“اسمي هو بيتروف وقد عشت حياتي كلّها ملحدًا، لكنّي الآن امشي على طريقة بعض الملاحدة قبلي لمِا شعرت به، فالبارحة أنهيت مقالة في إنكار وجود الإله، ثم لم أُطفئ الضوء لما أردت النوم خوفًا مما سيفعله بي الربُّ حينها، لقد أدركت في لحظتي تلك كيف شعر أنتوني فلو، وكيف شعر سارتر حينما استدعى القس في آخر لحظات من حياته، ولأنّي ملحد عنيد قررت أن استمع للقس وانتحر، قبل أن تموت خلاياي قابعة في عذاب الربّ الأبدي”
لم يحاول إيفان فعل أي شيء سوى المراقبة، وانتظار ماذا سيحدث، لكنّه تفطّن لسؤال أخير فتلاه سريعًا على مسامع المسنّ بيتروف:”من الذي يزعم أنّه سيردّ لي ذاكرتي؟”
ابتسم العجوز وكشف عن أزرار قميصه، مُخفيًا تحتها نوعًا من الأفاعي المعروفة بالأفعى الشائعة، فقدرة بيتروف على الحفاظ على هدوئه في الحرب والمواقف المحرجة مكّنته من عدم إِزعاج الأفعى وهي معلّقة في صدره تزحف، ثم راح يستثيرها حتّى لدغته، فسقط من فوره من غير أن يتفوّه بكلمة جواب على سؤال الشاب.

