هل بوسع الجمال حقًا أن ينقذ العالم؟

في رواية الأبله يندفع هيبوليت تيرنتيف موجهًا كلامه إلى الأمير ميشكن قائلًا: هل صحيح يا أمير أنك قلت في ذات يوم أن “الجمال” يمكن أن ينقذ العالم؟ ونتساءل نحن مع هيوبليت، كيف يمكن أن ينقذ الجمال عالمنا المتداعي؟ وليس دستويفسكي وحده من يعطي للجمال هذه القيمة العالية فعلى الجانب الآخر يقول الشاعر الإنجليزي جون كيتس: “الجمال هو الحقيقة”، ما الذي يعكسه الجمال عن الوجود والحياة حتى يكون هو والحقيقة مترادفين؟

ربما نحتاج الرجوع أكثر قليلًا إلى بدايات التساؤل البشري، عندما كان أكبر شاغل للفكر الإنساني هو السؤال عن الخط الفاصل بين الذات والموضوع، بين الروح والمادة، بين دواخل الإنسان والعالم الذي يقبع خارجه. فقد كان العالم المتحول والمتغير يضع الإنسان أمام حيرة كبيرة، هل ما أراه حقيقي في ذاته؟ أم أنه مجرد صورة يسقطها العقل على الأشياء فلا حقيقة بذلك سوى الحقيقة المتمثلة في العقل وحده؟

كان أفلاطون من أوائل من أشاروا إلى هذا الوجود المثالي المنفصل عن العالم الطبيعي والذي يعتبره أصل الأشياء جميعًا، يقول أفلاطون على لسان سقراط في محاورة فيدون: إذا جاء أحد ليقول إن شيئًا ما جميل بسبب شكله أو أي شيء آخر من هذا النوع، فإني أدع كل هذا جانبًا، وأتشبث بلا لف ولا دوران وفي بساطة، وربما أيضًا في سذاجة، بهذا: أنه ليس هناك ما يجعل ذلك الشيء جميلًا  إلا ذلك الجمال المشار إليه، وإنما الذي أقرره في حسم هو أن كل الأشياء الجميلة تصير جميلة بالجمال”.

هذه نظرة مثالية للجمال، إذ لابد عند أفلاطون من وجود صورة أو مثال للجمال في ذاته تسبح في عالم المُثل وعلى أساسها تكتسب الأشياء الجميلة صفة الجمال فيها. فهذا العالم المادي الذي يضعه أفلاطون مقابل العالم المثالي خاضع للتغير والتبدل الدائم، ولذلك لا يمكن أن تكون الأشياء الجميلة تعريفًا للجمال أو دالة عليه، لابد من صورة واحدة ثابتة يستمد منها كل جميل هذه الصفة.

ولكن كيف لهذا النوع من الجمال أن يكون قادرًا على إنقاذ العالم؟

إن الصورة المطلقة للجمال وللخير موجودة داخلنا وقد اكتسبناها في وجود سابق لوجودنا هذا، ولولا ذلك لما كنا قادرين على إدراك الجمال والخير في الأشياء، وذلك ما يفسر الشعور الغامر الذي نحس به عندما ننظر إلى تجليات الجمال في الطبيعة مثلًا  أو عندما تحركنا الأفعال الخيّرة وتبعث فينا السرور والغبطة، وذلك يثير لدينا تساؤلًا  حول ماهية الشعور الذي يتملكنا عند رؤية ما هو جميل، ولابد أن يقودنا ذلك إلى إدراك الفكر الذي يكمن وراءها فنصل إلى جمال العلوم والمعارف التي بإمكانها أن تملأ عقولنا، أي أن هنالك ما يدعى بجمال المعرفة أو المعرفة الجميلة والتي من بعدها نستطيع بلوغ الجمال في صورته المطلقة وهي أقصى الدرجات. إذن الجمال مرتبط بالخير، بل ويمضي يدًا بيد مع الحب في استثارة النفوس إلى الخير.

إعلان

جمال العدد

عندما نظر البعض الآخر إلى العالم والطبيعة رأوا جمالًا  من نوع فريد، جمال يتصل بالعدد بصفته أصل الأشياء، أي أن جوهرها الأصلي مكون من انسجام الأعداد أو اختلاف في نسبها، في حركتها ومقدارها وتناغمها. والكلام هنا عن الفيثاغوريين الذين رأوا أن أصل الأعداد هي الوحدة، فالواحد في المرتبة الأعلى فوق الأعداد ويمثل الإله ومصدر الخير وما عداه ثنائية تمثل عالم المادة ومصدر الشر.

