مناهضة العدمية لدى كوبريك وهانيكي

هل أفلام كل من ستانلي كوبريك ومايكل هانيكي راسخة في العدمية ؟ كيفن لستوير ينظر لكلا المخرجين السينمائيين من خلال عدسة فريدريك نيتشه الفلسفية، يوضح كم أسأنا فهم هذين المخرجين العظيمين، إذ لم نكن نعترف برفضهم للوجود السلبي للعدمية.

اثنان من أعظم صناع الأفلام، ستانلي كوبريك ومايكل هانيكي، يشتركان في الاهتمام بالروايات التي تركز على موضوعات الانفصال العاطفي، انعدام الانسانية، القلق، الحرية المحبطة، العنف. إني أزعم أن الرؤية الفلسفية المشتركة التي تقوم عليها الأعمال الرئيسية لـكوبريك وهانيكي تتبع المسار الفكري الذي بدأه فريدريك نيتشه. كتابات نيتشه حول مشكلة العدمية تقترح أن هنالك نوعين من التوجه الوجودي، كلاهما بسبب فقدان الإيمان بالقيم والتقاليد والمؤسسات التقليدية. الشكل الأول حول رفض الحياة، والشكل الآخر يؤدي لإضفاء صفة التأكيد الذاتي الفردي وبالتالي يمثل الأخير وسيلةً للخروج من العدمية بشكل عام. بينما يقوم البعض بتصنيف كوبريك وهانيكي بـ”عدميين سينمائيين”، من حيث أنهم يعودون مرة تلو الأخرى لمثل هذه المواضيع، إن أطروحتي الخاصة بهذين المخرجين هي أنهم في الواقع مناهضون للعدمية من حيث الدروس التي يعتزمون أن يأخذها المشاهدون من أفلامهم. إن أعمالهم تعبر عن رفض مشترك للتوجه غير الفاعل السلبي الذي ارتبط بشكلٍ تقليدي مع مصطلح “العدمية”.

اثنتان من أشكال العدمية لدى نيتـشه:

نظر نيتشه إلى العدمية بأنها المشكلة الروحية والأخلاقية الأساسية في العصر الحديث –ولكنها مشكلة ضرورية، بالنظر إلى تطور التقاليد الأفلاطونية المسيحية. أَتْبَعَ هذا التقليد النتائج المنطقية للمثالية العقلانية وخلص إلى نوع من الشكوك المَرَضِيَّةٍ. في مقطع من بداية الكتاب الأول “العدمية الأوربية” في المجلد المعنون الإرادة إلى السلطة -المجموعة المعدلة بعد وفاته من كتاباته السابقة التي لم يتم نشرها-، يقوم نيتشه بتعريف العدمية على النحو التالي: “ماذا تعني العدمية؟” إن القيم العليا تخفض من قيمتها. الهدف مفقود، “لماذا لا يجد إجابة لذلك؟[1] كما أنه يخبرنا في مقطعٍ آخر من كتاب لاحق عن ذات المجموعة: “العدمي هو رجل يقوم بالحكم على العالم كما هو، والذي لا يجب أن يكون عليه، وعن العالم الذي يجب أن يكون، والذي هو غير موجود من الأساس. طبقًا لوجهة النظر هذه، فإن وجودنا في (الفعل، المعاناة، الرغبة، الشعور) لامعنى له. فالرثاء “باطلًا” هو رثاء العدميين -في ذات الوقت-، كما هو الرثاء، فإنه عدم تناسق من جانب العدميين.”[2]

       “العدمي هو رجل يقوم بالحكم على العالم كما هو والذي لا يجب أن يكون عليه، وعن العالم الذي يجب أن يكون والذي هو غير موجود من الأساس”.

فريدريك نيتشه:

بمجرد أن نبدأ بالتشكيك بالهياكل الضمنية لوجودنا الشخصي والجماعي، فإننا نبدأ بتقويض تلك الخيوط ذاتها التي يبدو أنها تمسك حياتنا معًا. كما يخبرنا نيتشه في مقطعه غير المنشور”باتجاه الملخص”: “أن الشكوك المتعلقة بالأخلاق هي التي تبدو حاسمة. إن نهاية التفسير الأخلاقي للعالم، الذي لم يعد له أية عقوبة بعد محاولته الهروب إلى ماهو أبعد من ذلك، يؤدي إلى العدمية.  “كل شيء يفتقد إلى المعنى”.[3] وكتاباته عن العدمية تولِّد بالتأكيد تشاؤمًا مبدئيًا حول التدهور وسقوط الحضارة الغربية، مثلما نرى ذلك في الجزء “النبوي” في مقدمة الكتاب الأول لإرادة القوة: “الآن ولبعض الوقت، كانت حضارتنا الأوربية تسير بأكملها نحو الكارثة، بقلق مُعذِبٍ ينمو من عقد إلى آخر: قلِق، عنيف، متهور، مثل نهر يريد أن يصل إلى النهاية، غير قادر على التأثير، بل إنه خائف من التأثير”. [4] لكن بالرغم من النبرة الداكنة لحكم من هذا القبـيل، فإنه من الواضح أن نيتشه يعمد إلى التشديد على مخاطر العدمية على أمل أن يجد بعض الأفراد المختارين القوة لتجاوز هذه المشكلة. في المقطع التالي لهذا، يصف نيتشه نفسه بأنه “العدمي المثالي لأوروبا كونه -مع ذلك- قد عاش حتى الآن خلال العدمية بالكامل، إلى النهاية، تاركًا أياها خلفه، خارج نفسه”. [5]

إعلان

ولدت العدمية بشكل عام من شعور السخط الذي يشمل فقدان الإيمان في قيم عليا معينة غير مشروطة (الله، فكرة الصلاح، الحقيقة المطلقة، وما إلى ذلك)، إذ تؤدي هذه العوامل إلى شعورٍ أعمق بالسخط تجاه ماهو غير مثالي (أي، العالم الدنيوي جنبًا إلى جنب مع عرضية وقدرة الوجود الإنساني). [6] لكن أساس تدريس نيتشه هو أن العدمية يمكن النظر إليها بصورة إيجابية -باعتبارها المناسبة الضرورية لبزوغ نوع جديد من الفردية الذاتية والتي مع ذلك تقبل حدودها ووقتيتها. يجب التخلص من القيم القديمة والتي أصبحت راكدة وتنبذ الحياة أو السمح لها بالاختفاء (كما وصفها نيتـشه ب “غسق الأصنام”) من أجل الصعود بقيم جديدة حديثة والتي تصف اتجاهاتنا الحالية ورغباتنا، وهي القيم حديثة النشئة، والمليئة بالحيوية عوضًا عن التحجر. يطلق نيتـشه على هذا التحول بأنه “تقييم للقيم”.