يخرج إيفان مسرعًا لكي يتخلّص من الوضع، يلحقُ بالسيّارة، وهو يتابع الخريطة يريد تحديد موقع علامة الإكس الصغيرة، حيث ينطلق الروسيّان معًا صوب صندوق البريد الحامل لرمز الشيوعيّة، وليس بالكثير حتى يبرز موقعه، فيتوقفان سريعًا للنظر، حتّى يتمكّنا من الفرار من الموقع في أسرع وقت.
كالعادة هناك ورقتان، واحدة ظاهر أنّها ممزّقة من كرّاسة، و الأخرى شكلها مناسب ومعتدل.
كُتب في الورقة الاولى: “إنّ الذين يقتنعون بقضاياهم قناعة مطلقة، سوف لن يضرّهم حضور الموت عندهم، فليس الإحساس بالحياة عندهم يمنحهُم الشعور بالأمان بل القضية ذاتها”
بالنسبة لإيفان كان الكلام هذا هراءً، فما فعله المسن بيتروف قبل قليل أبرز أنّ إحساس الإنسان بطول الأمد كفيل بأن يعطيه قناعات كاذبة، ثم في المواقف الحرجة، خاصّة الموت، يفقد الإنسان إحساسه بطول الأمد فتتغير قناعاته بمناسبة الخطر الذي يعتلج بين ضلوعه. وكتب على الورقة الثانية:”توجّه إلى المركز العلميّ لجامعة موسكو الحكوميّة، ستجد السيدة صوفيا تنتظرك، هناك ستسترجع ذاكرتك…”
لم يعلم إيفان كيف ينفعل مع هذه الرسالة الأخيرة، فقد كان كل شيء طلاسم بالنسبة له، منذ فقدانه لذاكرته والأفعال الغريبة التي اضطُّر أن يقوم بها، بلوغًا للسيدة صوفيا التي ألغت كل أمل في استعادته لذاكرته، فراح يُحدِّث نفسه، هل يمكن أن تكون صوفيا لوبانوفا وراء كل هذا؟
فكّر إيفان أنّه قد وصل لمرحلة لا يمكنه التراجع عنها، فلابدَّ من إِنهاء المسألة بضربة واحدة، فإما الجنّة وإمّا الجحيم، حيث ينطلق مع أندريه إلى جامعة موسكو الحكومية لإنهاء هذه الأمسية، من غير تلاعب إضافيّ، أو ممارسات غريبة ثانية، لكنّه كسابق المرّات لم يمنع نفسه من الاستمتاع بمدينة موسكو الجميلة، خصوصًا في المساء مع غروب الشمس، واستبدالها بقطعة النّور تلك، القمر في صورته الكاملة، بتركيز مستمرٍّ لا تشوبه شائبة، حتّى توقفت السيّارة في موقعها الأول في بداية اليوم سابقًا، عند الجامعة تمامًا ، فيترجل الروسيّان معًا كرفيقين عاشا من المواقف ما يعادل عمرًا عند آخرين، يَدخلان المركز، فإذا هو فارغ في أروقته وغرفه كما تركه إيفان في بادئ الأمر، حتّى يسمع الرفيقان وقع حذاء كعب عالٍ، كانت صوفيا لوبانوفا بلباس السهر والمرح، لا بلباس المختصّة والمشرفة على قسم أبحاث الذاكرة..
استغرب الرجلان، لكنّها تقدّمت بخطواتها الواثقة نحوهما قائلة: “الليلة سنحتفل يا عزيزي إيفان”، في تلك اللحظة تذكّر إيفان كلمات الورقة الثانية:”هناك ستستعيد ذاكرتك”، فيعلّق الشاب الروسي بسخرية:”لم أكن أعلم أنّي سأستعيد ذاكرتي بهذه الطريقة”
تأمُر صوفيا الشاب بالدّخول لغرفة العلاج التي كان فيها سابقًا، لكنّه يقاطعها قائلًا:”أريد تفسيرًا يا جميلة، لا أريد أن أتمدّد على سريرك، فضلًا عن أن أتخيل باقِ القصّة” . . .تُقابل صوفيا كلام الشابّ بابتسامة، وأندريه يشاهد، يبتلع ريقه مع كل جملة تصدر من أحدهما، حينها تتلفظ الحسناء صوفيا: “سنعيد لك ذاكرتك يا عزيزي، لا تقلق، فتمدد حتى أتمكن من تشغيل الجهاز ذو تقنيّة البصريات-الوراثية”
يجلس إيفان مقابلًا للجهاز، فقد استنفد جميع الحلول، ولم يملك خيارًا سوى مسايرة هذه السيدة، راضيًا بما آل إليه الأمر، فلا قابليّة للتغيير الآن، سوى الأمل، ولو كان الأمل الكاذب فقط…
شغّلت صوفيا الجهاز الذي يُطلق موجات (ضوء أزرق) وموجات قصيرة الطّول (الأشعة تحت الحمراء) تقوم باختراق خلايا الدماغ المخصّصة للذاكرة متجاوزةً العظام، التي تُعطيها نوعًا من النشاط، يجعلها تفتح ملفات الماضي المحفوظة داخلها، الأمر الذي جعل إيفان يشعر بصداع قاتل جدًا من جديد، يجعله يُغمض عينيه بقوة، وفي النّهاية يُغمى عليه فوق السرير
ينذهل أندريه ويصرخ في وجه صوفيا: “ماذا فعلت به أيتُها الساحرة؟”
تردُّ هي ببرود:”سيستيقظ بعد نصف ساعة، أمهله قليلًا من الوقت أيها…من أنت مجدّدًا (بسخرية)؟”…
تمر الدقائق والثواني، وكلٌّ من صوفيا وأندريه يراقبان السّاعة المعلّقة على الحائط، لكن إيفان كان أفضل من التوقعات، فقد استيقظ بعد 20 دقيقة فقط …
يستيقظ إيفان، ثم ينظر لصوفيا وأندريه، ثم يبتسم ابتسامة كبيرة، تدلُّ على أنّه استرجع ذاكرته، بل واكتشف صاحب اللّعبة، صاحب اللعبة كان هو إيفان نفسه!

قبل أن يفقد إيفان الذاكرة:

إيفان الشيوعيّ الماهر، الرياضيّ والفيلسوف الذكيّ، كان يُدرك مع صديقته صوفيا الباحثة في الذاكرة البشرية، وجَدّه بيتروف الفيلسوف الاشتراكيّ والمحارب المحنّك، أنّ الإنسان يملك الوعي واللاوعي، والشعور واللشعور، وأنّ القسم الأكبر الذي يتحكّم في حياة الإنسان هو اللاوعي واللاشعور، حيث ينشأ هذان (اللاوعي واللاشعور) من التجارب الاولى التي تحدث للإنسان.

يُخاطب إيفان بلغته الفلسفيّة صديقته صوفيا:
“الطبيعة هي مصدر المعرفة الوحيد، وبالحسِّ فقط تنشأ لدينا المعلومات الأوليّة، ثم تصير هذه المعلومات، بعد أن كانت وعيًا، مدفونة في أدمغتنا فتكوِّن اللاوعي الذي نفكر به، بعد أن كانت وعيًا”، ثم يستطرد قائلًا: “هذا أفضل تلخيص لمذهب هيوم عزيزتي صوفيا”

قد يعجبك أيضًا

استغربت الباحثة والفيلسوف المحارب المغزى الذي ينشده هذا الشيوعيُّ المحترق، فيُكمل شارحًا فكرته:
“ما أريد قوله أيّها السادة، أنّي بمساعدتك يا صوفيا، ستقومين بمسح ذاكرتي، ثم نضع بعض المسائل المهمّة قيد التجربة، ونرى هل النتيجة مطابقة لما قبل فقدان الذاكرة وبعد استرجاعها أم لا؟”

يستفسر بيتروف :
“وما هي القضايا التي تخطِّطُ لاختبارها يا بني، وبأي أسلوب؟”


حينها بدأ إيفان يشرح القضايا التي سيعالجها من أفكاره نحو الأجناس البشريّة، ونظريّته في الحبّ، وأفكاره حول عتاقة أو سخافة الماضي، وصولًا لفكرة الموت وتأثيرها، حيث قام باقتطاع المواضع التي تتحدث عن هذه الأمور من مذكراته الشخصيّة، وقام بالتحضير للعمليّة كلّها، ضمن مسلسل متّسق غير مُختل، حتّى يضمن لنفسه أفضل تجرِبة، ليستنتج في النّهاية التطابق من عدمه في مسألة اللاوعي والوعي، وعلى مستوى أعمق، هل اختياراتنا التي شكّلت اللاوعي الخاص بنا، اختياراتٌ صحيحة؟

إيفان بعد استرجاع ذاكرته :


بعد أن استيقظ إيفان من تأثير الجهاز على ذاكرته، مستعيدًا كل ما مضى، مرفقًا بذكريات التجربة التي حدثت اليوم، طلب من صوفيا أن تحضر له ورقة وكرّاسة فارغة ليُفرغ فيها مضمون ومغزى تجربته اليوم، إلّا أنّ صوفيا احضرت له أحد السجلّات الطّبيّة الفارغة، وقد كان ضخمًا قليلًا، لكنّه مناسب، فأمسكه إيفان بمهارته الكتابيّة ولغته الفلسفيّة البارعة، كأنه يكتب بريشة من ذهب على أبهى أنواع الجلود المصبوغة.

أدرك إيفان كم استمتع اليوم مع نيكيتا وميخائيل، وكيف أنّ الجمال الذي كانا يحملانه تجاوز لون البشرة وتجاوز الإعاقات أيًّ اكانت، وأدرك إيفان أنّ الماضي يُمثّل الهويّة بشكل رئيسيّ للإحساس الذي راوده حينما خسر كل ذكرياته وشعر أنّه بلا هويّة، وأدرك كم كانت تحبّه كاترينا وهو سارتريّ لا يُقدّر الوفاء ولا الحبّ، وأدرك الشاب الروسيّ الإنسانيّ حاليًّا، والشيوعيّ سابقًا، أنّ القناعات تتحطّم أمام جدار الموت، وطول الأمد يغري الإنسان، وراح يؤلّف في كتابه المُعنون بـ “ولادة إنسان” في مسودته الأولى المنحوتة في السجلّ الطبيّ الضخم، بمساعدة صديقته صوفيا وجَدِّهِ بيتروف، الذي لازال حيّا، فالأفعى الشائعة التي لدغته كانت منزوعة السمِّ أصلًا، وكونه محاربًا فقد استطاع التكيّف مع الوضع والتمثيل ببراعة كبيرة، جعلت إيفان يصدّق كل ما يحدث أمام عينيه، وأخيرا لقد علّمه صديقه أندريه معنى إنسانيًّا راقيًا، كيف أنّه ساعده في حالة ضعفه وشعوره بالضّياع، مبرهنَا له القيمة في أسمى معانيها، فقد كان كالإسكافيّ الذي ساعد الملاك المعاقب من طرف الربّ في قصة تولستوي.

في الصباح التالي حمل إيفان مذكّراته مباشرة، وقام باستدعاء كاترينا عند مقام بوشكين، حيث حرق أمامها مذكراته الشيوعيّة، ووضع مذكّرة جديدة هي مذكّرات إنسان، ثم ركع على ركبته وهو ينظر في عينيها قائلًا:
“هل تقبلين الزواج بي؟ هل تقبلين أن أكون بوشكين كاترينا؟”
أظنّ أنّكم تعلمون إجابة كاترينا جيدًا…

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: صيقع سيف الإسلام

تدقيق لغوي: فاطمة الملاح

الصورة: gettyimages