 “دون العدد لا يمكن معرفة أي شيء، إن إدراك الأعداد الكامنة في تركيب الأشياء هو السر لبلوغ المعرفة المطلقة وهو ما يجعلنا ننتقل من الأعداد المجردة إلى إدراك حقائق كونية أكبر، أي القدرة على بلوغ ما وراء الأشياء (الميتافيزيقيا) حيث تكمن حقيقتها، وهذا لا يختلف كثيرًا عن مساعي أفلاطون خاصة لو علمنا أنه كان متأثرًا بالفيثاغوريين وأنه وضع على باب أكاديميته عبارة يشترط فيها معرفة التلميذ بالهندسة والرياضيات قبل دخوله إلى الأكاديمية، إن الرياضيات والهندسة بوصفها علومًا تجريدية نظرية تتيح لصاحبها أن يحصل على المران الذي يحتاجه للتفكير المجرد ومن ذلك يتمكن من الارتقاء بفكره من هذا العالم المحسوس إلى إدراك الأشياء بصورتها المثالية المجردة، عندها فقط يراها على حقيقتها، تقول ادنا سنت ميلي الشاعرة الأمريكية:

“إقليدس وحده من رأى الجمال عاريًا”

إشارة إلى إقليدس الذي وضع المبادئ الأولى في الهندسة. إن القدرة على رؤية الجمال الرياضي في الكون تعني أن الفكر يقترب من إدراك كنه الأشياء أكثر وأكثر، كما لو أنه يقترب من فك أسرار هذا العالم الغامض والملغز. ولكن هل ذلك كافٍ حقًا لإنقاذ العالم؟

الجمال المفيد

ما الفائدة المتحققة من الجمال؟ أم أن هذا سؤال خاطئ، فالجمال والمنفعة لا يرتبطان ببعضهما. الشيء الجميل كما يراه كانط هو ما يروقنا فقط لا غير. إنه شعور خالص بالارتياح لموضوع الجمال ولا ينطوي على أي غرض. ولكن الاهتمام بالجمال الموجود في الطبيعة دليل على رهافة الحس ونزوع للروح باتجاه ما هو خير. “حينما يهتم الإنسان اهتمامًا مباشرًا بضروب الجمال الكامنة في الطبيعة، فإنه سرعان ما يعتاد حياة التأمل والاستغراق في الجمال الطبيعي، ومثل هذه الحياة هي بطبيعتها ملائمة لنمو الشعور الأخلاقي”. قد يصل التأمل في الطبيعة بالإنسان إلى فهم النظام الذي تسير عليه وكذلك إدراك الغايات التي تكمن وراءها، إن الجمال في الطبيعة قائم في أغلبه على تناسق في الحركة والنظام وتناغم بين الموجودات في أدوارها داخل هذا النسق الكلي. وذهب سقراط قبله إلى القول بأن ما هو نافع يكون جميلًا  بالنتيجة، أي أن المنفعة تسبغ هذا الجمال على الأشياء.

ولكن إن كان هنالك قدر من الصواب فيما قاله كانط حول ربط الشعور الأخلاقي بتأمل الجمال، ماذا يمكن أن يقال عن الخيال الحر الذي يمكن الإنسان من خلق أشياء جميلة بحرية تامة تبتعد عن أي شعور أخلاقي؟ وحتى نعطي الأمور أسماءها ماذا عن الجمال الذي ينتج عن النزوع إلى الخلق الفني لدى الإنسان؟ ما الفائدة المرجوة منه؟

نرشح لك: استهلالٌ في الهُوِيّة والفن والجمال

بالنسبة لشوبنهور أن هذا الخلق الفني هو ما يساعد الإنسان على التنصل من أسر الإرادة وهو ما يتيح له أن ينأى بنفسه عن ألم الحياة وعنائها خارج حدود الزمان والمكان، ولكن السؤال ما زال قائمًا، ما الفائدة المتحققة عن ذلك؟ يقول جورج سانتيانا: لا تظهر الفنون إلا بعد أن ينتهي عمل الحياة الجدي، وبعد أن تخف حدة الفزع في الحياة، فما من موقف إنساني يبلغ ما فيه من الرعب حدًا يستحيل معه تخفيفه عن طريق توقف الذهن برهة لكي يتأمله تأملًا  جماليًا، حينما تستطيع الحاسة الجمالية أن تكشف عن وجه العظمة في مصائبنا وعن الجانب الطروب في بلايانا فإنها بذلك تخفف من وطأتها وتعزينا عن استحالة وجود جمال كامل جدي معظم الوقت. (الإحساس بالجمال)

إذن يمكن أن يصبح التأمل الجمالي مفيدًا إن كان قادرًا على تبصرتنا بجوانب الحياة المؤلمة أو العصية على الفهم، فما معنى أن تثير فينا قصة محزنة مشاعر الإعجاب أو الافتتان؟ وكيف نفسر أن يستعذب أحدنا الموسيقى التي تثير فيه الحزن أو الشجن؟ ليس ذلك نوعًا من تعذيب الذات بقدر ما هو قدرة على التسامي على التجربة والنظر إليها من بعيد بمنأى عن الألم أو الحزن الذي سببته. فقط عند إضفاء “الخير الجمالي” على الأشياء يصبح ممكناً التخفيف من وطأتها، إن الحياة وآلامها وشقائها وكل صنوف المعاناة فيها تدفع بالإنسان دفعاً إلى البحث عن الجمال فيها أو حتى وضعها في إطار جمالي يخلقه بالفن، حتى يتمكن من التأمل في قسوتها بشيء من العزاء الذي يجعله قادرًا على المضي بالرغم من كل مساوئها وشرورها.