“لكن أساس تدريس نيتـشه هو أن العدمية يمكن النظر إليها بصورة إيجابية -باعتبارها المناسبة الضرورية لبزوغ نوع جديد من الفردية الذاتية والتي مع ذلك تقبل حدودها ووقتيتها”.

وهكذا بينما تعبر العدمية بشكل عام عن خسارة أساسية في القناعة بالقيم المألوفة والتقليدية، فإن نيتـشه يرسم أيضًا تمييزًا واضحًا بين المفاهيم السلبية والايجابية للعدمية. يخبرنا أن العدمية السلبية أو غير الفاعلة “غير المكتملة”، “الباثولوجية” هي على ما يبدو رفض لقيم ومؤسسات ثابتة من دون الحماسة الذاتية المؤكدة التي تسمح للمرء يأن يصبح شخصًا مبدعًا. إن العدمية السلبية التي يُعبر عنها بشكل أكثر فطنة بفلسفة نيتـشه، هو المعلم آرثر شوبنهاور، إذ يصفها بأنها توجه وجودي يولد من السخط تجاه قيمة الحياة ذاتها. من ناحية أخرى، العدمية الفعالة أو الإيجابية “الكاملة”، “الصحيحة” هي المباشرة في التحول إلى فرد خلاق بينما ترتفع عاليًا مجرد نفي للحياة، وخصوصًا في مواجهة الأزمات الأخلاقية والروحية. [7] كما يخبرنا نيتـشه في مقطع آخر من كتاباته غير المنشورة: “العدمية. هي غموض: أ. العدمية كعلامة للقوى المتزايدة للروح. ب. العدمية كهبوط وانحسار لقوى الروح: “والتي يطلق عليها العدمية السلبية.”[8] في مقطع لاحقٍ من إرادة القوة يبين فيه ازدواجية في اللعب هنا إذ يقول:

“العدمية كظاهرة طبيعية يمكن أن تكون أحد أعراض زيادة القوة أو على النقيض زيادة الضعف”. [9] العدمية في حالة “أعراض زيادة القوة” هي في الواقع، طريق خروج من العدمية بشكل عام؛ نظرًا لأنها تؤكد قيمة الفرد، حتى عندما تتفكك كل القناعات الأخرى.

وهكذا عندما نتحدث عن العدمية، يجب أن نميز فيما لو كنا نتحدث عن العدمية بشكل عام (كانهيار عام للإيمان بالمثل العليا الخادعة والقيم التقليدية) أو لشكل معين من العدمية (أي، كرد فعلٍ نشيط أو سلبي إلى حالة فقدان الإدانة). تقادمًا، سوف نرى أن الأعمال السينمائية لكل من كوبريك وهانيكي تمثل وعيًا عميقًا ورفضًا مطلقًا لنوع العدمية المرضية والتي كافحها نيتشه في كتاباته. إلى ذلك ومن أجل جلب جمهورهم إلى اعتراف مناسب وتجاوز محتمل لمثل هذا الشكل من أشكال إنكار الحياة، فسيتوجب على هذين المخرجين تقديم الأعراض وعواقب المشكلة بأمانة راسخة. يخلق كل من كوبريك وهانيكي شخصيات تتميز بكونها قطبية خاملة وغير أصيلة مما يؤدي بأبطال هذه الشخصيات إلى الخوف، اليأس، وحتى أيضًا إلى التدمير الذاتي. هذين المخرجين هم فنانين تقنيين بارعين إذ لا تمثل أعمالهم مجرد عروض مشاهدة بصرية، لكن أيضًا قصص مشبعة بقلقٍ عميق من الحالة الإنسانية.

كوبريك:

بالنظر إلى تعليقات كوبريك في مقابلاتٍ نادرة لكن صريحة خلال مسيرته، سيكون من المنصف القول أنه يسكن في الظروف غير المعقولة للثقافة المعاصرة بغية الإشارة إلى ماوراء هذه الظروف، بروح العدمي النشط لدى نيتشه -الشخص الذي قام برفض التقاليد والقيم التي ترتبط بشخصية من نوع العبد الملتزم، لكن الشخص الذي يمتلك أيضًا الحماسة للمضي قدمًا ويصبح “سيدًا” مؤكدًا لذاته. بطريقة جدلية جيدة، وتابعًا لقيادة نيتشه بشكل مطلق، يقـوم كوبريك بتسليط الضوء على السلبية من أجل الإشارة إلى قدرتنا الإيجابية على بناء الذات، وهي قدرة غالبًا ما يتم قمعها، وخصوصًا بينما تكون القوى غير الشخصية الجماعية هي السائدة.

أفلامه كانت عادة تتميز بنوع من الانفصال العاطفي، بالإضافة إلى الارتباط الفكري، كانت دائمًا رؤى فردية لأشخاص أو عوالم ذهبت باتجاه خاطئ. تميل أفلامه إلى إثارة أعصاب المشاهد وذلك عبر إيصال خليط من أبعاد التخدير، الخوف، القلق والمحاكاة المزعجة. غالبًا ما تجد شخصيات كوبريك نفسها عالقة داخل مناظر طبيعية كثيبة للمؤسسات والقيم المنهارة. تم أخبار كوبريك من قبل محاور في مجلة بلاي بوي في العام 1968، عندما كان يناقش فيلمه المنتج حديثا 2001: أوديسا الفضاء (1968)، تم أخباره أن بعض النقاد “لم يكتشفوا تشاؤمًا عميقًا فحسب، بل نوعًا من البغض لكل ماهو بشري” في أعماله.

كان هذا هو الحال على وجه الخصوص بالنسبة للمحاور، عندما يتم النظر إلى أسلوبه “المتحفظ بفضول والمنفصل” كما في فيلمه دكتور سترينجلوف: أو كيف تعلمت أن أتوقف عن القلق وأحب القنبلة (1964). يجيب كوبريك:

أنك لاتتوقف عن القلق بشأن مصير الرجل لأنك تدرك بشكلٍ أساسي سخافته وهشاشته وذرائعه. بالنسبة لي الفجور الوحيد الحقيقي هو الذي يُعرض المخلوقات للخطر؛ وأن الشر الوحيد المطلق، هو الذي يهدد بالإبادة. بإحساس عميق، أعتقد بإمكانية الرجل وقدرته على التقدم. في فيلم سترينجلوف، كنت أتعامل مع لا عقلانية متأصلة في رجل كان يهدد بتدمير نفسه؛ هذه اللاعقلانية هي معنا بقوة اليوم، ويجب أن يتم غزوها. لكن الاعتراف بالجنون لايقتضي الاحتفال به -ولا إحساس باليأس ولاجدوى من إمكانية معالجة ذلك. [10]

العديد من أفلام كوبريك، شأنها في ذلك شأن العديد من كتابات نيتشه، تحاول أن تبين لنا أن اعتمادنا على سلطة واتفاقيات “الجماعة” ليست فقط هشة لكنها تعمي أيضًا على مخاطر العدمية السلبية. إن عقلنا الضخم (ما أطلق عليه نيتشه “عقلية القطيع” أو “أخلاقيات العبد”) غالبا ما يخلق الوهم بالأمن والثبات حيث لايوجد أي شيء من ذلك في الواقع -على الأقل ليس بشكل ثابت، وأقل ديمومة بكثير، أساسًا. إن المؤسسات والاتفاقيات والتقاليد توفر إحساسًا خاطئًا بالثبات أو الركود. وهي تقنعنا أحيانا بتأجيل (بعواقب وخيمة أحيانا) الحاجة الحتمية لإدراك إمكاناتنا الشخصية في مواجهة الحالات الطارئة التي تشكل حياتنا اليومية. [11]

لقد أظهر كوبريك جليا هذه المخاوف منذ بداية حياته المهنية، أولا وقبل كل شيْ من خلال اختياراته لمشاريعه الفنية. العناوين والحبكات الدرامية والأمزجة لتجاربه السينمائية الثلاثة الأولى- خوف ورغبة (1953)، قبلة قاتل (1955)، القتل (1956) – أعطت هذه الأفلام انطباعًا عن اكتشافاته اللاحقة للجانب المظلم من الطبيعة البشرية. في لوليتا (1962) المقتبس من فلاديمير نابوكوف عن روايته ذاتها، كان موضوع اللقاء النفسي للفرد مع شخصيته أو شخصيتها الفوضوية والطبيعة الغريزية جليًا من خلال صورة التفكك الأخلاقي لدى همبرت همبرت (لعب دوره في الفيلم الممثل جيمس مايسون). خيوط واضحة للعدمية محبوكة على طول فيلم كوبريك  دكتور سترينجلوف. في هذه الكوميديا السوداء البارعة، المستندة على كتاب بيتر جورج ” تحذير أحمر”، نشهد انهيارًا للقيم المؤسساتية وتنامي التدمير بيننا ككائنات بشرية إذ يلوح شبح الدمار الذاتي المروع في الأفق القاتم. والرؤية الكونية المتمثلة في النجم الطفل في نهاية فيلم كوبريك 2001 يستدعي ضعفنا الطفولي في مواجهة كون لامتناهي ولامبالي، من دون وجود نمط جلي يتم تقديمه معيارًا للوضوح. كتلة العمل الضخمة غامضة وباردة ومشهد “بوابة النجم” يبدو أكثر تشكيلًا من مجرد إنارته. إن إيمان الإنسانية بالعقلانية أسفر عن وجود تكنولوجيا عدوانية وتخريبية – تمثلت بهال، نظام تحكم المركبة الفضائية المتعمد بعدوانيته. كما قال كوبريك بنفسه ذات مرة: “إذا جلس رجل ذات مرة وقام بالتفكير حول نهايته الوشيكة، وتفاهته المرعبة ووحدته في الكون، فإنه بكل تأكيد سيصاب بالجنون أو يستسلم لشعور مخدر من العبث. لماذا، ربما سيسأل نفسه ذلك، هل سيكلف نفسه عناء كتابة سيمفونية رائعة، أو يكافح من أجل كسب العيش، أو حتى حب شخص آخر، عندما لا يكون أكثر من مجرد ميكروب لحظي في ذرة غبار تدور حول مساحة ضخمة غير معقولة؟”. [12] مع ذلك، للإجابة على هذا السؤال، فإن هيكل العمل لدى كوبريك يخلق رسالة لاتختلف عن تلك التي صاغها نيتشه قبل قرن من الزمن.

إن القوى التي تقزم وتحبط الفرد في أفلام كوبريك هي عادة قوى المجتمع الجَمَاعِيَّة –أو القوى السلبية للباطل ذاته (كما في فيلم 2001). الوجود اللامبالي للمؤسسة واضح في أفلام كوبريك وضمني في أفلام أخرى. إذ يظهر ذلك الوجود بشكلٍ مباشر في البيروقراطية الحكومية والعسكرية كما في فيلم  دكتورسترينجلوف(مجسدًا في غرفة الحرب الواسعة)، في وكالة الفضاء السرية كما في فيلم 2001، وأيضًا في نظام السجن في البرتقالة الألية (1971). وواضح أيضًا في الهيكلية العسكرية في فيلم سترة معدنية كاملة (1987) وفيلم طرق المجد (1957) وكذلك في الأرستقراطيات المنحلّة في فيلم سبارتاكوس (1960) وفيلم باري ليندون (1975). في معظم أفلام كوبريك، يتم تضخيم القوى المنهكة نفسيًا والمكبوتة روحيًا وذلك بسبب الكشف النهائي اللاعقلانية في قلب هذه القوى. في حالات قليلة، يتم إطلاق القوى التدميرية للمنظمة أو المؤسسة وذلك بسبب عدم عقلانية فرد واحد، على الرغم من أن عدم استقرار الفرد ممكن أن يكون ناتجًا من الظروف القمعية واللاإنسانية التي تسببت بها الجماعة ذاتها. على سبيل المثال، يشكل جنون العظمة المسعور لدى الجنرال ريبر(لعب دوره الممثل ستيرلنغ هايدن) السبب المباشر للفوضى التي تندلع في عالم الحرب الباردة في فيلم سترينجلوف، في ذات الوقت، يقترح كوبريك في الفيلم بأن البيروقراطية والانضباط في الحياة العسكرية ضمن ثقافة الحرب الباردة المناوئة هي التي دفعت ريبر إلى هاجس التدمير الذاتي، شبه الديني مع المثل الأعلى للأعزب “نقاء”، وهو مثل أعلى يؤدي فقط للجنون. إن التأثيرات الأخلاقية والنفسية السلبـيتين للعسكرية الملقنة والبيروقراطية المعتادة تظهر بوضوح في فيلمي “طرق المجد” و “سترة معدنية كاملة“.

إذا جلس رجل ذات مرة وقام بالتفكير حول نهايته الوشيكة، وتفاهته المرعبة ووحدته في الكون، فإنه بكل تأكيد سيصاب بالجنون أو يستسلم لشعور مخدر من العبث.

ستانلي كوبريك:

بالنسبة للعدمية السلبية الحقيقية، لاشيء يهم ولا حتى الذات. إن الفوارق الشديدة بين الحقيقة والوهم، بين الحقيقة والمظهر، تفقد قيمتها ومعناها. في فيلم اللمعان (1980)، نحن لسنا متاكدين للحظة فيما لو كنا نتعامل مع وقائع حالية شيطانية أو مع هلوسة خاصة لشخص مدفوع إلى الهاوية (كذلك أيضًا في عودته للشرب) بفعل دواخله المسكونة. كذلك كما في سؤال آليس هارفورد (نيكول كيدمان) عندما تسرد خيالاتها الجنسية في عيون مغلقة على اتساعها (1999)، نحن مضطرون للتساؤل عما إذا كان التمييز بين الواقع الموضوعي والخيال الخاص أمرًا مهما في بعض الحالات. في فيلم كوبريك الأخير، فإن الهدوء السطحي لزواجٍ مضطرب قد تم إفساده مع ذلك (بعلاقة عاطفية أو بدونها)، وفي حالة فيلم كوبريك الملحمي المرعب، فإن جاك تورنس (جاك نيكولسون) كان قد بدأ فعليا بالانحدار بسرعة باتجاه الإرهاب والعنف الذي ينتظر زوجته وابنه (بوجود أشباح أو بدونهم).

العدمية ذات الصنف المرضي تولد العزلة والقلق. الشخصيات الكوبريكية المختلفة تجسد هذا النوع من النفور والارتباك. هنالك شخصية تورانس من فيلم اللمعان، الزوج المفكك والقائم بشؤون الفندق والذي تستخدم طاقاته الإبداعية الخانقة بواسطة قوى روحية قاتلة لامبالية بينما تقبع عائلته في ثلوج منطقة نائية من جبال الروكي. هنالك شخصية ماندريك قائد المجموعة البريطانية (لعب دوره بيتـر سيلرز) في فيلم دكتورسترينجلوف، الذي سيتوجب عليه التصدي لوحده لجنون الجنرال ريبـر أثناء محاولته لفك شفرة رمز المرور السرية والتي من شأنها إنقاذ البشرية من الدمار النووي. رواد الفضاء بومان (كيير دوليا) وبوول (غاري لوكوود) في فيلم 2001 هم سجناء الفضاء والعزلة، والذي سيتوجب عليهم التعامل مع جهاز كومبيوتر غير أخلاقي والذي سيتحكم بمصير تلك الرحلة الفضائية حيث سيصبح هذين الرجلين أكثر بقليل من مجرد بيادق مستهلكة. هنالك أليكس (مالكوم ماكداويل) في فيلم البرتقالة الألية، الذي يتركه برنامج التأهيل ضعيف وعاجز في مجتمع انتقامي. في بداية مسيرته، قدم لنا كوبريك في فيلم طرق المجد الكولونيل داكس (كيرك دوغلاس)، والذي يجد نفسه في حملة صليبية عقيمة في دفاعه عن ثلاثة من جنوده ضد الطغيان غير الأخلاقي المتمثل لرؤسائه في الجيش. لقد فقد داكس القناعة في العرض الأخلاقي للمؤسسة التي كرس حياته من أجلها. لاحقًا في مسيرته المهنية، قدم لنا كوبريك شخصية الجندي جوكر (ماثيو مودين) في فيلم  سترة معدنية كاملة، والذي بدا إحساسه بالإنسانية يصبح عنيفًا تدريجيًا بفعل المؤسسة العسكرية والحرب، حيث إجراءات القتل المنضبط تمثل رمز”الأخلاقية” الوحيد. وهنالك أيضًا شخصية بيل هارفورد (توم كروز) في فيلم عيون مغلقة على اتساعها، حيث تنهار ثقته بزواجه الذي يبدو سعيدًا بشكلٍ مفاجئ حيث يقذف به إلى عالم بلا قلب قائم على الشهوة اللاعقلانية بدلًا من الالتزام العقلاني.

إن العدمية السلبية يمكن أن تُنْتِجْ من حالات يصبح فيها البشر موضوعين ومجمعين، وبهذه تنتزع منهم إنسانيتهم بفعل قوى خارجية –إذ عادة ما تنطوي على فقدان للكرامة، النزاهة، والاستقلال العقلاني. صور لفقدان الإنسانية يستحضرها عادة كوبريك عن طريق الكاريكاتورية الصارخة أو الرموز التي تدعو للضحك والرعب معًا. نتذكر الصراع الداخلي ضمنيًا في فيلم دكتور سترينجلوف (بيترسيلرز) بين ذاته الإنساني والآلي (حيث أن الأخيرة هي الغالبة في نهاية المطاف) أو الاعتماد شبه التام للإنسان على الآلة في 2001. هنالك صورة لانتزاع الإنسانية في مشاهدة الفيلم القصرية لأليكس (مالكوم ماكدويل) في فيلم البرتقالة الألية كجزء من عملية أعادة التأهيل السادية (“علاج لودفيكو”) والتي اختار (بشكل ساخر) القيام بها. الشخصية المرموقة  لباري ليندون (رايان أونيل) تصبح أكثر بقليل ظَلاًّ لشخصيته السابقة بعد زواجه الأرستقراطي وسقوطه في حالة أشبه بالشلل من الفجور والانحطاط. وهنالك أيضًا تصغير للفرد إلى متنكر ومن ثم إلى متلصص مجهول في فيلم كوبريك الأخير عيون مغلقة على اتساعها. لعل أكثر أشكال التطرف في اللاإنسانية في الأدب والأفلام هي في الشيطانية، إذ يبرز هذا الموضوع بشكلٍ أكثر دقة في الملحمة المرعبة وكاملة الأركان لكوبريك  اللمعان. أن انحطاط تورنس لا ينشأ فقط بسبب الاستحواذ الصريح على الجسد بفعل روح شريرة. عوضًا عن ذلك، فإن كوبريك يصور عملية “شيطانية” يتم تنفيذها عن طريق عزلة وإحباط، إعاقة إبداعية ومدمن كحولي منسحب، ذنب وعدم أمان.

بعض النقاد أَسَاءُوا الظن بكوبريك، على الرغم من أشادتهم بحرفنته التقنية، بسبب ميله المتكرر لإظهار شعور عام من تغريب فقدان الإحساس. أفلامه (كعادة الكثير من شخصياته) تميل إلى الاقتراب ببرود، غير متعاطفة، ومجردة من الدفء البشري. باولين كايل كانت شديدة في هجومها على افتقاد كوبريك الواضح لاهتمامه العاطفي بشخصياته وعن ميله الظاهر لإعطاء أولويات لاعتبارات البراعة التقنية على حساب أولويات القصة وتطوير الشخصية. [13] هذا النوع من النقد كان واضحًا بشكل جلي في العديد من الردود على فيلمه الأخير عيون مغلقة على اتساعها. [14] لكن في انتقاد أسلوب “التَنفير” لديه في صناعة الأفلام. فإن كايل والآخرين من النقاد تجاهلوا تلك الطرق في أسلوب كوبريك الاخراجي الفريد التي يعكس من خلال أسلوبه موضوعاته الأساسية في اللاإنسانية، التـنـفير، والطبيعة غير الشخصية للمؤسسات. وهذه بالتحديد الموضوعات التي تشير إلى رسائله الضمنية بشأن مشكلة العدمية في عصرنا الحديث.

هانيكي:

سيكون من السهل للغاية، من خلال مسح سريع للغاية لأفلام مايكل هانيكي، تصنيفه كعدمي صريح، وذلك بسبب اختياراته للمواضيع الخاصة بأفلامه، ناهيك على ذلك رغبته في تقويض ثـقة الجمهور والمنطق التقليدي بطريقة سرد الحقيقة المراد قولها. لكنه مثل كوبريك بشكل كبير، وذلك في أن هانيكي في نهاية اليوم هو معاد للعدمية. أفلامه تكشف عن مشكلة العدمية في المجتمع الحديث وتبحث في نقطة أبعد من المشكلة. أنه يجعلنا نعترف بالحقيقة البشعة للواقع وعواقب فقدان الحس بشكل نهائي، الانفصال عن الواقع، وعدم المبالاة. كما قال هانيكي مرة في مقابلة:

أعتقد أنه لايمكن إنكار أن كل قصة خيالية، بغض النظر عن خوائها أو مدى فضاعتها، هي تافهة بالمقارنة بالرعب الذي يضربنا في الواقع. ولغرض رؤية ذلك، فإن على المرء أن لايكون متشائمًا –إنها تفي بالغرض إذا كان أحدهم متيقظًا قليلًا. ماهو إيجابي يمكن أن يكون فقط المطلب غير الرحيم للمصداقية الشخصية. كما قال نيتـشه مسبقًا في القرن الماضي: “بالنسبة للفيلسوف من البائس القول أن الجيد والجميل هما ذات الشيء. واذا استمر بالقول “كذلك الأمر ذاته بالنسبة للحقيقة !”، فإن على أحدهم أن يقوم بضربه بشدة. إن الحقيقة قبيحة.[15]

إذا كان هنالك شيء واحد يميز كوبريك وهانيكي بصدقية شديدة، فيمكنني القول، أن كوبريك في الحقيقة يميل أحيانا باتجاه نوع مبالغ من السريالية، التهكم والكوميديا السوداء (خصوصًا في أفلام مثل لوليتا، سترينجلوف، البرتقالة الألية واللمعان). هانيكي، على الجانب الآخر، يمتنع عن أبراز هذا النوع من المبالغة في معظم الحالات. ومع ذلك، شأنه شأن كوبريك في العديد من الحالات، فإن هانيكي يثير شكلًا عدميًا من القلق وحتى من الرعب: إن فزعنا، ليس بسبب موضوع محدد أو تهديد، لكن من الإحساس الشديد باللامعنى واللامبالاة التي على مايبدو تتخلل حياتنا في لحظات معينة. كما أنه يتناول موضوع العنف في معظم أفلامه الرئيسية ويفعل ذلك بطريقة تكشف عن سبب العنف باعتباره لامبالاة عدمية وقمع ذاتي. العنف في أفلامه يتم تقديمه في أوقات من خلال فلتر وسائل الإعلام (كمثال على ذلك أخبار التلفزيون) بحيث تصبح تقليدية وتافهة. وفي أحيان أخرى، فإن العنف يتم تصويره من خلال الصدمة والمفاجأة المباغتة لطلق ناري في أمسية هادئة.

أعتقد أنه لايمكن إنكار أن كل قصة خيالية، بغض النظر عن خوائها أو مدى فضاعتها، هي تافهة بالمقارنة بالرعب الذي يضربنا في الواقع.  

مايكل هانيكي:

في فيلم هانيكي القارة السابعة (1989) –أحد أفلامه الأولى والتي يطلق عليها “ثلاثية الجليد” (تضم الثلاثية أيضًا فيلمي فيديو بيني و71 جزء للتسلسل الزمني للفرصة)– عن عائلة انقادتْ إلى عمل مرعب لتدمير الذات بعد الاستسلام الواضح للآثار المميتة للروتين المبالغ فيه والوجود التقليدي. إنهم ضعفاء جدًا وغير مكترثين في صياغة نوع جديد من الحياة أو مجموعة من القيم، وعليه فإن “التمرد” الوحيد الذي تجرُّؤن على القيام به تمثل في الإنكار الشامل للحياة. حتى في طريقة تحضير الإباء لعملية الانتحار الجماعي تصبح هذه الطريقة منهجية، آلية ومحايدة -في قيمتها على عكس ما كانت تبدو عليها حياتهم السابقة. وفي فيلم  مُدَرَّسة البيانو(2001)، الشخصية الرئيسية في الفيلم (إيزابيل هوبير) تقوم بارتكاب أعمال السادية النفسية والتشويه الذاتي للجسد بعد أن عاشت حياة من الهوس ونكران الذات الشديد.

العنف في أفلام هانيكي مرعب للغاية، ليس فقط عندما يكون غير متوقع وبصفة غير رسمية، لكن حينما تكشف أفلامه أن العقل البشري قد تم رفضه بالكامل -عندما تكون محاولة التعقل أو التفاوض ذاتها قد حثت على الكراهية، الازدراء، لينتهي بالدمار في نهاية المطاف. ومثال على ذلك هو في فيلم  زمن الذئب (2003)، عندما قامت عائلة من الغرباء الجائعين والعدوانيين باقتحام منزل عائلة ريفية بعد حدوث أمر مروع غير مبرر. يتمكن الأب الضحية (دانييل دوفال) من إقناع زميله حامل البندقية في السماح لطفليه من العودة إلى سيارة العائلة. عندما يقترح بعد ذلك وبهدوء أن يقوم الطفلين بإفراغ السيارة ويأكلوا، يتم إطلاق النار عليه لقتيه وزوجته (إيزابيل هوبير)، في حالة من الصدمة، تستجيب فقط وذلك بمسح بقع الدم من على وجهها. حتى أن زوجة القاتل تنهار أرضا في نوبة من الصدمة من عدم التصديق من أن زوجها أقدم بالضغط على الزناد وقتل رجلٍ أمام مرآى طفلهم. هل فعل ذلك بمحض الصدفة، هل هي الضغطة الخاطئة لإصبعه على الزناد؟ لا يبدو الأمر كذلك. هل كان في غاية من الحرج من رؤية زوجته وأطفاله وقد تم تصغيرهم ليبدون كزبالين أمام أعين أصحاب المنزل، رؤسائه الواضحين في المكانة الاقتصادية والاجتماعية، وعليه لم يكن بوسعه تحمل الإهانة أكثر من ذلك؟ أم كان ذلك فعل غير عقلاني بشكل مطلق؟ بما أن هانيكي لايقدم لنا أي دليل آخر حول دوافع القتل، الآن يمكننا فقط أن نظن أن ذلك كان من اقتراح مقدم من الآب المقتول، محاولة للتفاوض المنطقي والمزيد من المحادثات (حتى لو كان ذلك في مواجهة فوهة بندقية)، هي التي حدت بذلك الرجل في إطلاق النار بشكل غير متوقع. مثل هكذا عمل أرهابي عدمي يعد إهانة لكل مفاهيم العقلانية والإنسانية. وفي فيلم  ألعاب مضحكة(1997، والذي أُعيد إنتاجه بنسخة أميركية في (2007)، عندما يسأل الأب (أولريخ موهي) اثنين من الشباب المخربين (آرنو فريش وفرانك غيرينغ) “لماذا تقومون بفعل ذلك؟”، يأتي الجواب شديد البرود: “لم لا؟” وعندما يقوم لاحقًا بطرح السؤال ذاته، يكون الجواب هو سلسلة من الأكاذيب الواضحة حول أمنيات أم السفاح الآخر بزنى المحارم وعن رغبتهم الحصول على المال من أجل المخدرات. أنهم يبرزون هذه الأكاذيب الاعتباطية بشكل جلي حيث يتم تقديمها بهدف المتعة في أحسن الحالات. إن الألعاب المضحكة التي يتم تقديمها في هذا الفيلم هي أكثر رعبًا عندما تتعرض اللامبالاة العدمية ذاتها للسخرية، كما يحدث عندما يقوم أحد السفاحين بإخبار الشابين أن شريكه في الجريمة يعاني من”إرهاق العالم والملل”.

وهكذا كانت العدمية تنشأ باستمرار في أفلام هانيكي عندما يتم رفض أي اعتبار للعقل والحقيقة بشكل كامل –عندما يكون الفشل التام في الانخراط في التواصل العقلاني متسببًا بفقدان الإحساس بالعاطفة، الكراهية، الاحتقار الذاتي، أو حتى العنف. هكذا رفض للتواصل يتم توضيحه في نوعية الصراعات غير القابلة للحل بين الثقافات والأجيال وهو الموضوع الرئيس لفيلم  رمز غير معروف(2000)، الذي يدل عنوانه أساسا على فقدان الثقة أو التفاهم المتبادلين. وفي فيلم مخفي(2005)، فإن التنازل عن الحوار الجاد يتجلى في المواجهة بين جورج (دانيال أوتيل) وماجد (موريس بينيشوو)، وبالتحديد في المواجهة الأخيرة. لقد تم التخلي –بسخرية لفرصة صادقة لاسترداد الحوار فيما بينهم، بالنظر إلى أن مهنة جورج هي مقدم برامج حوارية. لقد أدت أفعالهم الفاشلة في إدامة حوار متبادل فيما بينهم إلى سلسلة من الاتهامات، التهديدات والنكران، كلها أوجدت على أسس من الأكاذيب والتصورات الخاطئة. إن الفعل الوحيد “الإغلاق” الذي يراه ماجد مناسبًا لإنهاء “العلاقة” المتجددة هو عمل لامعنى له من تدمير الذات –إنه القفز باتجاه الهاوية. في حالة فيلم مخفي، فإن القرار لمنع أو تشويه الحقيقة يتم تحفيزه بدافع الرغبة في الحفاظ على الوضع الراهن الخادع لحياة مريحة، حتى عندما تشير الحياة على أن الأمور لا تسير بسلاسة كما تبدو. حديث جورج مع والدته (آني جيراردو) بجانب السرير هو توضيح مناسب لهكذا محاولة لإضفاء بريق على الحقيقة.

فيلمي هانيكي الحديثين يختلفان بفضول عن بعضهما البعض وذلك أن فيلم الشريط الأبيض (2009) يركز على الإحساس الجمعي للعدمية القـلقة واليائسة بينما في فيلم حب (2012) يركز على أمور أبعد ما تكون شخصية وخاصة لكنها تصب في ذات الإحساس أعلاه. في النهاية، ومع ذلك، فإن كلا الفيلمين يؤشران أكثر من أفلامه السابقة، على أن رؤية هانيكي المظلمة مدفوعة باهتمام إنساني كبير في احتمالية تجاوز القوى السلبية في حياتنا. الفيلم السابق الشريط الأبيض مصور بروعة الأبيض والأسود البيرغمانـيسك (إشارة الى أسلوب انغمار بيرغمان الإخراجي)، واصفًا قرية ريفية شمال ألمانيا في حدود العام 1913، وهي قرية أصبحت تعاني من سلسلة من الأحداث الشريرة والغامضة والتي تشير بشكل كبير إلى المكائد الشيطانية لأطفال القرية. قصة الفيلم لا تدور حول شخصية واحدة لوقت طويل لكن تتحول من حياة وحالة إلى أخرى، إذ تجذب الجمهور إلى دوامة طائفية من العنف الهادىء وطقوس الاعتداء النفسي. يمكننا أن نتوقع، بالنظر إلى زمن وأطار قصة الفيلم، أن هانيكي يقدم لنا هنا الأرواح المكبوتة بشدة لأولئك الشباب الذين سيكبرون ليكونوا أعضاءً في الجيل المستقبلي للنازية. نوايا الشيطان في القرية تظهر بهيئة أفعال إنتقامية لأولائك الذين تلوثت أرواحهم اليافعة بفعل الانحرافات المادية وكذلك الروحية للكبار.

فيلم حب، من ناحية أخرى، يأخذنا إلى حالة من خوف غير مبرر للحياة الخاصة لشخصيات الفيلم الرئيسية، جورج (جان لوي ترينتينيان) وآن (إيمانويل ريفا)، ولايدعو إلا عددًا قليلًا من الشخصيات إلى ظروف حياتهم المؤلمة. عندما تنزلق آن إلى حالة متقطعة من الخرف ومن ثم إلى سكتة دماغية، يضطر جورج إلى مواجهة التحديات الهائلة للعناية بها. ابنتهم آيفا (إيزابيل هوبير)، تتقبل الأمر عبر زيارات سريعة للغاية، تثبت من خلالها عدم أهليتها لتقديم أي مساعدة على الإطلاق، وحتى إحدى الممرضات المؤقتات اللاتي يعملن نهارًا أثبتت كم أنها كانت غير جديرة بالثقة وحتى سادية. يظهر لنا في لقطات صورية –وبوتيرة مونتاجية بطيئة، متأنية مؤرقة –التحديات والرعب الانعزالي لوجودهم اليومي. معظم وقت الفيلم يدور في شقة الزوجين ولا يتم التلميح إلى العالم الخارجي إلا من خلال النوافذ والداخل الخارجية.

ومع ذلك هنالك أمل وإنسانية كامنة خلف الظلام. في حالة فيلم الشريط الأبيض، يمكننا رؤية المسار البشع الذي يستدعي المُشاهد من حالة الضياع الفوري الناجم من القمع والعنف في القرية إلى العواقب الخيالية التي تنتظرنا في المستقبل: شر إبادة جماعية للأمة. لكن النهاية الحقيقية للفيلم لا تكمن فقط في لقطة تجمع الكنيسة الصغيرة في اللقطة الختامية ولكن تكمن في الدروس التي سيتعلمها المشاهدون من الأحداث التاريخية البشعة التي تنتظر العديد من شخصيات الفيلم. إذا كان هنالك شي، فإن هانيكي يعطينا تشخيصًا (في صورة مصغرة) على الأقل لبعض الحالات المهمة لذلك المرض الحضاري والذي يولد الوحوش. كما في معظم أفلام هانيكي، هنالك محاولة جادة هنا لسرد الحقيقة ومن ثم في إِظهارنا وسيلة لتجاوز الرعب. وبهذا المعنى، فإن عمل هكذا فيلم حول أعراض ومسببات العدمية هو بطبيعته ضد العدمية، وخصوصًا عندما يتم تصويره في السياق التاريخي الواسع الذي يظهر لنا بالفعل الرابط بين العدمية السلبية والشر الذي يطفىء الحياة.

فيلم حب يقدم لنا القرار الذي يبدو، من على السطح، بأنه عدمي شأنه في ذلك شأن أعمال هانيكي الأولى: تمثل ذلك في اختيار جورج إنهاء حياة حبيبته آن، على طول حياتها، معاناتها غير المحتملة وحالتها المثيرة للشفقة. في السياق العام للفيلم، ومع ذلك، يتم النظر إلى هذا الخيار في كونه إنساني للغاية، خصوصًا وبالنظر إلى كل ماعانينا منه حتى هذه اللحظة. يقوم الفيلم بتوجيهنا صوب العاطفة تجاه قبول جورج لفكرة القتل الرحيم كأفضل حل ممكن. بينما يقوم هانيكي عمدًا إلى استخدام الغموض الأخلاقي في العديد من أفلامه الروائية، وإنه في أغلب الحالات ليس أكثر من غموض سطحي. تمامًا كما هو واضح للغاية في نهاية فيلم الشريط الأبيض في تحميل الأطفال مسؤولية الش تماشيًا مع المعاملة الوحشية من بعض البالغين في القرية –الحال ذاته ينطبق بوضوح في نهاية فيلم حب، وذلك في أن حب جورج العميق لزوجته جعله غير قادر على احتمال الاستمرار في مشاهدتها تتلاشى بألم إلى مجرد شكل من ما كانت تبدو عليه سابقًا. إن الأمر أبعد ما يكون من مجرد أنانية أو حتى قرار عدمي، خصوصًا وبالنظر إلى كل ما شاهدناه لغاية هذه اللحظة من تفانيه المتسم بنكران الذات. إذا كانت فكرة نيتشه حول العدمية السلبية قد أنشأت حول الرفض الصريح للقيمة الشاملة للحياة ذاتها، فإن الاستنتاج الذي نخرج منه في فيلم حب هو، كمفارقة، رفض مخلص لهذا السلوك. إن تأكيد الحياة يذهب إلى أبعد من مجرد إطالة الوجود البايولوجي غير المحتمل. إذا كان هنالك مساحة للإدانة الأخلاقية في النهاية، فستكون في إدانة ابنة جورج القاسية المشاعر، المُمْتَصّة ذاتيًا والتي، في أخر لقطة من الفيلم، تدخل إلى شقتهم الفارغة للنظر إلى الشفق المروع لحياة كانت بالكاد تعرفها.

مصدر الترجمة 
References
[1] Friedrich Nietzsche, The Will to Power, transl. Walter Kaufmann (New York: Vintage, 1968), I9.
[2] Ibid., “Book Three: Principles of a New Evaluation,” 585 A, 318.
[3] Ibid., “Book One: European Nihilism,” “Toward an Outline”, 7.
[4] Ibid., “Preface,” 3.
[5] Ibid., 3.
[6] Ibid., “Book One: European Nihilism,” 9.
[7] In Section 28 of Book One of The Will to Power, a similar distinction is made between “complete” and “incomplete” nihilism.
[8] Ibid., “Book One: European Nihilism,” 22, 17.
[9] Ibid., “Book Three: Principles of a New Evaluation,” 585 B, 319.
[10] “The Playboy Interview: Stanley Kubrick,” Playboy magazine, Vol. 15, No. 9, September 1968, 190.
[11] Thomas Allen Nelson, in the first chapter of his Kubrick: Inside a Film Artist’s Maze, makes a similar case that Kubrick’s films express an “aesthetics of contingency,” as he puts it.Nelson states:“Films … present us with a totally contingent universe, where images and sounds mean both nothing and everything, where worlds are erected on the epistemologically shifting sands of total probability and zero signification.And this cinema of contingency found no fuller expression in the second half of the twentieth century than in the films of Stanley Kubrick.”(Bloomington & Indianapolis: Indiana University Press, 2000, 15).
[12] Quoted by Thomas Allen Nelson in his Kubrick: Inside A Film Artist’s Maze, 17.
[13] Pauline Kael, For Keeps (Dutton/ The Penguin Group: New York, 1994), 223.See also pages 416-417.
[14] See especially Lee Siegel, “Eyes Wide Shut: What the critics failed to see in Kubrick’s last film,” Harper’s Magazine, Vol. 299, No. 1793, October 1999.
[15] This is my own translation of the following excerpt from Franz Grabner and Michael Haneke, “‘Der Name der Erbsünde ist Verdrängung’: A Conversation with Michael Haneke,” in Michael Haneke und seine Filme: Eine Pathologie der Konsumgesellschaft (Marburg: Schüren Verlag, 2008): “Und ich denke, dem ist kaum zu widersprechen, denn jede erfundene Geschichte, sei sie noch so abgründig und grauenvoll, ist eine Lächerlichkeit gegen das Grauen, das uns aus und in der Realität entgegenschlägt. Um das zu sehen, braucht man kein Pessimist zu sein – es genügt schon, wenn man einigermassen wach ist (11) … [D]ieses ‘Positive’ kann nur die unbarmherzige Einforderung persönlicher Wahrhaftigkeit sein.Nur: Die Wahrheit ist eben nicht mehr schön.Wie sagte Nietzsche schon im letzten Jahrhundert: ‘An einem Philosophen ist es eine Nichtswürdigkeit, zu sagen, das Gute und das Schöne sind Eins.Fügt er gar noch hinzu: und das Wahre!, so soll man ihn prügeln.Die Wahrheit ist hässlich.” (12-13)

كيفن لستوير أستاذ مساعد في العلوم الإنسانية بجامعة بوسطن. يتمتع بخبرة في الأخلاقيات والسينما والفلسفة، وهو مؤلف كتاب “العدمية في السينما والتلفزيون”، ومؤلف مساعد في كتاب” اركب، اركب بجرآة: تطور الغرب الأمريكي”.

 

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: رنا داود

ترجمة: أحمد حكمت

اترك تعليقا