نرشح لك: الفن والعبقرية: قدرة الفنان على اختراق النَّسَق

من جميل ما قاله أبو حيان التوحيدي في التساؤل عن الجمال: ما سبب استحسان الصورة الحسنة؟ وما هذا الولوع الظاهر، والنظر و العشق الواقع من القلب، والصبابة المتيمة للنفس، والفكر الطارد للنوم، والخيال الماثل للإنسان؟ أهذه كلها من آثار الطبيعة أم هي من عوارض النفس؟ أم هي من دواعي العقل؟ أم هي من سهام الروح؟ أم هي خالية من العلل جارية على الهذر! وهل يجوز أن يوجد مثل هذه الأمور الغالبة، والأحوال المؤثرة على وجه العبث ، وطريق البطل؟ (الهوامل والشوامل)

إن وجود الجمال يكاد يكون السبب الأكبر لوجود الإيمان، لأنه وحده قادرٌ على جعلنا نصدق أن هنالك جدوى من الوجود، أن هنالك معنى يدفعنا إلى الإيمان بوجود الخلاص من مأزقنا الإنساني. هل بوسعنا أن نقول أن هذا ضرب من ضروب الإنقاذ؟

الجمال المقدَّس

هل يمكن للجمال إذن أن ينقذ العالم إذا ما ارتبط بالمقدس؟ والإشارة هنا في الأغلب إلى المقدس الديني. هنالك حكايات تروى عن أناس أسلموا بسبب رؤيتهم للعمارة الإسلامية وافتتانهم بها، أو بسبب استماعهم لتلاوات أو أناشيد دينية أعجبتهم النغمة التي قيلت فيها، فأخذهم جمالها برهة من الزمن. وحتى في المسيحية يشكل الغناء والترانيم جزءاً من الديانة نفسها، بل ويرتبط بالحالات الروحانية والوعي الديني، وقد يستمع غير المسيحي لها ويُعجب بتناغهما ولحنها، وربما يفتنه منظر الفسيفساء التي تزين كنائس البيزنطيين القديمة. فهل بوسع هذا الجمال الذي يرتبط بالمقدس الديني أن يهذب نفوس مَن لا يشتركون في الاعتقاد نفسه ويجعلهم يتسامحون مع اختلافاتهم العقدية؟

لعله قادر على ذلك إذا ما استطاع مَن يتأملون تلك الصروح أو الأعمال الدينية أن يدركوا أن ما يقف وراء هذا الالتجاء إلى الجمال والفن اشتراك في الحس الجمالي نابع أولًا  من الأساس الإنساني الذي يربط أصحاب المعتقدات بالرغم من اختلاف معتقداتهم وتباينها. إن التماس الجمال في سبيل تقريب العقائد إلى الأذهان قد يكون قادرًا على النفاذ إلى عمق الطبيعة الإنسانية في ميلها ونزوعها إلى ما هو جميل ولعل هذا ما يفسر قدرة المقدسات الدينية في كثير من الأحيان على جذب الاهتمام بها من الناحية الجمالية حتى لو لم ينتج عن ذلك الانجذاب اعتقاد ديني.

نرشح لك: الحب مُحَرِّكًا للوجود

مهما اختلفت نظرتنا للجمال، وتباينت تعريفاتنا له، فإننا لا نختلف على أثره في النفس، وإن كان قادرًا على إنقاذ هذا العالم فإنه يكون كذلك بمقدار ما يضعه في نفوسنا من السكينة والسلام والقدرة على التسامح وحب الخير والفضيلة، في تذكيرنا بما نشترك به كبشر في أعماقنا النفسية السحيقة. ولعله عزاءنا الوحيد في كون شاسع يصير بنا كل يوم إلى مصير محتم هو الموت، فنجد أنفسنا نهتف مع أفلاطون حينما قال: ايه يا سقراط! إن الشيء الوحيد الذي يخلع قيمة على هذه الحياة، إنما هو مشاهدة الجمال الأزلي الأبدي. وهل يمكن أن يكون هناك ما هو أعظم من مصير هذا الإنسان الفاني، لو قُدِّر له أن يتأمل ذلك الجمال المطلق، نقيًا لا تشوبه شائبة، ناصعاً يرفل في أكاليل الطهر والبساطة، عاريًا لا تكسوه ألوان وأشكال مصيرها إلى الفناء؟ (المأدبة)

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: مريم زهرا

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا